ونحن نذهب إلى أن العلمانية (وحدة الوجود المادية والمرجعية المادية الكامنة) هي الإطار المعرفي النهائي للحضارة الغربية الحديثة. ولكننا نذهب أيضاً إلى أن الرؤية العلمانية هي في واقع الأمر رؤية حلولية كمونية مادية لا تفصل الدين عن الدولة وحسب وإنما تعزل القيم المطلقة (المعرفية والأخلاقية والإنسانية والدينية) عن الدنيا، بحيث يصبح مركز الكون كامناً فيه ويُردُّ الواقع بأسره (الإنسان والطبيعة) إلى مستوى واحد، ويصبح كله مجرد مادة محضة نافعة نسبية لا قداسة لها تُوظَّف وتُسخَّر. والهدف من وجود الإنسان في الأرض هو زيادة معرفة قوانين الحركة والطبيعة البشرية والهيمنة عليها من خلال التقدم المستمر الذي لا ينتهي، ومن خلال تَراكُم المعرفة وسد كل الثغرات وقمع الآخر إلى أن يخضع كل شيء (الإنسان والطبيعة) لحكم العقل وقانون الأرقام (وهو قانون يستمد مشروعيته من المعارف العلمية المادية)، بحيث تَحوَّل الواقع بأسره (طبيعة وبشراً) إلى جزء متكامل عضوي تنتظمه شبكة المصالح الاقتصادية والعلاقات المادية، فيخضع الواقع للواحدية المادية ويصبح أشبه ما يكون بالسوق والمصنع. وقد تم ترشيد كل شيء على هدي المعايير العلمية الواحدية المادية والنماذج التي تستند إلى مفهوم الطبيعة/المادة بحيث أصبح كل شيء فيه محسوباً ومضبوطاً بعد استبعاد كل الاعتبارات غير المادية، مثل الغيبيات والمطلقات والخصوصيات، ذلك لأن ما بداخله غيب أو أسرار، وكل ما هو فردي فريد لا يمكن قياسه أو التحكم فيه أو غزوه أو توظيفه أو حوسلته. وقد تم تهميش الإله أو إلغاؤه باسم الإنسان وصالح الجنس البشري. وبعد إلغاء أية مرجعية متجاوزة، تظهر المرجعية الكامنة فيصبح مركز الكون كامناً فيه، ويصبح الإنسان مركز الكون (دون أي استخلاف من الإله) وتظهر الحركة الإنسانية (الهيومانية). ولكن في إطار المرجعية الكامنة يُختَزل الإنسان ويُردُّ في كليته إلى الطبيعة/المادة، ويصبح إنساناً طبيعياً (مادياً) غير قادر على تجاوز ذاته الطبيعية المادية ولا يتجاوز الطبيعة/المادة بحيث يسري عليه ما يسري على الظواهر الطبيعية من قوانين وحتميات، وهذا ما يعني أن الإنسان يفقد إنسانيته المركبة وتُنزَع عنه القداسة تماماً. والإنسان الطبيعي إنسان لا حدود ولا قيود عليه، يقف وراء الخير والشر، متمركز حول منفعته ولذته، لا راد لقضائه أو لرغبته في البقاء. وهو لا يلتزم بأية قيم معرفية أو أخلاقية أو أبعاد نهائية، فهو يتبع القانون الطبيعي ولا يلتزم بسواه بل لا يمكنه تجاوزه. لكل هذا أصبح الإنسان كائناً غير قادر إلا على التمركز حول مصلحته ومنفعته ولذته المادية وبقائه المادي، فمفهوم «الإنسانية جمعاء» مفهوم أخلاقي مطلق ميتافيزيقي متجاوز لقوانين المادة، وليس هناك ما يُلزم الإنسان الطبيعي (مرجعية ذاته المتمركز حولها) بأن يؤمن بمثل هذه المطلقات وهذه المُثُل العليا غير المادية، فماذا في قوانين الطبيعة وقوانين الحركة وقوانين الضرورة يُلزمه بأن يتجاوز مصلحته الخاصة الضيقة وألا يُحوِّل الآخر إلى مادة تُوظَّف لصالحه؟
المفضلات