الشبهة المائتان واحد و ثمانون (281):
- كيف تقولون إن رسولكم أصيب بالسحر, رغم أن القرآن قال له: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]؟

الرد:
- إن الله سبحانه وتعالى يبتلى أنبياءه ورسله - عليهم الصلاة والسلام - بما يشاء من البلاء، فيزداد بذلك أجرهم، وترتفع درجاتهم, ومن ذلك ابتلاؤهم بتكذيب أقوامهم لهم, وإيذاؤهم لهم ولأتباعهم، كما ابتلى بعضهم بالمرض (كسيدنا أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام) ومن الابتلاء الذى وقع على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أصابه من ذلك السحر، روى البخارى فى صحيحه عن السيدة عائشة - رضى الله عنها - أن رجلاً من (بنى زريق) يقال له (لبيد بن الأعصم) سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان رسول الله يُخيَّل إليه أنه يفعل الشىء وما فعله.
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشر كسائر البشر {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الكهف:110] فيجوز أن يصيبه ما يصيبهم من الأوجاع والأمراض, وَتَعَدِّى الخَلْق عليه, وظلمهم إياه, كسائر البشر, إلى غير ذلك مما يتعلق بأمور الدنيا التى لم يُبعَث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها, فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يُعصَم من هذه الأمور، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يصيبه ما يصيب الرسل من أنواع البلاء, كما حدث فى غزوة أحد وغيرها، فغير بعيد أن يصاب بمرض, أو اعتداء أحد عليه بسحر ونحوه, يخيَّل إليه بسببه فى أمور الدنيا ما لا حقيقة له، كأن يخيل إليه أنه وَطِئ زوجاته وهو لم يطأهن. إن السحر مرض من الأمراض, وعارِض من العلل, يجوز عليه كأنواع الأمراض, مما لا ينكر ولا يقدح فى نبوته, وحدث أنه جاء للرسول - صلى الله عليه وسلم - أحد الصحابه - رضوان الله عليهم - يعوده فى مرضه, قائلاً له: إنك توعك يا رسول الله, فقال: ((إنى أُوعَكُ كما يُوعَك رجلان منكم)) [صحيح الجامع:2455] إلا أن الإصابة بالمرض أو السحر, لا يتجاوز ذلك إلى تلقِّى الوحى عن الله سبحانه وتعالى, ولا إلى البلاغ عن ربه إلى الناس, لقيام الأدلة من الكتاب والسنَّة, وإجماع سلف الأمة, على عصمته - صلى الله عليه وسلم - فى تلقّى الوحى وإبلاغه, وسائر ما يتعلق بشئون الدين. ولقد ظن البعض أن ما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من السحر هو نقص وعيب, وليس الأمر كما يظنون, لأن ما وقع له هو من جنس ما كان يعتريه من الأعراض البشرية, كأنواع الأمراض والآلام ونحو ذلك، فالأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - يعتريهم من ذلك ما يعترى البشر, كما قال الله سبحانه وتعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم:11] ولا شك أن إصابة الشيطان للعبد الصالح فى بدنه لا ينفيه القرآن، وقد جاء فيه ما يدل على إمكان وقوعها، ومن ذلك ما دل عليه دعاء سيدنا أيوب, على نبينا وعليه الصلاة والسلام {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41] ومعلوم أن سيدنا موسى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - كان من أُولى العزم من الرسل، وقد خُيِّلَ إليه عندما ألقى السحرة عصيهم أنها تسعى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] فهذا التخيل الذى وقع لسيدنا موسى, يطابق التخيل الذى وقع للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أن تأثير السحر - كما ذكرنا - لا يمكن أن يصل إلى حد الإخلال فى تلقى الوحى, والعمل به, وتبليغه للناس، لأن النصوص قد دلت على عصمة الرسل من ذلك .
إن فى قصة سحر النبى - صلى الله عليه وسلم - الكثير من أدلة نبوته طبقاً للآتى:
أولاً: كيف عرف النبى - صلى الله عليه وسلم - أن الذى سحره هو (لبيد بن الأعصم) وأن السحر موجود فى مكان كذا وكذا لو لم يكن نبياً؟, فالنبى - صلى الله عليه وسلم - هو الذى أرسل أصحابه - رضوان الله عليهم - ليستخرجوا السحر من المكان الذى وُضِعَ فيه, ولكن السائل تعمد ألا يذكر قصة إخبار الملائكة للنبى - صلى الله عليه وسلم - بموضع ومكان السحر.
ثانياً: لقد فك الرسول - صلى الله عليه وسلم - السحر بقراءة المعوذتين, وهذا دليل على أن المعوذتين كلام الله عز وجل, وأن محمداً نبى مُوحىً إليه.
ثالثاً: هذه القصة دليل على كذب المستشرقين الذين قالوا: إن السنَّة النبوية قد وضعها أصحاب محمد ليثبتوا أنه نبى, وأنه كامل فى كل صفاته, فلو كان كلامهم صحيحاً, لكان هذا الحديث أول شىء يحذفونه من السنة, لأنه يُنْقِص من قدر النبى - صلى الله عليه وسلم - (على حد زعمهم) غير أنه فى الحقيقة يدل على نبوته - صلى الله عليه وسلم - كما ذكرنا.
والآن نريد أن نسألكم: إذا كنتم تعتقدون أن ما أصاب النبى - صلى الله عليه وسلم - على أيدى اليهود من السحر قَدْح فى نبوته, وطعن فى رسالته, فهل يعنى ذلك أنكم أسقطتم نبوة أنبيائكم الذين اتهمهم كتابكم المقدس بالكفر, والزنى, وشرب الخمر, كما ذكرنا ذلك فى أكثر من موضع؟ وهل ما جاء فى كتابكم المقدس من أن الشيطان تَسَلَّط أربعين يوماً على المسيح قد أسقط نبوَّته؟ إنكم لم تسقطوا نبوَّته فحسب, بل زعمتم أنه الله, أو ابن الله, فهل الله سبحانه وتعالى فى حاجة إلى أن يُجَرَّب من إبليس أو غيره؟
ثم أُصعِدَ يسوع إلى البرية من الروح ليُجرَّب من إبليس. فبعدما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً... ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوْقَفَه على جناح الهيكل... ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عالٍ جداً وأراهُ جميع ممالك العالم ومجدها (متى4: 1-8)
وكان هناك فى البرية أربعين يوماً يُجرَّب من الشيطان. (مرقس1: 13)
ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين (لوقا4: 13), والله أعلم.




الشبهة المائتان اثنان و ثمانون (282):
- إن نبيكم كان فظاً غليظاً, كما جاء ذلك فى قول النساء لعمر بن الخطاب: (أنت أفَظّ وأغلظ من رسول الله) مع أن هذا يتعارض مع القرآن الذى قال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]

الرد:
- إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ألْيَن الناس, وأرفق الناس, وأرحم الناس, ولكن ما حدث هو ما جاء فى (صحيح البخارى) عن محمد بن سعد بن أبى وقاص, عن أبيه (رضى الله عنهما) قال: استأذن عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده نساء من قريش يكلِّمنه, ويستكثرنَه, عالية أصواتهن, فلما استأذن عمر, قُمْنَ يبتدرن الحجاب, فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك, فقال عمر: أضحَكَ اللهُ سِنَّكَ يا رسول الله! قال: ((عجبتُ من هؤلاء اللاتى كُنَّ عندى, فلما سَمِعْن صوتك ابتدرن الحجاب)) قال عمر: يا رسول الله.. كنتَ أحَقَّ أن يَهَبْنَ, ثم قال: أى عدّواتِ أنفسِهن, أتَهَبْننى ولا تَهَبْن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قُلْنَ: نعم, أنت أَفَظّ وأغلظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(يستكثرْنَه) أى يطلبْنَ منه أن يحث الرجال على زيادة النفقة عليهن, و(قُمْنَ يبتدِرْنَ الحجاب) أى اختبأْن وراء حجاب, خوفاً من سيدنا عمر - رضي الله عنه - لمعرفتهن بشدته فى الحق, لأنه من المتوَقَّع أن يزجرهن, لرفع أصواتهن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
إن الفظاظة والغِلْظة معناهما واحد, وهو القسوة أو الشدة, وكلاهما محمود أحياناً, ومذموم أحياناً أخرى, فإذا كانا فى نُصْرة الحق, ومجاهدة أعداء الله, فهما مطلوبان ومحمودان,     : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] و[التحريم:9] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123] أما إذا كانا فى الدعوة إلى الله, ومعاملة خَلْق الله, فهما مذمومان,     : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} فلا تعارُض إذن بين الآية الكريمة, وما جاء من قول النسوة لسيدنا عمر - رضي الله عنه -, فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين اللين والشدة, ولكن لكُلٍّ منهما مقامه, فهو رحيم بالمؤمنين, غليظ على الكافرين,     : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128] وقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وربما قالت النسوة هذه المقولة لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يشتد أحياناً فى الزجر عن طلب الدنيا, وهُنَّ كُنَّ عنده يكلمنه, ويرفعن أصواتهن من أجلها, أما سيدنا عمر - رضي الله عنه - فكان يبالغ فى الزَّجْر عن المنكرات, وكان لا يقبل أى تهاون فى حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو برَفْع الصوت, كما حدث من هؤلاء النسوة. والأرجح أن فى قولهن مَجَازاً عقلياً كما يقول علماء البلاغة, كأن يعبِّر أحدهم, ويبالغ فى التشبيه قائلاً: (هذه أكثر نعومة وليونة من الحرير) فهل الحرير خَشِن؟ وكما تبالغ فى وصف أمانة أحد تعرفه, فتقول: (إنى أثقُ فيه أكثر من نفسى) فهل يعنى ذلك أنك خائن؟, والله أعلم.





الشبهة المائتان ثلاثة و ثمانون (283):
- يقول زكريا: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً{5} يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:5-6] ويقول القرآن عن سليمان: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل:16] مع أن هذا وذاك يتناقض مع قول نبيكم عن نفسه وجميع الأنبياء: ((لا نُورَث, ما تركنا صدقة)) [متفق عليه] أى أن أهليهم لا يرثونهم, وما تركوه يكون صدقة.

الرد:
- إن الميراث الذى جاء ذكره فى الآيتين الكريمتين, ليس ميراثاً دنيوياً, أى أن سيدنا زكريا لم يتمنَّ أن يهبه الله من يَرِث ترِكَته, ولكنه تمنى أن يرزقه الله من يرث نبوَّته, وكذلك فإن سيدنا سليمان لم يرث متاع الدنيا عن أبيه, بل ورث عنه النبوة. أما حديث الرسول - صلى الله عليه و سلم - فمعناه أن ما تركه الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - من متاع الدنيا, فلا يرثه أهليهم, بل يكون صدقة توزع على الفقراء من بعدهم, والله أعلم.




انتهى
و