عصمته صلى الله عليه وسلم من التعرى ودفع ما يتوهم عكس ذلك


... عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال : "لما بنيت الكعبة ذهب النبى صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان حجارة، فقال العباس للنبى صلى الله عليه وسلم : اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة. ففعل فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم قام فقال : "إزارى إزارى" فشد عليه إزاره، وفى رواية : فما رؤى بعد ذلك اليوم عرياناً"(1).

... وهذه القصة وما فيها من حفظه صلى الله عليه وسلم من التعرى قبل النبوة، وردت فى غير الصحيح عن ابن إسحاق عن أبيه عمن حدثه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "لقد رأيتنى فى غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإنى لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمنى لاكم ما أراه، لكمة وجيعة، ثم قال : شد عليك إزارك قال : فأخذته وشددته علىَّ ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتى وإزارى علىَّ من بين أصحابى"(2).

... قال الحافظ ابن كثير : "هذه القصة شبيهة بما فى الصحيح عند بناء الكعبة حين كان ينقل هو وعمه العباس، فإن لم تكن فهى متقدمة عليها كالتوطئة"(3).

... وقال الإمام السهيلى : "وهذه القصة إنما وردت فى الحديث الصحيح فى حين بنيان الكعبة، فإن صح أنه كان فى صغره، إذ كان يلعب مع الغلمان : فمحمله على أن هذا الأمر كان مرتين : مره فى صغره، ومره فى أول اكتهاله عند بنيان الكعبة"(4).


... قلت : هذه القصة فى حالة صغره لم تصح سنداً، وإنما هى نفس قصة بنيان الكعبة، وإلى هذا مال الحافظ فى الفتح، فبعد أن ذكر روايات بنيان الكعبة، وهو صلى الله عليه وسلم فى حالة كبره، والمؤيدة لما فى الصحيحين ذكر رواية الحاكم عن ابن عباس رضى الله عنهما(5) وهو صلى الله عليه وسلم فى حالة صغره، وقال فيها : "النضر أبو عمر الخزاز" ضعيف، وقد خبط فى إسناده، وفى متنه، فإنه جعل القصة فى معالجة زمزم بأمر أبى طالب وهو غلام، وكذا روى ابن إسحاق – إشارة إلى الرواية السابق ذكرها – ثم قال الحافظ : فكأن هذه قصة أخرى، واغتر بذلك الأزرقى فحكى قولاً : أن النبى صلى الله عليه وسلم لما بنيت الكعبة كان غلاماً".

... ثم أكد الحافظ أن القصة واحدة فى موضع آخر إذ يقول معقباً على كلام السهيلى السابق على رواية ابن إسحاق قائلاً : "قلت : وقد يطلق على الكبير غلام إذا فعل فعل العلماء، فلا يستحيل اتحاد القصة اعتماداً على التصريح بالأولية فى حديث أبى الطفيل رضى الله عنه قال : "فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة معهم إذ انكشفت عورته، فنودى يا محمد غط عورتك، فذلك فى أول ما نودى، فما رؤيت له عورة قبل ولا بعد"(6).

فرية على عصمته صلى الله عليه وسلم من التعرى والرد عليها :


... رغم ما فى هذه القصة الصحيحة من عناية الله عز وجل بحفظ رسوله صلى الله عليه وسلم من التعرى؛ إلا أننا نجد بعض أعداء السيرة العطرة الواردة فى السنة المطهرة من يرى فى إثبات هذا الأمر فى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم : "خرافة، وأكذوبة مفضوحة، وشناعة، ليس الهدف منها إلا الحط من كرامة النبى صلى الله عليه وسلم والإساءة لمقامه الأقدس"(7).

... ولست أدرى أى خرافة، أو كذب، أو شناعة أو…الخ فى عصمة الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم من التعرى عند بناء الكعبة المشرفة؟

... إن الشناعة فى نظر الرافضى هى فى تعرى رسول الله صلى الله عليه وسلم! دون التفات منه لكيفية تعرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصمة الله عز وجل منه! إنه يتكلم عن تعرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الرواية، وكأنه صلى الله عليه وسلم تعمد ذلك أمام الناس.

... إذ يقول بعد أن ذكر بعض النصوص فى حياء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان مصوناً من رؤية عورته، حتى بالنسبة لأزواجه، وأن المشركين كانوا يستقبحون التعرى أمام الناس.

... يقول متسائلاً : "فكيف إذن يكشف النبى الأعظم عورته أمام الناس يا تُرى؟"(8) وأقول له : من أين لك من روايات عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعرى عند بناء الكعبة، أنه صلى الله عليه وسلم تعمد التعرى أمام الناس (وحاشاه من ذلك) من أين لك هذا التعمد حتى ولو فى رواية ضعيفة؟!! وأنى لك هذا، وفى الصحيح ما يبطل افتراءك.

... فعن أبى الطفيل رضى الله عنه قال : فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أَجْياد(9)، وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة، فذهب يضع النمرة على عاتقه، فيرى عورته من صغر النمرة، فنودى يا محمد خمر عورتك، فلم ير عرياناً بعد ذلك"(10).

... فواضح من هذه الرواية، وما فيها معناها من الروايات التى فى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحمل الحجارة كان يستر عورته بنمرة، ولكنه وهو يحاول أن يتقى أذى الحجارة على عاتقه، حاول أن يضع طرفاً من النمرة على عاتقه، سواء من قبل نفسه أو بنصح عمه العباس له كما جاء فى الصحيح، لا تعارض. إذ النتيجة واحدة وهى : لصغر النمرة، بدت عورته، فسقط مغشياً عليه، وفى الصحيح أيضاً فخر إلى الأرض، وكلها بمعنى واحد، ولا تعارض ولا تناقض كما زعم الرافضى مستدلاً بذلك على وضع الحديث(11).

... وفى هذا الغشيان أو السقوط على الأرض، عصمة من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم إذ الجلوس أستر للعورة، ومعه أى هذا (السقوط) تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شد إزاره على عورته التى انكشفت بلا تعمد منه، ومع كل ذلك كانت عناية وعصمة ربه عز وجل له إذ نودى :

"يا محمد خمر عورتك، فلم ير عرياناً بعد ذلك" وكل الروايات فى الصحيح وغيره على هذا المعنى!.... فأين إذن ما يزعمه الرافضى بأن فى روايات عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من التعرى حط من كرامته صلى الله عليه وسلم، وإساءة لمقامه الأقدس؟ وأين ما يزعمه بأن هذه الروايات تظهره بتعمد كشف عورته أمام الناس؟ وأين أيضاً ما يزعمه بأن محاولة علماء أهل السنة للجمع بين هذه الروايات محاولة فاشلة، تأتى على حساب القرآن الذى لا نقدسه - على حد كذبه - ونزعم أن فيه تحريف، ونسخ لتلاوته، أما البخارى فنقدسه ونجله عن ذلك؟!(12) أهـ.

الشيخ عماد الشربيني

----------
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الحيض، باب الاعتناء بحفظ العورة 2/268 رقم 340، والبخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها 3/513 رقم 1582 .
(2) السيرة النبوية لابن هشام 1/239 نص رقم 18، وأخرجه من طريق ابن إسحاق البيهقى فى دلائل النبوة 2/30، 31 .
(3) البداية والنهاية 2/266 .
(4) الروض الأنف 1/318 .
(5) أخرجه الحاكم فى المستدرك 4/199 رقم 7356، وقال : صحيح الإسناد، وقال الذهبى : فيه النضر أبو عمر الخزاز ضعفوه، وأخرجه الطبرانى فى الكبير، وفيه أيضاً النضر أبو عمر، وقد أجمعوا على ضعفه كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 2/52، وأخرجه ابو نعيم فى دلائل النبوة 1/190 رقم 135 من طريق ابن إسحاق، وفيه أيضاً النضر أبو عمر.
(6) أخرجه عبد الرزاق فى مصنفه 5/103 رقم 9106، ومن طريقه الحاكم فى المستدرك 4/199 رقم 199 رقم 7357 وقال : صحيح الإسناد، ووافقه الذهبى، وأحمد فى مسنده 5/454، 455، وينظر : فتح البارى 3/516 رقم 1582، 7/181 رقم 3829 .
(7) الصحيح من سيرة النبى الأعظم لجعفر مرتضى العاملى 2/167، وينظر : الخطوط الطويلة أو دفاع عن السنة لمحمد بن على الهاشمى ص13 .
(8) الصحيح من سيرة النبى الأعظم 2/170 – 172، وينظر : دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين لصالح الوردانى ص269، 270
(9) بفتح الهمزة وسكون الجيم. جبل بمكة، النهاية فى غريب الحديث 1/31 .
(10) أخرجه أحمد فى مسنده 5/455، وعبد الرزاق فى مصنفه 5/103 رقم 9106 وفيه عبد الله بن عثمان بن خيثم – صدوق كما قال الحافظ فى التقريب 1/513 رقم 3477 وبقية رجاله ثقات – فالإسناد حسن.
(11) ينظر : الصحيح من سيرة النبى الأعظم 2/69، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص269، 270 .

(12) الصحيح من سيرة النبى الأعظم 2/169، وينظر فى الرد على دعوى تقديس البخارى، الباب الرابع فصل "شبهة اختلاف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب السنة والتاريخ عنها فى القرآن الكريم والرد عليها" ص435 .

v] afim: Y.hvn Y.hvn