بولس يحرف دين المسيح استجابة لنزوات اليونان و خلافه مع برنابي.

كان قبول دعوة المسيح مسألة سهلة ليهودي منفتح القلب, فتعاليم المسيح ليست سوى دليل ينير نمط عيش اعتاد عليه. أمّا غير العبراني, الذي رأى التقليد اليهودي تقليدا غريبا و حقيرا, فقد استصعب تعاليم المسيح. فاليونانيون, عُبّاد الحشود الهائلة من الآلهة, لم يعيروا اهتماما لرفع عدد آلهتهم, لكنهم غالبا ما تصدوا بحزم لعقيدة توحيد الله و نفي العبادة لغيره. هنا ظهر بولس كالرجل المناسب لتهيئ تعاليم المسيح لتُصبح موافقة لأهواء هؤلاء. لم يتقبل برنابي ذلك. فأدى توتر العلاقات بينهما إلى انفصالهما عن بعضهما. فاصطحب برنابي مرقس و سارا معا إلى قبرص.

بولس ينشر النصرانية المحرفة غربا

أمّا بولس فقد اتخذ سبيله في اتجاه الغرب رفقة بطرس. و في غياب استقامة برنابي و نصائح أتباع المسيح لردعه, لم يجد بولس معارضة للعقائد الجديدة و للسلوكيات و التعاملات التي تبناها. بل و ازداد مروق بولس عن تعاليم المسيح, واضعا انحرافه هذا على لسان المسيح الذي –كما زعم- كان يتجلى له في الرؤى. لقد اعتمدت تعاليمه كلها على الجانب الغيبي الخيالي, و ليس على شهادات تاريخية خلفها المسيح. حجته ضد أولئك الذين اتهموه بتحريف رسالة المسيح اعتمدت على ادعائه أن دعوته مستمدّة من وحي مباشر من المسيح, و أن سلطته إذن سلطة ربانية. هكذا إذن, و حسب هذه ”السلطة” التي ادّعاها, بَرَكَات رسالة المسيح لا تقتصر على اليهود بل هي مهداة لكل من آمن بها. بعد ذلك, ادّعى أن تعاليم الشريعة الموسوية (نسبة لموسى عليه السلام) ليس فقط غير ضرورية, و إنما معارضة لما أوحى به الرب. لقد كانت تلك التعاليم ”لعنة” بل و المسيح نفسه ”لعنة” و العياذ بالله:

”و المسيح حرّرنا من لعنة الشريعة بأن صار لعنة من أجلنا, فالكتاب يقول: (ملعون كل من مات مُعلّقا على خشبة)…”(رسالة بولس إلى غلاطية 3-13).

هكذا أثار بولس غضب أتباع المسيح و اليهود على حد سواء فقد وجدوا أنفسهم أمام رجل يلعن دينهم ودين آبائهم الأولين. لكن المسألة كانت بسيطة, فبولس كان يُدافع عن أفكاره في وسط يبغض اليهود و لم يسبق له أن سمِع تعاليم المسيح من قبل. و قد برر أفعاله مؤكدا أن الغاية تبرر الوسيلة. كما لم تكن له فكرة واضحة عن تصوراته:

”و إن كان لا بد لي من الافتخار – مع أنه لا نفع منه – فأنتقل إلى الكلام على رُؤى الرب و ما كشفه لي. أعرف رجلا مؤمنا بالمسيح خُطِف قبل 14 سنة إلى السماء الثالثة. أبجسده؟ لا أعلم. أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. و إنما اعلم أن هذا الرجل خُطِف إلى الفردوس: أبجسده أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. أعلم أنه خُطف إلى الفردوس و هٌناك سمِع كلاما لا يقدر بشر أن ينطق به و لا يجوز له أن يذكره…” (رسالة كورنثوس الثانية 12-1/5)

هكذا نرى أن بولس لا يعلم إن كان الرجل الذي لقيه في ”جسده” أو ”خارج جسده”. رجل ينطق ”بكلام لا يقدر بشر أن ينطق به”. لقد طلب بولس من أتباعه أن يقلدوه بطريقة عمياء و كان يغضب من أولئك الذين يتّبعون الحواريين أتباع المسيح. لقد اتهمهم بتحريف إنجيله:

”عجيب أمرك ! أبمثل هذه السرعة تتركون الذي دعاكم بنعمة المسيح و تتبعون بشارة أخرى؟ و ما هناك ”بشارة أخرى” بل جماعة تُثير البلبلة بينكم و تُحاول تغيير بشارة المسيح. فلو بشرناكم نحن أو بشّركم ملاك من السماء ببشارة غير التي بشرناكم بها, فليكن ملعونا. قُلنا لكم قبلا و أقول الآن: إذا بشّركم أحد ببشارة غير التي قبلتموها منّا, فاللعنة عليه.”(رسالة بولس إلى غلاطية 1-6/9).

هذه الآيات تدل بما لا يدع مجالا للشك وجود ”إنجيل آخر” أو ”بشارة أخرى”. ليس هناك ما يدل على أن الإنجيل –الوحي الذي نزل على عيسى من الله عز وجل – قد جُمِع و كٌتِب تماما على الشكل الذي أوحي إليه. من المحتمل أن بولس كان يقصد تلك الروايات و الشهادات التي وصفت حياة المسيح, كإنجيل برنابي الذي أُتلف ثلاثة قرون بعد ذلك, على إثر مجمع نيقية. قد يكون بولس صادقا و متحمسا في أفعاله, لكن حميته الضالة كانت وبالا على النصرانية و أكثر تدميرا على الناصريين من اضطهاده لهم أيام كان ”حبر الأحبار اليهود”. لقد كان لتعاليم بولس بعد وفاته أثر لم يكن يتوقعه هو نفسه. فكتابه الذي سمّاه ”إنجيل المسيح” أدى إلى تحريف كبير لتعاليم عيسى عليه السلام و هيّأ بذلك الطريق لتغيير فكرة الناس عن ”من هو المسيح”. لقد تحوّل في أذهان الناس من رجل إلى ”مفهوم”. فصورة المسيح عند بولس ليست صورة رجل عادي, يحي ثم يموت, بل هي صورة اختلطت فيها صفات الله عز وجل بالمسيح, خاصة - كما رأينا أعلاه – و أنه كان بإمكانه نسخ ما جاء به المسيح. هكذا تحولت هذه الصورة الخيالية للمسيح إلى محط عبادة و أصبح من الصعب التمييز بين الرب و يسوع. هذا الاعتقاد الفاسد وضع مريم الصديقة في وضعية مستحيلة: فمريم عليها السلام هي أم الرب.


يتبع إن شاء الله