شبهات مُغرضة حول القرآن:
الشبهة السابعة و الأربعون (47):
- إن نزول القرآن على مدار ثلاثة وعشرين عاماً أمر مريب, فهو الكتاب الوحيد الذى استغرق نزوله هذا الزمن, فالتوراة أنزلت على موسى دفعة واحدة, والإنجيل نزل على عيسى مرة واحدة, وهذا مما يثير الشك حول القرآن أنه من تأليف محمد, لأن تأليف الكتب يستغرق وقتا طويلاً, بعكس الكتب المنزلة من عند الله فإنها لا تحتاج لزمن.

الرد:

- - لقد أجبنا من قبل - بتوفيق الله جل وعلا - على زعم تأليف القرآن, فى الشبهة رقم (26) أما كونه لم ينزل مرة واحدة, فإن هذا السؤال ليس بجديد, فهو منذ عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32] وقد رد الله عليهم فى الآية نفسها, بقوله سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} إن الآية الكريمة قد بينت أن نزول القرآن منجَّماً كان لتثبيت قلب الرسول – صلى الله عليه وسلم - فكلما ضاق صدره بتكذيب المشركين له, نزلت عليه الآيات تصبِّره وتثبِّته, وتقص عليه قصص إخوانه من الأنبياء والمرسلين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وما فعله معهم أقوامهم. فنزوله مرة واحدة لم يكن ليعجز الله عز وجل, فقد أنزله جملة واحدة ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة فى السماء الدنيا, ثم نزل إلى الأرض منجَّماً حسب الأحداث, كما قال ذلك عبد الله بن عباس - رضى الله عنهما - فى تفسير (ابن كثير) وغيره.
وتنزيل القرآن لم يكن لتثبيت الرسول – صلى الله عليه وسلم - فحسب, بل كان أيضاً لتثبيت الصحابة - رضي الله عنهم - فكلما حدث أمر, وأرادوا معرفة حكم الشرع فيه, جاءهم الوحى من عند الله غضّاً طريّاً, يبين لهم ما هم عنه سائلون, وما هم فيه مختلفون, ولذلك كثيراً ما نجد فى القرآن قوله: {يَسْأَلُونَك} أو {يَسْتَفْتُونَكَ} وعند ظهور أى مشكلة, ويشتاق المجتمع كله لمعرفة الحق فيها, تنزل الآيات بتوضيحه, لتروى ظمأهم, وتشفى غليلهم, فتثبت الإجابة فى صدورهم, ولا يستطيعون نسيانها, وبذلك تكون العلاقة بين الناس وربهم ورسولهم علاقة حيوية مستمرة, لا علاقة فاترة باردة, وهذا كما يقولون: (الطَّرْق على الحديد وهو ساخن) فحين تكون عطشاناً, وليس عندك ماء, فإنك تشتاق إليه, فإذا جاءك على ظمأ, شعرت بقيمته, وقيمة من أعطاه لك, أكثر مما لو كان عندك منذ البداية - {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} - ولذلك كان بعض الصحابة - رضي الله عنهم - - مثل عبد الله بن مسعود - يعلم كل آية لماذا ومتى وأين نزلت. فلو نزل القرآن جملة واحدة, ثم عَرَضَ لهم أمر, لَمَا ذهبوا إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم - ليسألوه, ولَمَا حدث اختبار للمسلمين فى كثير من المواقف, وكأنك أعطيت الإجابة جاهزة للطالب الذى تريد اختباره بجانب ورقة الأسئلة, فأين الاختبار إذن؟ ثم إن القوم الذين أرسل فيهم الرسول – صلى الله عليه وسلم - كانوا أميين, يصعب عليهم قراءة القرآن, فيضطرون لسؤال غيرهم, أما التلقِّى من الرسول – صلى الله عليه وسلم - مباشرة فقد كان أقوى لهم فى معرفة كلام ربهم, وتثبيته فى صدورهم, وارتباطهم بنبيهم, فما أجمله من شعور.. شعور ارتباط الإنسان بربه, لدرجة أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يبكون بعد موت النبى – صلى الله عليه وسلم - لانقطاع الوحى, كما حدث مع السيدة بركة الحبشية وأبى بكر وعمر. وتخيلوا معى كم كانت فرحة السيدة خولة بنت ثعلبة, حين ذهبت للرسول – صلى الله عليه وسلم - لتسأله عن ظِهار زوجها منها, وهى تشتكى وتبكى, ثم ينزل الوحى ليجيب عن سؤالها, ويفرِّج كربها؟ (راجع تفسير سورة المجادلة).
ولنضرب لكم بعض الأمثلة التى توضح حتمية نزول القرآن متفرقاً حسب الأحداث: فى حادثة الإفك - مثلاً - ظل الرسول – صلى الله عليه وسلم - والمسلمون شهراً كاملاً فى هذه المحنة, وهذا البلاء العظيم, ولا يدرون ماذا يفعلون فيما يردده المنافقون عن السيدة عائشة رضى الله عنها, فلو كانت براءتها معلومة منذ البداية لَمَا حصل اختبار للرسول – صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين, ولَمَا استفاد المجتمع المسلم من هذه التجربة, ولكن انقطاع الوحى شهراً كاملاً جعلهم يتشوَّفون لبيان هذا الأمر والفصل فيه, فلما نزل الوحى شفى غليلهم, وروى ظمأهم, وعلموا جيداً ما هو المفروض عليهم فى مثل هذا الموقف, وغير ذلك من الآداب التى نزلت فى سورة (النور) بسببه. وعندما تخلَّف المؤمنون الثلاثة عن غزوة تبوك, وأمر النبى – صلى الله عليه وسلم - المسلمين بهجرهم إلى أن يقضى الله فى أمرهم, فلو كان القرآن نزل جملة واحدة, لعلموا أن الله قد غفر لهم, فلم يكن لِهَجْرِ المسلمين لهم أىُّ طعم, ولَمَا تضرعوا لله كل هذا التضرع, ولَمَا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت (كما ذكرت قصتهم فى سورة التوبة) وكذلك الغزوات.. فلو علموا - مثلاً - أنهم سينتصرون فى غزوة بدر, لاطمأنت قلوبهم, ولَمَا توكلوا على الله وتضرعوا إليه مثل ما كان منهم حينها. وكذلك غزوة أحد.. كيف كان حالهم لو علموا مصيرها مسبقاً؟ أو لو علموا بما سيحدث فى غزوة حنين؟ {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ{25} ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ{26} ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة25-27] وأشياء أخرى كثيرة يقصر المقام عن ذكرها, مثل تحويل القبلة, والإسراء والمعراج, وفتح مكة...إلخ. وهى فى مجملها تعنى أن القرآن كان سيفقد روحه, وتجدده, وتفاعله مع الأحداث, وتكون العلاقة بين الأرض والسماء مرة واحدة وانتهت. فمن فى واقعنا تعرِض له مشكلة, ثم يرجو الله أن ينزل حكمها, ويشتاق لذلك ليريح قلبه, ويفرج همه؟ إن أى إنسان تعرِض له مشكلة, إما أن يذهب ليسأل عنها العلماء, أو يجتهد فى البحث عنها بنفسه, فلا يجد فى ذلك حلاوة استجابة الله له, وتنزيل الوحى من أجله. أما الصحابة - رضي الله عنهم - فقد كانت تنزل عليهم الآيات تبشرهم, وتثبتهم, وتبين لهم, وكلما ألَمَّت بهم محنة, أو ضيَّق المشركون عليهم, نزلت عليهم الآيات تبشرهم بالجنات, وتدعوهم إلى التفكر فى خلق الله وذكره والتضرع إليه, فيزدادون إيماناً مع إيمانهم {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]
ثم أخبرونى يا من تثيرون هذه الشبهة.. ماذا كان الحال لو علم الكفار أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - سيهاجر؟ وماذا كانت تعنى {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]؟ ثم إن نزول القرآن منجَّماً يدل على أنه من عند الله.. وليس العكس, فلو كان من عند سيدنا محمد - كما تقولون - لَمَا تأخر فى إجابة الكفار حين سألوه عن أصحاب الكهف حتى يأتيه الوحى, ولَمَا تأخر فى الرد على كثير من الأسئلة التى طُرِحَت عليه, والله أعلم.



الشبهة الثامنة و الأربعون (48):
- إن القرآن يشيد بالحواريين ويشيد بالتوراة والإنجيل, ويثبت أنه ليس بهما أى تحريف, فيقول: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27] {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ} [المائدة:43] {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:44] {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:46] {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيه} [المائدة:47]

الرد:
- أما إشادة القرآن الكريم بالحواريين أتباع سيدنا عيسى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - فلأنهم كانوا على الحق, أى أنهم عبدوا الله وحده ولم يشركوا به شيئاً, وآمنوا أن عيسى عبد الله ورسوله {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُون} [المائدة:111] وأمّا إشادته بالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السابقة, فهى خاصة بالكتب المنزلة من عند الله جل وعلا, قبل أن يتم تحريفها, ولكنه مع إشادته بها, أقر بأنه مهيمن عليها, فقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْه} [المائدة:48] فهو مصدِّق لما جاء فيها, ولكنه مهيمن عليها. أى أنه يُقِرّ بعض أحكامها, وينسخ البعض الآخر, فما أقرَّه آمنا به, وكان شرعاً لنا, وما نسخه آمنا به, ولكنه ليس شرعاً لنا. ولا يخفى على أحد أن النسخ غير التحريف, فقد نصَّ القرآن على تحريف أهل الكتاب لكتبهم, فقال: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78] أما قول الله جل وعلا: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ} وقوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيه} فلا يدل على عدم التحريف, لأن التحريف لم يكن شاملاً لكل نصوص التوراة والإنجيل, بدليل أن أوصاف النبى - صلى الله عليه وسلم - كانت عندهم ولم تُحرَّف {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف:157] وإلى الآن ليس كل ما بأيديهم محرَّف, ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم, و{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} الآية)) [صحيح البخارى] لأننا ربما صدقنا كاذباً, أو كذبنا صادقاً, فالأفضل عدم التصديق وعدم التكذيب, إلا ما فيه عندنا نص من الكتاب أو السنَّة. والدليل على أن كتبهم محرفة ما نشاهده من تعدد كتبهم واختلافها فيما بينها, فهناك مثلاً: إنجيل يوحنا, ومتى, ومرقس, ولوقا, وغير ذلك من الأناجيل, أما نحن فليس عندنا قرآن أبى بكر, أو عمر, أو عثمان, أو على... إلخ. وقد شهد كتابهم نفسه على تحريفه, وإليكم بعض الأدلة:
فإنه إن كان صِدْق الله قد ازداد بكذبى لمجده فلماذا أُدَانُ أنا بَعدُ كخاطئ. (رسالة بولس إلى رومية3: 7) سبحان الله! كيف يزداد صدق الله بكذب الناس؟
مُبْطلين كلام الله بتقليدكم الذى سلمتموه. وأموراً كثيرة مثل هذه تفعلون. (مرقس7: 13)
ولكن كان أيضاً فى الشعب أنبياء كذبة كما سيكون فيكم أيضاً معلمون كذبة (رسالة بطرس الثانية2: 1)
فقال الرب لى. بالكذب يتنبأ الأنبياء بإسمى. لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم. برؤيا كاذبة وعَرافة وباطل ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم. (إرميا14: 14)
صار فى الأرض دهش وقشعريرة. الأنبياء يتنبأون بالكذب والكهنة تحكم على أيديهم وشعبى هكذا أحب. وماذا تعملون فى آخرتها. (إرميا5: 30-31)
لأنهم من صغيرهم إلى كبيرهم كل واحد مُولَع بالربح ومن النبى إلى الكاهن كل واحد يعمل بالكذب. (إرميا6: 13)
اذكر يسوع المسيح الْمُقام من الأموات من نسل داود بحسب إنجيلى. (رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس2: 8) (نلاحظ كلمة: بحسب إنجيلى)
وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل لأكون شريكاً فيه. (رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس9: 23)
وأنبياؤها قد طيَّنوا لهم بالطفال رائين باطلاً وعارفين لهم كذباً قائلين هكذا قال السيد الرب والرب لم يتكلم. (حزقيال22: 28) فهذه وغيرها شواهد على تحريف كتبهم, والله أعلم.


الشبهة التاسعة و الأربعون (49):
- يُقِرُّ القرآن بأن آدم عصى ربه, وأن إبليس عصى ربه, فلماذا تاب الله على آدم, ولم يتب على إبليس؟ مع أن إبليس كان مُحِقّاً فى أن النار أفضل من الطين؟ ثم لماذا يأمره بالسجود لعبد مثله, ولا يأمره بالسجود له؟

الرد:
- إن معصية سيدنا آدم - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - لم تكن كمعصية إبليس, فإن معصية آدم لم تكن عن كِبْر أو جحود, فهى كمعصية من يغلبه هواه على فعل أمر ما, مع علمه بتقصيره فى حق مولاه. أمّا إبليس فقد استكبر عن امتثال أمر الله {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] وناقشه فى حِكمة الأمر, أى أنه باختصار لم يقتنع بأمر الله, وظن أنه فى غير مَحلّه, وأن المنطق يقتضى عدم السجود لآدم, لأنه خُلِق من نار, وآدم خُلِق من تراب {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف:12] ولذلك اختلفت معصيته لله سبحانه وتعالى عن معصية سيدنا آدم, فسيدنا آدم لم يتكبر على أمر الله, ولم يقل له: لماذا نهيتنى عن الأكل من الشجرة؟ أو كيف تأمرنى ألا آكل منها؟ ولكنها كانت معصية عادية كمعصية أى مسلم مقتنع ومؤمن بأوامر الله, ثم إن آدم ندم عليها وتاب منها {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ومن رحمة الله جل وعلا أنه سأل إبليس عن عدم سجوده (وهو أعلم به) ولم يلعنه ويطرده من رحمته فَوْر معصيته, ولكنه لم يندم ولم يتب, بل زاد على كِبره أنه لم يستغفر, ورد بسوء أدب مع خالقه جل وعلا {قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر:33] فهناك فرق بين المعصيتين. فمثلاً: لو أن امرأة لم تحتجب, مع علمها بأن الحجاب فريضة من الله, وأنها مقصرة فى حقه سبحانه وتعالى, فهذه يُرجَى لها الخير, ولا تخرج من الملة بمعصيتها, أمّا لو تكبرت على امتثال أمر ربها, واستهزأت بفريضته, ولم تعترف بها, فإنها تكون فى هذه الحالة قد كفرت, لأنها ردت الأمر على الآمر, ولم تقتنع به كما فعل إبليس (وهذه خطورة قول إحداهن: أنا غير مقتنعة بالحجاب) فمثلاً - {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} - لو أن لك ولدين, أمرتهما بأمر فلم يمتثلا له, ولكن أحدهما اعتذر لك, وبكى من خشيتك, ووعدك بعدم عصيان أمرك مرة أخرى, فَرَقَّ له قلبك وعفوت عنه, أمّا الولد الآخر فقد تبجح, ورد عليك بسوء أدب, واستهزأ بأمرك, فهل يستدر عطفك, وتعفو عنه كأخيه؟ ثم من قال إن النار أفضل من الطين؟ إن هذا قياس على حد تصور إبليس, وإلا- فكلاهما له خصائصه التى خلقها الله سبحانه وتعالى. والذى قال هذه المقولة شيطان مثل إبليس, لأنه أدخل القياس العقلى مع الأمر الشرعى, فلا يجوز بأى حال من الأحوال أن يرجح الإنسان هواه على أمر مولاه, أو يقترح شيئاً غير الذى أمره الله به, فمثلاً: لو قال أحد إن عدد ركعات الفجر أو المغرب قليلة لا تليق بالعبودية لله, ثم زاد من عنده ركعة أو أكثر, فهل يقبل منه؟ أو قال إن قطع يد السارق أمر عنيف وفيه شدة, ولكن الأفضل أن نحبسه لمدة معينة حسب حالته, فهل يكون هذا الإنسان مسلماً؟ إنه بذلك قد كفر لاعتراضه على أمر الله, والتحاكم لغير شرعه.
أمّا أمر إبليس بالسجود لآدم, فإن هذا ليس تعظيماً لآدم, بل تعظيم للآمر, وهو الله سبحانه وتعالى, فحين يأمرنا الله جل وعلا ببرّ والدَينا - وإن كانا كافريَن - فهل هذا تعظيم لهما؟ إنهما من أهل النار لو كانا كافريَن, ولكن برهما تعظيم لخالقهما سبحانه وتعالى, فمثلاً - {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} - لو أنك مدحت جهازاً مثل الكمبيوتر فى كفاءته, وكذا وكذا, فإنك فى هذه الحالة لم تمدحه, ولكنك مدحت صانعه الذى جعله بهذا الإتقان. فالسجود لآدم إنما هو فى الحقيقة سجود لله جل وعلا, وليس سجود عبادة لآدم, فليس لآدم فضل على الملائكة حتى يعظموه, إنما التعظيم لله سبحانه وتعالى, كما أن السجود لغير الله كان مباحاً فى الشرائع التى سبقت الإسلام, مثل ما حدث مع سيدنا يوسف - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - ولقد قال الشيخ الشعراوى رَحِمَهُ الله: إن الملائكة التى سجدت لآدم هى الملائكة الموكَّلة بخدمته, كالْحَفَظَة, وكاتبى الأعمال, والملائكة الموكَّلة بالأرحام, والمطر, والرياح... إلخ, وليس كل الملائكة, بدليل قوله تعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص:75] أى أن {الْعَالِينَ} - على حَدِّ قوله - هم الملائكة الذين لم يشملهم الأمر بالسجود, كحَمَلَة العرش, وجبريل, وغيرهم من الملائكة, سلام الله عليهم أجمعين, والله أعلم.


يتبع