السلام عليكم


الدراسات الاستشراقية للقرآن الكريم
من جهود الدراسات الاستشراقية للنص القرآني
( مدرسة نولدكه )


فضيلة الدكتور: عباس أرحيلة – حفظه الله-

تمهيد:

لفظ الاستشراق له إطلاقان : الأول يُراد به البحث في تراث الشرق عامة، والثاني يُطلق على البحث في تراث الإسلام بشكل خاص. وعادة ما يراد بالاستشراق الدراسات الغربية المتعلقة بالشرق الإسلامي. والاستشراق ظاهرة ارتبطت بالعلاقات التاريخية الحضارية بين الشرق والغرب منذ كان الصدام بينهما إثر الفتوحات الإسلامية. فحينما انتشر الإسلام بسرعة أحس العالم المسيحي بالخطر، وحين فشلت الحروب الصليبية؛ ازداد الخوف من التيار الإسلامي؛ فبدأ التفكير في وقف ذلك التيار، والشروع في محاولات تشويه الإسلام والتشكيك فيه بتقديم صورة كريهة عنه، والبدء في عمليات التنصير. ومن هنا ارتبط الاستشراق في بداية تكوُّنه بالكنيسة ، وبالحركة الصليبية عموماً، واعتبر المستشرقون الأوائل عملَهم نوعاً من الكفاح ضداً على العروبة والإسلام، وأصبح المراد بالاستشراق محاربة الإسلام.
وأكد المستشرق الألماني رودي باريت ( Rudi Paret 1901 - 1982) أن الهدف الرئيس من جهود المستشرقين في القرن الثاني عشر الميلادي وفي القرون التالية هو التنصير، وعرَّفه بأنه إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى النصرانية (1).
ومنذ سنة 1412م أخذت حركة الاستشراق طابعها الرسمي بصدور قرار مجمع فيينا الكنسي القاضي بإنشاء كراسي للغة العربية في عدد من الجامعات الأوربية .
وبحلول العصور الحديثة اصطرعت في الدراسات الاستشراقية العوامل الدينية القائمة على التنصير والتبشير بالعوامل الاقتصادية الاستعمارية ، واصطَبغ ذلك كله بالمظاهر السياسية المتأثرة بالبحوث العلمية. وهكذا امتدت ظاهرة الاستشراق وأخذت أبعاداَ وخلفيات، في المعاهد والجامعات الغربية، وهي وإن تأثرت بالدراسات اللاهوتية في مراحلها الأولى؛فإن ضغوط الكنيسة بدأت تتقلص وتحل محلها الإديولوجيات الحديثة ، وبدأت الدراسات الاستشراقية تتأثر بالمعارف المستحدثة . ومن هنا عرف الاستشراق تحولات ومنجزات في حقول المعرفة عامة، وفي حقول المعارف الإسلامية خاصة. و أثبتت الظاهرة الاستشراقية فاعليتها وحضورها المعرفي في أكثر البلدان الأوربية، وأصبح الاستشراق مادة علمية ممثلة بكرسي في كل جامعة.
وكان القرآن محط أنظار المستشرقين عموماً؛ لأنه هو مصدر القوة في حياة المسلمين، وهو منبع الرؤية في حضارة الإسلام. فهو الموجه لحركة الحياة عند المسلمين، ولمناحي التفكير لديهم، وهو الأصل الأول في معرفة حقيقة الإسلام. وهو الذي يُحدد علاقة الإسلام بالديانات السابقة، إذ هيمن على الكتب السابقة، واستصفى مقاصدها في رسالات السماء إلى أهل الأرض. وكما وقف مشركو قريش من القرآن، واعتبروه شعراً مرة، وسحراً أخرى، وكهانة مرة، وأساطير الأولين مرات، وكما رموا صاحب الرسالة بالافتراء والكذب تارة، وبالجنون تارة أخرى ، وبحثوا له عن مصدر في الأرض؛ كانت جهود الاستشراق لا تخرج عن هذه التوجهات والتوجيهات التي استفاد منها كثير من العلمانيين في عالمنا العربي طيلة القرن العشرين، وما يزال بعضهم تشكل لديه منطلقات فكرية و" منهجية " . وباختصار ظل مشركو مكة والمستشرقون، ومن تتبعهم من أهل الإلحاد يعتبرون القرآن من تأليف محمد ( صلى الله عليه وسلم ). والملاحظ أن العداء التاريخي للإسلام ظل مترسبا في العقول ، وأن نيرانه ظلت متقدة إلى اليوم . وسعت جهود الاستشراق في معالجتها لموضوع القرآن أن تطمس مقولة الوحي فيه ، وأن تُثبت بشريته ليتسنى لها أن تُطفئ نوره بين سكان المعمور، ولم يتحقق شيء من ذلك.
وفي هذا التكريم لرجل سكنت لغة القرآن قلبه ؛ فشغف بها وجعلها منتزها لفكره ووجدانه، في تكريم الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال، اخترت أن أتعرض لعناية المدرسة الألمانية بالقرآن لسببين : أولهما : أن البحوث الألمانية تحتل دور القيادة في صيرورة الدراسات الإسلامية في الغرب ؛ إذ حققت جهودهم تأثيراً واسعاً في جل البحوث اللاحقة في الدراسات الاستشراقية ، وعلى امتداد تاريخ الاستشراق المعاصر . وثانيهما لأن تلك البحوث قد أصبحت مرجعاً وعمدة في كل ما يتعلق بشؤون القرآن؛ توثيقاً وتأريخاً ومعرفة بعلومه . ( وبلغني أن الأستاذ أحمد الشرقاوي كان قد ألقى محاضرة سنة 1967 بعنوان : جهود المستشرقين في خدمة التراث الإسلامي ) .
وموضوع كلمتي يتعلق بالمستشرق تيودور نولدكه ( Theodor Noldeke 1836 – 1931) ؛ شيخ المدرسة الألمانية التي عُنيت بالقرآن، وما كان لتلامذته من جهود في مجالات العناية بالقرآن الكريم.

أولا : الاستشراق الألماني وما تميز به عن غيره

بدأت عناية المستشرقين الألمان بحضارة الإسلام منذ أن اتصلت ألمانيا ببلاد الإسلام إثر الحملة الصليبية الثانية في عام 1147م، وخاصة بعد أن بدأ رجال الدين بترجمة الكتب العربية. فعندما تمت أول ترجمة للقرآن بين عامي 1141 – 1143م إلى اللغة اللاتينية، نجد أن هِرمان الدلماشي ( الألماني H.Alemanus ) قد أسهم في هذه الترجمة إلى جانب كل من ( روبرت الرتيني ) وراهب إسباني عربي، وإن لم تُنشر هذه الترجمة لمعاني القرآن إلا بعد أربعة قرون (2).
وقبل القرن الثاني عشر تبادل ( أتو الكبير) إمبراطور ألمانيا مع عبد الرحمن الناصر بالأندلس السفراء، وكان ذلك عام 956م . ويبدو أن الغاية من هذه السفارة هي معرفة اللغة العربية لعلها تساعد على ترجمة التوراة؛ لاشتراك العربية والعبرية في السامية (3).
وبدأت محاولة تدريس العربية مع العالم الألماني يعقوب كريستمان ( 1554 – 1613) ؛ الذي وضع فهرساً موجزاً لبعض المخطوطات العربية، ووضع كرَّاساً لتعليم كتابة الحروف العربية. وترجم أجزاء من الإنجيل إلى العربية للتمرن على القراءة . وقد أعد بنفسه الحروف العربية في قوالب من الخشب للمطبعة التي كان غوتنبورغ قد اكتشفها حديثاً . وفي عام 1585 عُين كريستمان أستاذاً في جامعة هايدلبرجHeidelherg ، واقترح إنشاء كرسي للدراسات العربية بها بغية نقل الفلسفة والطب من مصادرها العربية ... ومات كرستمان دون أن يتحقق مشروعه.
وكان المستشرقون الألمان في مطلع القرن الثامن عشر يقصدون هولندا لتعلم اللغات الشرقية ومن ضمنها العربية، وبعد عودتهم أخرجوا الدراسات من جامعاتهم من نطاق التوراة إلى ميدان الثقافة العامة . وفي مطلع القرن التاسع عشر انتقلوا صوب فرنسا حيث كان دي ساسي Silvestre de Sacy ( 1758 – 1838) أستاذ العربية والفارسية في مدرسة اللغات الشرقية يُدرس بباريس ؛ فتتلمذ له الألمان ، وتأثروا به، ومن أشهرهم : فلايشر (1801 – 1888 ) وإفالد ( 1803 – 1875 ) ، فعُدا من مؤسسي الدراسات العربية في ألمانيا (4).
ويلاحظ أن الاستشراق الألماني وضع نفسه خلال القرن الثامن عشر في خدمة اللاهوت المسيحي.
وكان يوهان جاكوب رايسكه Johann Jakob Reiske ( 1716 – 1774 ) أبرز مستشرق ألماني أسس الدراسات العربية في ألمانيا، وهو أول مستشرق ألماني وقف حياته على دراسة العربية والحضارة الإسلامية، ورأى أن اللغة العربية يمكن أن تُدرس لذاتها، في فترة لم يكن أحدٌ يهتم بالدراسات العربية . وكان له اهتمام واسع بالشعر العربي . وقد اعتبر نفسه شهيد الأدب العربي. وجاء في ترجمة حياته متحدثا عن المخطوطات " ليس عندي أولاد، ولكن أولادي يتامى بدون أب؛ وأعني بهم المخطوطات " (5).
وهو يرى " أن ظهور ( النبي) محمد وانتصار دينه هما من أحداث التاريخ التي لا يستطيع العقل الإنساني إدراك مداها، ويرى في ذلك برهاناً على تدبير قوة إلهية قديرة " (6).
ولعل المستشرق رايسكه أول من واجه علماء اللاهوت ودعا إلى دراسة العربية بصورة مستقلة ، ووقف في وجه ما أشاعه المستشرق الهولاندي أدرينوس غولَندوس المتوفى في عام 1718 من كون اللغة العربية لهجة عبرية ، وتابعه في رأيه هذا المستشرق الهولاندي ألبير شولتنسAlbert Schlntens ( 1686 – 1750 ) .
ومنذ أواسط القرن التاسع عشر، حاول الاستشراق اكتساب صفة " العلمية "، وبدأ يتحلى بالموضوعية، ولو بصورة نسبية، عندما تحول إلى علم قائم على النقد التاريخي ، فلم تعد غايته البرهنة على ضعة العالم العربي الإسلامي؛ وإنما حاول أن يطبق المعيار النقدي على تاريخ الإسلام كما يطبقه على تاريخ فكره الخاص. ولاحظ المستشرق الألماني " رودي باريت " أنه لم تتأتَّ له هذه العلمية " إلا عندما تأكد استعداد الناس للانصراف عن الآراء المسبقة، وعن كل لون من ألوان الانعكاس الذاتي، وللاعتراف لعالَم الشرق بكيانه الخاص الذي تحكمه نظمه الخاصة، وعندما اجتهدوا في نقل صورة موضوعية له ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا " (7) .
وقد تميز الاستشراق الألماني بجمع المخطوطات ونشرها وفهرستها. مع اهتمام خاص بالجانب الفيلولوجي والصوفي والأدبي، وعناية بوضع معاجم في اللغة العربية، ودراسته لجوانب الفكر العربي الإسلامي في القديم خاصة. وكان الانشغال بالنص القرآني مما تميزت به جهود الألماني عن باقي جهود المستشرقين الآخرين. وذكر د. عبد الرحمن بدوي أن أقدم ترجمة ألمانية عن النص العربي مباشرة هي ترجمة دافيد فريدرش ميجرلن، الأستاذ في جامعة فرنكفورت ، وظهرت سنة1772 (8).
وعدد ترجمات معاني القرآن إلى الألمانية تصل إلى حوالي اثنتين وأربعين ترجمة . لعل آخرها ترجمة رودي باريت ( 1966 ) ، وقد اعتبرت أحسن ترجمة للقرآن الكريم .
ويلاحظ أن الاستشراق الألماني تميز بحضور كثير من أعلامه بجامعة القاهرة خاصة : برجتراسرBergstrasser ( 1886 – 1933 ) – إنو ليتمانE Littman ( 1875 – 1958 ) – جوزيف شاختJoseph Schart ( 1902 - 1969). وفي أواخر الثلاثينيات وأوائل الأبعينيات من القرن العشرين كان من الوافدين اليهود على القاهرة الفارين من النازية الألمانية : بول كراوسPaul Kraus ( 1904 – 1944 ) – وماكس مايرهوفMax Meyerhof (1874 – 1945 ) ، وكانت لهما عناية بالفلسفة والعلوم الإسلامية .
وعُين إلى جانب هؤلاء في مجمعي اللغة العربية بالقاهرة ودمشق : كل من هارتمان Hartmann ( 1851 – 1918 )- أوجست فيشرAugust Fisher( 1865 – 1949) – وكارل بروكلمان Carl Brockelmann ( 1868 – 1956 ) – وهلموت ريترHellmut Ritter ( 1892 – 1971 )... وقد تولى المستشرق الألماني فيلهيلم شبتاW.Spitta ( 1853 – 1883 ) سنة 1875 إدارة دار الكتب المصرية ، وفهرس مخطوطاتها في نحو أربعين صفحة .
وقد لاحظ بعض المتتبعين لحركة الاستشراق الألماني أنه تميز يما يأتي :
1 – حياد نسبي عن الغايات السياسية أو الاستعمارية أو الدينية. فهو في عمومه لا ينطلق من خلفيات إديولوجية استعمارية. فألمانيا لم تكن لها مستعمرات في البلدان العربية أو الإسلامية. كما أنها لم تُعنَ بنشر المسيحية، أو بالأحرى لم يترك الفرنسيون والإنجليز للألمان حرية العمل في هذا الحقل . ومع هذا، يصعب وصف الجهود الألمانية بالحياد المطلق، والموضوعية النزيهة. فهذا المستشرق الألماني رودي بارت المتوفى سنة 1982، يؤكد بموضوعية أنه " من التعسف أن يظن المرء أن في إمكانه أن يُعالج جهود الألمان على أنها مطلقة، وأن يَفصلها عن ارتباطها بالأوشاج والأربطة العالمية " (9).
فهذا المستشرق الأماني بيكر ( كارل هينريخ Bekker Karl Heinrch: 1867 – 1933 ) ، مؤسس مجلة إسلام ، قام بدراسات تخدم الأهداف الاستعمارية الألمانية في إفريقية ، وقد ذكر نجيب العقيقي أنه قد استُعين به في وزاراة الخارجية (1916) ، واختير وزيراً لها (10) .
2 – روحه المسالمة الخالية من العدائية للعنصر العربي، وغلبة الروح العلمية التي تبتعد عن الأغراض، وتتقصى الحقائق بتجرد وموضوعية؛ حيث إن المستشرقين الألمان لم يتعمدوا تشويه الحضارة الإسلامية العربية، بل كثيراً ما نجدهم يُقدرون التراث الإسلامي العربي، ويُبدون إعجابَهم به.
3 – اهتمامه بالقديم والتركيز على دراسة التراث الإسلامي العربي وتاريخ الحضارة الإسلامية. وإذا كان الإسلام قد استقطب اهتمام المستشرقين؛ فإن ما ميز الاستشراق الألماني أيضاً هو أنه أصبح مصدراً وعمدة في الدراسات القرآنية لدى المستشرقين الأوربيين عامة (11).

ثانيا : تيودور نولدكه ( 1836 – 1931) : لمحة عن حياته وآثاره

نولدكه هو أحد أقطاب الاستشراق الألماني، وشيخ الألمان بدون منازع، به انتهت الحقبة الزاهية للاستشراق الألماني. وقد جعل مدينة ستراسبورغ في نهاية حياته مركزاً للاستشراق الأوربي. وحصيلة جهوده في مجال دراسة النص القرآني؛ أصبحت عمدةً ومنطلقاً للدراسات القرآنية في أوربا، وأصبحت تنبني عليها أخطر النتائج في مجالات الدراسات الإسلامية. فقد كان أكبر متخصص في علوم القرآن في أوربا كلها.
أ – مسيرته العلمية:
ولد ثيودور نولدكه في هاربورغ سنة 1836 في أسرة شغل أفرادُها مناصب علمية وإدارية. درس اليونانية واللاتينية على والده. وتمكن من اطلاع واسع على الآداب اليونانية . تسجل في كلية غوتنجن Gottingenسنة 1853 ، فأتقن ثلاث لغات سامية هي : العبرية، والسريانبة، والعربية. كما تعلم اللغة الفارسية والتركية والسنسكرتية على أستاذ اللغات الشرقية : هانيريش إفالد H. Ewald ( 1803 – 1875) ؛ ليصبح مستشرقاً.
وحصل على الدكتوراه سنة 1856 برسالة له باللاتينية تناول فيها " أصل القرآن وتركيب سوره "، وهو في سن العشرين. وفي سنة 1860 ، ترجم رسالته هذه إلى الألمانية بعد تنقيحها ووضع لها عنوان " تاريخ القرآن "، وهذه الطبعة توسع فيها جدا فيما بعد بالتعاون مع تلميذه شفالي. ثم بدأت رحلاته العلمية إلى ليبزيج وفيينا وليدن وبرلين؛ وذلك لاستكمال دراسته والوقوف على المخطوطات :
كانت له زيارة إلى فيينا (1856 – 1857) ، تمكن خلالها من الاطلاع على المخطوطات العربية ، وبعد ذلك كان له اتصال بكثير من المستشرقين الهولنديين : رينهارت دوزيReinhart Dozy ( 1820- 1883 ) ويونبولJnynboll ( 1832 – 1890) ...
وببرلين ( 1858 – 1860 ) اشتغل مساعداً بمكتبة برلين . وكُلِّف بوضع فهرست للمخطوطات التركية هناك.
وفي سنة 1961 عُيِّن مُعيداً في جامعة جوتنجن فكلَّفه إفالد بإلقاء دروس في التفسير للعهد القديم ودروس في نحو اللغة العربية .
وسمي أستاذ كرسي للغات السامية والسنسكرتية في جامعة كييل ( 1864 – 1872 ).
ثم عُين أستاذاً للغات الشرقية في جامعة ستراسبورغ بين 1873 و 1920 فجعلها مركز للدراسات الشرقية في ألمانيا . وبالرغم من أن المدينة أصبحت فرنسية بعد الحرب العالمية الأولى؛ فإن أحداً لم يجرؤ على طرده منها؛ لكونه جعل من ستراسبورغ مركز الاستشراق الأوربي في تلك الحقبة. وفي سنة 1920 انتقل إلى مدينة كارلسرويه ( منطقة الرين الأعلى ) وقضي هناك سنواته الأخيرة عند ابنه الذي كان آنذاك مديراً للسكك الحديدية، إلى أن توفي سنة 25 ديسمبر 1930 (12).
ب – أعمال نولدكه وآثاره :
ترك في عمره المديد ( 94 سنة ) حوالي سبعمائة بحث فضلا عن أربعة وعشرين كتابا. وقد وضع المستشرق بيكر فهرسا كاملا عن أعمال نولدكه. ويحتوي على أكثر من 700 عنوان في مجلة الإسلام : 1932 . ولعل من أهم الأسباب التي مكنت نولدكه من بلوغ تلك المكانة العلمية، وتلك الشهرة التي حظي بها في حياته وبعد مماته؛ اطلاعه الواسع على أهم المخطوطات في اللغات السامية، وانكبابه على دراسة القرآن في ضوء تعمقه لتلك اللغات وعلى دراسته للشعر العربي القديم، وعنايته باللغة والنحو العربيين، مع التزامه بمنهج صارم طغى على تعامله مع الحقائق. " وقد طبق منهجا تحليلا على العهد القديم أثار عليه ضجة داخل أروقة جامعة كييل "(13).
وإلى جانب رسوخه في علوم القرآن، وإسهامه في وضع أسس البحث العلمي للدراسات القرآنية التي جاءت بعده؛ فقد كانت له مشاركة فعالة في حقول قريبة من مجال القرآن الكريم.

(1) في مجال المعجم العربي:
سجل نولدكه على نسخته الخاصة من معجم فرايتاخG. Fretag ( 1788 – 1861) [ وهو معجم لاتيني في أربعة أجزاء نشره في هاله : 1830 – 1837 ] أمثلة كثيرة جدا نتيجة اشتغاله بالنصوص العربية. وقام يورج كريمرJ. Kraemer ( 1917 - 1961 ) ببحث المواد التي سجلها نولدكه ، ونشرها في " معجم استشهادات للغة العربية الفصحى : إعداد نولدكه " 1952 - 1954 – (14).

(2) في مجال الشعر العربي:
إن المتتبع لجهود المستشرقين في دراساتهم للتراث العربي تُلفته عناية المستشرقين بالشعر العربي القديم، لمكانة ذلك الشعر في نفوس العرب وتاريخهم. ولما له من أهمية في فهم الذهنية العربية، وما له من خطورة في فهم التراث العربي القديم عموماً، وإدراك خفايا القرآن الكريم على وجه الخصوص.
لقد أدرك المشتغلون بتراث الشرق الإسلامي أن تاريخ الشعب المسلم العربي، في صيرورته التاريخية وتطلعاته المستقبلية؛ مشدود إلى قطبين أساسيين، يُحركان وجودَه، ويًحددان مصيره؛ هما : القرآن ولغة هذا القرآن.
وكتابه " مختارات من الشعر العربي " جمع فيه باقة من ديوان الشعر العربي حتى نهاية العصر الأموي؛ لاستعمالها في أغراض الدرس . وذكر المستشرق الألماني رودي بارت أن الكتاب ما يزال معتمداً في الجامعات يدرس فيه الطلاب المتخصصون [ طبع سنة 1890 ، وأعيد طبعه سنة 1933 ، 1965 ، وقد زوده أغست مولّرAugust Muller(1847 – 1892 ) بمعجم ] (15) .
أما ثمرة دراساته للشعر القديم ، فقد أودعها في كتابه " أبحاث لمعرفة شعر العرب القدماء " : 1864 ؛ وهو يتألف من عدة مقالات وترجمات . وقد ترجم الفصل الأول منه د, عبد الرحمن بدوي في كتابه : " دراسة المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي " [ بين ص17 – 40 ] ، وهو يحمل عنوان : " من تاريخ الشعر العربي ونقده " . وقد ختم نولدكه هذا الفصل بفقرة جديرة بالتأمل والانتباه ، عبر فيها عن تفاعله مع الشعر العربي الجاهلي حين وجده عظيما وجميلا في نطاق حدوده ؛ " وتسري فيه روح الرجولة والقوة ، روح تهزنا هزا مزدوجا إذا ما قارناه بروح العبودية والاستخذاء التي نجدها في كثير من الشعوب الأسيوية الأخرى :
سأغسِلً عني العارَ بالسيف جالباً عليَّ قضاءُ الله ما كان جالبا
بهذه الكلمات يمضي العربي الحر إلى ساحة القتال ولقاء الموت . هذه الروح الرجولية التي تتجلى في قصائد الأعراب القدماء ساكني الصحراء ، يُمكن أيضا أن تكون قدوة نحتذي نحن به . والآن يبرز أمام الشعب الألماني السؤال عما إذا كان قد عقد العزم على أن يغسل بدمه العار القديم " (16) .
وقد ترجم وشرح قصائد عروة بن الورد 1963 ، وترجم وشرح خمساً من المعلقات : 1899 – 1901 .
(3) في مجال النحو العربي:
أسهم نولدكه في النحو العربي بدراسات قيمة ، خاصة بالدراسة التي ظهرت في مذكرات أكاديمية فيينا عام 1897 : " في نحو اللغة العربية الفصحى " وقد حدد فيه الأمثلة ووضع القواعد وما شذ عنها . كما تميز بمجموعة هائلة من النصوص التي انتخبها وأثبتها في مذكراته لأهميتها النحوية ( أعيد طبع الدراسة سنة 1963 ) (17) .

(4) في مجال السيرة النبوية وتاريخ الإسلام:
كتب في مجال السيرة المحمدية كتاب : " حياة محمد عرض مبسط مستمد من المصادر " سنة 1863 ، واعتُبِر الكتاب نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه عرض تاريخي علمي معتمد على المصادر وفي متناول القراء .
وفي مجال تاريخ الإسلام اضطلع بالجزء الخاص بالساسانيين عند إخراج طبعة ليدن النموذجية لتاريخ الطبري ، وأشفعها بترجمة ألمانية هي " تاريخ الفرس والعرب في عصر الساسانيين " عام 1879 .

ثالثا : نولدكه والنص القرآني

(1) العناية بالقرآن قبل نولدكه : تتميز أقسام الدراسات الشرقية في الجامعات الألمانية بقراءة النصوص القرآنية ؛ إذ تُتاحُ لكل طالب فرصة اختيار نصوص من القرآن.
ولابأس من الإشارة إلى الدراسات القرآنية السابقة والمعاصرة لنولدكه :
أ - وفي سنة 1746 نقلت ترجمة القرآن من الإنجليزية إلى الألمانية ، وصاحب الترجمة الإنجليزية هو المستشرق الإنجليزي جورج سيلGeorge Sale (1697 – 1736) ، وقد صارت ترجمته عمدة في تاريخ الدراسات القرآنية ، وراجت رواجا عظيما خلال القرن الثتامن عشر .
ب - فريدريك روكتFriedrich Ruckert ( 1788 – 1866)، ترجم قسماً من القرآن الكريم إلى الألمانية، طبعه بعد وفاته المستشرق الألماني أوغست مولّر، فرنكفورت، 1888 ، وقد قيل : إن هذه الترجمة أقرب إلى بلاغة القرآن من سائر الترجمات الأخرى (18).
ج - غستاف فلوجلGustav Flugel ( 1802 – 1870 ) ، وضع طبعةً للنص العربي للقرآن ( ليبزيج Leipzig : 1834 – ط2 ، 1842 ، ط3 ، 1885 ) صارت هي المعتمدة عند المستشرقين من ذلك الوقت إلى اليوم ، على الأقل في ترقيم آيات القرآن، كما وضع أول معجم مفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، مع ذكر رقم السورة والآية التي ترد فيها ، وأسماه " نجوم الفرقان في أطراف القرآن " في مدينة ليبزيج عام 1934 ، وقد أسدى من خلاله خدمة جلى للباحثين عموما ( وقد اعتمده فؤاد عبد الباقي في كتابه " المعجم المفهرس للقرآن الكريم " ، وتعقب عليه ما فاته ) . [ وفلوجل هو ناشر كتاب الفهرست لابن النديم وكشف الظنون في أسماء الكتب والفنون لحاجي خليفة ] –
د - غوستاف فايلGustav weil ( 1808 – 1889 ) وضع الأساس لعلوم الإسلام في القرن التاسع عشر، وذلك في كتاب " النبي محمد : حياته وتعاليمه " ( اشتوتجر 1843 )، وذكر د. عبد الرحمن بدوي أن كتابه هذا كان أشد الكتب تحاملا على النبي، وبعداً عن الموضوعية العلمية والدقة التاريخية. وكتابه " مدخل تاريخي نقدي إلى القرآن " (1844) ، قسم فيه القرآن إلى ثلاث مراحل بالإضافة إلى مرحلة مدنية ( وقد بنى نولدكه هذا التقسيم )، وزعم فايل وهو يهودي الديانة ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف القراءة والكتابة (19).
(2) أطروحة نولدكه : " تاريخ النص القرآن "
كان موضوع أطروحته هو " أصل القرآن وترتيب سوره " ، قدمها سنة 1858 . ولما أعلنت أكاديمية باريس عن جائزة ، لبحث يكتب في موضوع القرآن ؛ رحل في طلب المزيد من المصادر لرسالته ، وتوسع فيها ، ثم أرسل مساهمته بعنوان " تاريخ القرآن " إلى مسابقة تلك الأكاديمية ( مجمع الكتابات والآداب في باريس ) . فنال الجائزة سنة1858 ( تقاسم الجائزة هو وشبرنجر( Spenger : 1813 – 1893) ، والمستشرق الإيطالي وميكليه أماري ( Michele Amari : 1806 – 1889) عن بحثه " الترتيب الزمني لآيات القرآن "Memoire sur la Cronologie du Coran . وبعد أن أعاد نولدكه النظر في تلك الرسالة ، ترجمها إلى الألمانية ، ونشرها بعنوان : " تاريخ النص القرآني " سنة 1960 .
وظهرت الطبعة الثانية من الكتاب وقد زيدت ثلاث مجلدات في عام 1909 و 1919 و 1938 . وقد أسهم في إنجاز كل من تلميذه المستشرق شفالّيSCHWALLY الذي أصدر في مجلدين ( ليبزيج 1909 – 1919 ) ، فلما مات قام برجتستريسر وبريتسل بإخراج الجزء الثالث منه بعنوان " تاريخ النص القرآني " . وسأخص تلامذة نولدكه هؤلاء بكلمة قصيرة ، بعد تقديم " تاريخ القرآن " والتنبيه على مدى ما كان له من أثر في توجيه أفكار كثير المستشرقين .
وكتاب " تاريخ النص القرآن " عبارة عن عرض تاريخي مفصل لكل ما يتصل بالقرآن منذ نزول الوحي حتى آخر طبعة ظهرت في القرن التاسع عشر . خصص الجزء الأول للسور المكية والمدنية . وتطبيقاً للمنهج التاريخي تابع نولدكه " فايل " في تقسيمه للسور زمنيا إلى ثلاث فترات مكية وفترة مدنية ( وهو تقسيم لقي استحساناً عند كثير من الباحثين ) ، كما حدَّد في هذا الجزء مميزات السور المكية والمدنية ؛من حيث الأسلوب والمضمون . أما الجزء الثالث فقد خصصه لمعالجة تاريخ القرآن (21) . وبذلك أعاد نولدكه ترتيب القرآن زمنيا على غير الطريقة الإسلامية ، فأصبح الترتيب الذي انتهجه نولدكه يشغل أذهان المستشرقين جميعاً ، ويُعلقون عليه أخطر النتائج في عالم الدراسات القرآنية (24) .
فالبحث في تاريخ القرآن هو بحث في توثيق النص القرآني : ملابسات نزوله ، جمعه وتدوينه ، قراءاته ... والغاية ربطه بمناخه العام ؛ لإثبات بشريته .
ويعتبر هذا الكتاب أخطر كتاب أنتجه الغرب في تاريخه مع تعامله مع النص القرآني ، ويكفي هذا الكتاب شهرة ومكانه أنه أصبح عمدة في فرع تخصص " قرآن " ، وأنه أصبح ملاذا للمستشرقين ، وعلى من يريد الاشتغال علميا بالقرآن على أي نحو من الأنحاء . وذكر د. ميشال جحا أنه أصبح راسخ القدم في العلوم القرآنية ، وأنه وضع أسس البحث العلمي للدراسات القرآنية التي جاءت من بعده (20).
وكتاب نولدكه يعتبره أبو عبد الله الزنجاني في كتابه " تاريخ القرآن " من أهم ما ألفه الإفرنج في تاريخ القرآن ؛ إذ بحث فيه صاحبه بتضلع عميق . وحاول أن يكون موضوعيا بقدر الإمكان . وقد تناول البحث حقيقة الوحي والنبوة وما بينهما من علاقة ، وحاول ربط السيرة النبوية بتاريخ السور مكيها ومدنيها ، كما تناول حكمة نزول القرآن وأسباب نزول الآيات وغيرها من الموضوعات (22).
وأما بلاشيرREGIS BLACHERE ( المستشرق الفرنسي 1900 – 1973 ) فيرى أنه بفضل نولدكه ومدرسته أصبح ممكنا من الآن فصاعدا أن نوضح للقارئ غير المطلع ما يجب أن يعرفه عن القرآن ؛ ليفهمه بتوعية ، وليتخطى القلق الذي ينتابه عند اطلاعه على نص يغلب عليه الغموض (23).
يبدو أن عناية نولدكه بالنص القرآني كانت وراء شهرته ، ولا شك أن جهوده في حقل الدراسات القرآنية ظلت معلمة بارزة في أعمال المستشرقين على الإطلاق . وإن القارئ لدائرة المعارف الإسلامية يُثير انتباهه حقا مكانة نولدكه عند كتاب مواد الدائرة ؛ إذ تراهم يعتبرونه عمدة وحجة في كل ما يتعلق بقضايا النص القرآن . وقد اتضح لي أن كتابه " تاريخ القرآن " هو أخطر بحث أُنجز في الدراسات الألمانية في بابه ؛ لما كان له من تأثير وإشعاع ، وحضور دائم في كل الدراسات التي تعرضت بعده للنص القرآني . وقد أشرت إلى أن موضوع أطروحته ، كان " أصل القرآن وترتيب سوره " (1858) .
كان المستشرق الألماني غوستاف فلوجل ( 1802 – 1870) أول مًن وضع فهرسا أبجديا لمفردات القرآن مع ذكر رقم السورة ورقم الآية التي ترد فيها . وأسماه " نجوم الفرقان في أطراف القرآن " ( وقد كان نواة صالحة اعتمدها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي في وضع " المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم " تعقب عليه ما فاته ، واستدرك فيه ما خفي عليه من وجه الصواب ) . ومما يتمم كتابه " تاريخ النص القرآن " دراسته " في لغة القرآن" التي نشرت في مجموعة " مقالات جديدة في علم اللغات السامية " 1910 . وقد ضمت تلك الدراسة المواضيع الآتية : " القرآن والعربية : خصائص أسلوبية ، وخصائص تكوين الجمل في لغة القرآن " و " كلمات أجنبية مستعملة عن عمد وعن غير عمد في القرآن " .
وفي " موضوع " القرآن والعربية " نقد نولدكه ما روَّج كارل فولرسK. Vollers ( 1850 – 1909 ) في كتابه " لغة الكتابة واللغة الشعبية في بلاد العرب قديما " . فقال إن النص الأصلي للقرآن كان مؤلفا بلهجة من اللهجات كانت سائدة في الحجاز وكانت خالية من الإعراب . وقد أذاع فولرس أن القرآن كان في بادئ الأمر بلسان عامة قريش وأن القرآن قد عُدِّل وهُذب حسب أصول اللغة الفصحى في عصر ازدهار اللغة العربية (25) .
ومما يُلاحظ أن كُتاب دائرة المعارف الإسلامية من المستشرقين اعتمدوه ، كما اعتمده كُتَّاب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض اللغات الأجنبية ، وهناك نقول من كتاب نولدكه استفاد منها الباحثون عامة في مجالات الدرس القرآني . ولا يخفى أن أهم ما بحثه المستشرقون في الدراسات القرآنية هو موضوع تاريخ القرآن : لغته ، نزوله ، تدوينه ، قراءته ... وينبغي التذكير بأن المنهج التاريخاني الاستشراقي وجد ضالته خلال القرن التاسع عشر في محاولات إعادة ترتيب السور القرآنية في ضوء الظروف والمناسبات التي مرَّت منها الدعوة الإسلامية ... فذهب البحث يرصد أخبار تدوين القرآن ، ويتتبع تحركات الوحي ، ويُفتش في أسباب النزول ؛ وهو مشدود إلى الأرض يبحث عن ظاهرة يُؤكد بها بشرية القرآن .

رابعا : دعاوى وأوهام في آراء نولدكه

hg]vhshj hghsjavhrdm ggrvNk hg;vdl