صفحة 2 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 36
 
  1. #11
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 14

    افتراضي


    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سوفانا مشاهدة المشاركة
    لا لا انا كنت عاوزة اعرف اسم الكاتب او المؤلف عشان طريقته لا تدل انه من المعاصرين
    وطلع فعلا من كبار المؤرخين القدامى
    بارك الله فيك لعى النقل الطيب
    وبارك الله فيكي على المتابعة
    وهذا رابط للتعريف بالدكتور راغب السرجاني لمن لا يعرفه
    http://islamstory.com/node/2917




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  2. #12
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 14

    افتراضي


    فتح بصرى

    حقق خالد بن الوليد انتصارات عظيمة في أرض فارس، وترك جيشه في الحيرة، وذهب للحج سرًّا، تاركًا عددًا من قادته لقيادة الجيش، دون أن يستأذن الخليفة، وعاد على الفور، وكان الموقف لا يزال متأزمًا في دمشق بالشام، فقرر أبو بكر الصديق أن يرسله إلى الشام؛ لأن الموقف في الشام متوتر، على العكس من فارس فالوضع هناك مطمئن جدًّا، فأرسل خطابًا إلى خالد، بعد أن استشار مجلس الحرب، وكان عمر بن الخطاب يرفض نقل خالد، بل يرى أن يُعزَل، وكان يرى أن ذهابه للحج بدون إذن الخليفة أمر عظيم! أما الصديق فقال: والله لأُنسينَّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، والله لا أشيم سيفًا سلَّه الله على الكفار, فأرسل له رسالة بتعيينه أميرًا على جيش الشام.

    موقف عمر من خالد رضي الله عنهما:

    كان عمر يرى في سيف ابن الوليد رهقًا، أي أنه شديد العنف مع الكفار، ويرى أنه لم يكن يترك لهم فرصة كافية للاختيار بين الإسلام، أو القتال، وهذا مخالف للواقع، إذ كان الصديق يراه قائدًا ناجحًا، وكان يؤيده باستمرار، حتى إنه بعد مقتل 70 ألف فارسي في موقعة أُلَّيْس, قال: "أعجزت النساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد؟!!"، ولما هدم أماغشيا على أهلها، ورأى عمر في ذلك إرهاقًا للفرس، ومجاوزة للحد في قتلهم، قال أبو بكر عنه: "أيها المسلمون، عدا أسدكم على الأسد".

    - كما كان عمر يرى أن الناس قد فتنت بخالد بن الوليد، وقد يظنون أن النصر إنما يأتي من خالد، وليس من عند الله ، وكان لدى جيشه الكثير من الاحترام والمهابة والتقدير له، ولكنهم -حتى في غيابه- كانوا يؤدون أداءً جيدًا، فقد استطاع خالد أن يربي مجموعة من القادة تمكنت بمفردها من فتح فارس كلها بعد ذلك.

    نأخذ من ذلك أن الطبائع النفسية لدى كلا الصحابيين الجليلين لم تكن تتواءم معًا، ربما لكونهما متماثلين في القوة، والشدة، فكان من الصعب التقاؤهما معًا.

    (ونعلم عن عمر بن الخطاب عندما ولي أمور المسلمين، أنه كان يريد أن يعرف كل شيء بنفسه، ولا يقوم أي من قادته بخطوة إلا بعد إذنه ومشورته، ففي فتح القادسية يطلب من سعد بن أبي وقاص أن يصف له أرض المعركة كأنه يراها، حتى يضع له الخطة المناسبة, أما خالد بن الوليد فكان يتصرف في الجيش وفق ما يتراءى له في أرض المعركة، وكان الصديق يعلم ذلك عن خالد، ويثق في رأيه، وحكمته الحربية، وغيره من القادة, فيضع لهم الخطة العامة، ويترك لهم حرية التصرف في أرض المعركة، وكلا الطريقتين صواب، ولكن لكل منهما وجهة نظره..

    فهناك تراوح بين الشدة واللين باستمرار، حتى في الفقه، نجد -مثلاً- أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يُعرف بالشدائد، ونجد عبد الله بن عباس معروفًا باللين والرخص، فعبد الله بن عمر كان لا يحمل الصبي وهو صغير مخافة أن ينجسه بول الصبي، أما ابن عباس فكان يحمله ويقول: "إنما هي رياحين نشمها"، كان ابن عمر حريصًا على تقبيل الحجر الأسود، فيحاول الوصول إليه حتى تَدْمى قدماه، ويقول: "هوت إليه الأفئدة، وأحب أن يهوي إليه فؤادي"، أما ابن عباس فكان يشير إليه من بعيد، ويقول: لا يُؤْذَى، ولا يُؤْذِي.

    وكلاهما على صواب حتى في عهد رسول الله ، حدث أن صلى اثنان من الصحابة لاتجاه مختلف من القبلة، فلما علما أعاد الصلاة أحدهما، ولم يعدها الآخر، فرجعا للرسول، فقال لمن أعاد: لقد أخذت أجرك مرتين، وقال للذي لم يُعِدْ: أصبت السنة, فكلاهما على خير، وقد كان عمر بن الخطاب شديدًا حتى على نفسه، لدرجة أنه كان لا يصلي الوتر قبل أن ينام، بل يصليه بعد قيام الليل وقبل الفجر؛ لأنه يعلم لشدته على نفسه أنه لا بد مستيقظٌ لقيام الليل، ولكن الصديق ، على ورعه وتقواه كان يصلي الوتر قبل أن ينام، مخافة أن يفوته..

    وهكذا هما مدرستان مختلفتان، ودائمًا ينسجم اللين مع الشدة، فكان الصديق مطمئنًا لخالد بن الوليد، في حين اختلف عمر عنه في ذلك..

    يرسل الصديق لخالد بن الوليد خطابًا لتعيينه أميرًا على جيوش الشام، يلومه في بداية الخطاب على خروجه للحج دون أن يستأذنه، وقال له: لا تعد إلى ذلك ثانية، وحذره من العُجْبِ بنفسه، ثم قال له: "إذا جاءك كتابي هذا، فدع العراق وخَلِّفْ أهله فيه الذين قدمت عليهم وهم فيه، ثم امض مخففًا في أهل القوة من أصحابنا الذين قدموا معك العراق من اليمامة وصحبوك من الطريق وقدموا عليك من الحجاز حتى تأتي الشام, فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة. والسلام عليك ورحمة الله".

    نلاحظ في هذا الخطاب أن الصديق يأمره فيه أن يترك العراق، بخلاف الخطاب الذي وجهه لعمرو بن العاص، وهو هنا لا يخُيرِّ خالدًا كما فعل مع عمرو، ولكنه يأمره أمرًا مباشرًا، لأنه لا يرى أن غيره يمكن أن يحل محله، مع أن هذا الأمر قد يكون شديدًا على نفس خالد بن الوليد، (إذ إنه بعد انتصاره في 16 موقعة متتالية، واستيلائه على معظم أرض العراق حتى غرب نهر دجلة، قد أصبح قريبًا من المدائن، ومن إسقاط الدولة الفارسية)..

    وتصل هذه الرسالة إلى خالد فيفهم محتواها، ويقول: "أما إذ ولاَّني، فإن في الشام خلفًا عن العراق", ويقوم له أحد قواده بشير بن ثور, فيقول له: أصلحك الله، والله ما جعل الله الشام من العراق خلفًا، والعراق أكثر من الشام حنطةً وشعيرًا، وديباجًا وحريرًا، وفضةً وذهبًا، وأوسع سعة وأعرض عرضًا، والله ما الشام كله إلا كجانب يسير في العراق, ونلاحظ أن نظرة بشير بن ثور لهذا الأمر نظرة ضيقة جدًّا، أما خالد بن الوليد فقد كانت نظرته مختلفة.

    خالد بن الوليد يتجه إلى الروم:


    بعد أن أرسل خالد الرسالة، انطلق بجيشه وتحرك إلى الشام، ولكنه سلك طريقًا مختلفًا تمامًا عبر منطقة وعرة جدًّا هي (صحراء السَّمَاوَة) التي لم تكن تعبر فيها أية قوافل، وكان الطريق المعروف إلى دمشق بالنزول منها جنوبًا إلى دومة الجندل ثم غربًا حتى جنوب البحر الميت حتى تصعد شمالاً إلى دمشق، وهو طريق آمن ومأمون بالنسبة للمسلمين، فلماذا سلك خالد ذلك الطريق الصعب الوعر إلى دمشق؟!! وهي ولا شك عبقرية منه في الخطة، وفي الأداء، إذ نلحظ على ذلك التحرك ما يلي:

    1- أراد خالد أن يصل إلى أرض الشام بسرعة، وهذا الطريق على الرغم من وعورته إلا أنه أقصر. بل إنه طريق مباشر إلى دمشق، وذلك لأن خالدًا يثق في سرعة جيشه، وقوة أدائه، فقد كان معروفًا بأنه يُسرع من خُطَى جيشه، فإذا كان الجيش يسير في المعتاد بسرعة 50 كلم في اليوم، فإنه يجعله يسير 100كلم في اليوم، وفي هذه الرحلة كان يسير بسرعة 50كلم، حتى وصل لمنطقة قبل (الشجرة العظيمة) التي ذكر له الدليل أنه إن لم يقطعها في يوم واحد هلك هو وجيشه، لقلة الزاد فيها، فاستطاع فعلاً أن يتجاوزها في يوم واحد وقطع 100 كلم في يوم واحد، وصَبَّح القوم عند الشجرة العظيمة.
    فليس خالد وحده الفذّ وإنما كان جيشه -أيضا- جيشًا فذًّا، فإذا كان لديه القدرة على أن يسير هذه المسافة بهذه السرعة وفي هذه الظروف الشاقة، فإن هؤلاء الآلاف التسعة من الرجال لا شك أنهم أقوياء جدًّا وذوو كفاءة عالية.

    2- أراد خالد كذلك أن يزيد من حصار الجيش الإسلامي لمنطقة الشام؛ لأن المسلمين كانوا قد حاصروا الجنوب والشرق، وهو يزيد من دخوله شمالاً في الحصار.

    3- يعلم خالد أن الروم لا يمكن أن يتوقعوا أن يأتيهم جيش من الشمال أو الشرق وإنما كان كل ظنهم أن المدد سيأتي المسلمين من الغرب أو الجنوب، فمجيء خالد بجيشه من الشمال يُعَدُّ مفاجأة للروم، إذ إنهم لم يتوقعوا أبدًا أن يعبر أحدٌ صحراء السماوة بجيش كبير كجيش خالد!

    يذكر الرواة أن خالدًا كان دائمًا يسبق الخبر، فإذا كان في المنطقة عيون (جواسيس) لجيش الأعداء، فإنه يسبقهم ويصل إلى الأعداء مباشرة!!

    خالد يقتحم الـشام:


    قطع خالد المسافة من الحيرة إلى دمشق في ستة أيام، ويصل إلى منطقة تسمى (أرج)، وبعد أن وضع قدميه في أطراف الشام باغت أهل (أرج) فهجم عليهم وحاصرهم، فلم يجدوا لهم طاقة بخالد وجيشه؛ فاستسلموا، ورضوا بدفع الجزية وفُتِحَت مدينة (أرج) صلحًا، ثم ترك (أرج) وذهب إلى (تَدْمُر)، وحاصرها فاستعصت عليه؛ لأن أسوارها عالية ولم يخرج أهلها لحربه، بل ظلوا داخل حصونهم، ولما كان يريد أن يسرع حتى يلحق بالمسلمين في الشام، أرسل لهم رسالة يقول لهم فيها: "والله لو كنتم في السحاب لاستنزلناكم، ولظهرنا عليكم، وما جئناكم إلا ونحن نعلم أنكم ستفتحونها لنا، وإن أنتم لم تصالحوني هذه المرة، لأرجعنَّ إليكم، لو قد انصرفت من وجهي هذا، ثم لا أرتحل عنكم حتى أقتل مقاتلتكم، وأسبي ذراريكم"..

    ورحل عنهم، فتشاور كبار القوم فيهم، ورأوا أنهم لا طاقة لهم به، وأنه الذي وُعِدوا به (كان عندهم في كتبهم أنه سيفتح المدينة أحد من هذه الجهة) فأرسلوا رسولاً في إِثْرِ خالد بن الوليد، فعاد خالد إلى (تدمر) مرة أخرى، وتسلم المدينة، وصالحوه على الجزية، وهكذا نُصِرَ بالرعب ، ثم انتقل إلى (القريتين) فقاتلهم خالد، وسبى منهم السبايا وأخذ منهم الغنائم، ثم انتقل إلى مدينة (حواريين) وحاصرهم، فرفضوا قتاله، ولكنهم أرسلوا في طلب المدد، فجاءهم ألفا مقاتل من بَعْلَبَك وألفان من بُصرى، فترك جيشه محاصرًا لحواريين، وانتخب مائتي مقاتل ممن معه، وهاجم المدد القادم من بعلبك أولاً، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم التف حول (حواريين) وقتل المدد القادم من بصرى، فقتل 4 آلاف رجل خارج (حواريين)، واستمر في حصار (حواريين) حتى خرج له جيشها، ثم أيقنوا أنهم لا طاقة لهم بقتاله، فاستسلموا ودفعوا الجزية.

    توجه خالد بعد ذلك إلى مرج راهط وكانت نصرانية لسُكنى قبائل غسان بها، وكما يقول الرواة (ابن كثير في البداية والنهاية): "فهجم على مرج راهط، فانتسف عسكرهم، وسبى منهم وغنم", وأرسل خمُس الغنائم إلى أبي بكر الصديق ، كل ذلك ولم يصل حتى الآن إلى أبي عبيدة وجيش الشام..

    يروي أحد من هُزِمَ في حواريين، ثم أسلم بعد ذلك يقول: "والله لقد خرجنا إلى خالد، وإنا لأكثر منهم بأضعافهم، فما هو إلا أن دنونا منهم فثاروا في وجوهنا بالسيوف، كأنهم الأُسْدُ، فهزمونا أقبح هزيمة، وقتلونا أشد القتل، وقد رأيت منا رجلاً كنا نَعُدُّه بألف رجل، وكان يقول: لئن رأيت أميرهم لأقتلنَّه، فلما رأى خالد قال له أصحابه: هذا أميرهم فاقتله، فأقبل على خالد، وحمل عليه، وإنا لنرجو أن يقتله من بأسه وشدته، فلما دنا من خالد استقبله خالد بالسيف، فضربه ضربة واحدة فأطار نصف وجهه وقَحْفَ رأسه، فدخلنا مدينتنا وما كان لنا من همٍّ إلا الصلح!!"، ويقول عن خالد عندما يقاتل: كان له هيبة، وكان يربو على القوم (أي يعلو)، وهذا من نِعَمِ الله على خالد الذي جعل حياته وقفًا على الجهاد في سبيله, أن جعل الكفار يرهبونه بمجرد رؤيته، ومنحه العلوَّ عليهم، وكذلك كل من أخلص جهاده لله I.

    في موقعة مرج راهط سبى المسلمون سبيًا كثيرًا، يحكي أبو الخزرج الغساني (ابن إحدى السبايا) عن أمه أنها لما رأت حال المسلمين أسلمت، ثم جاء زوجها يطلبها من المسلمين، وكان قد أسلم، ولكن زوجته لم تعلم، فقالت: "إن كان قد أسلم فَنَعَمْ، وإن لم يكن ذلك، فليس لي حاجةٌ فيه"، فقالوا لها: إنه أسلم، فعادت إليه, وهكذا كان سلوك المسلمين -دائمًا- دافعًا للناس حتى من أعدائهم للدخول في الدين، فقد كانوا ملتزمين بأخلاق الإسلام في كل أمر، ولم يجبروا أحدًا على الدخول فيه، ولكن الناس رأوا منهم العدل والرحمة التي أمر الله بها، ولم يجدوها من بني جلدتهم، ففضلوا الإسلام رغم رقهم على الاستمرار في الكفر ولو عادوا به أحرارًا.

    بدء المعركة:

    وبمجرد أن علم جيش الروم في بصرى بتجمع الجيوش الإسلامية (نحو 33 ألف مجاهد)، خرج مباشرة لقتال خالد ومن معه، وبادر خالد على الفور بتنظيم جيشه, فجعل نفسه في قلب الجيش، وجعل رافع بن عمرو على الميمنة، وضرار بن الأزور على الميسرة، وقسم المؤخرة إلى نصفين المسيب بن نشبة يمينًا، ومذعور بن عدي شمالاً، وجعل المؤخرة بعيدة عن الجيش، لتأخذ أطراف المعركة، نلاحظ أن قادة الجيش كانوا جميعًا من جيش خالد القادم من فارس.

    خرج جيش بُصرى من الحصن، وبدأ يواجه الجيش الإسلامي، وكان خالد قد أمر المؤخرة ألا تشترك في القتال إلا بعد أن يأمرها بذلك، وقام بالهجوم على جيش الروم بالمقدمة والميمنة والميسرة فقط، فحمل جيش الروم عليه حملة عظيمة، فصبر خالد على هجماته الشديدة المتتالية، ثم نادى على الجيش بقوله: "يا أهل الإسلام الشدة الشدة، احملوا -رحمكم الله- عليهم، فإنكم إن قاتلتموهم محتسبين تريدون بذلك وجه الله، فليس لهم أن يواقفوكم ساعة", كل ذلك والمؤخرة لا تحارب، يقول قيس بن أبي حازم: " لقد كنا مطمئنين لما يفعله خالد؛ لأننا كنا نعلم أن القليل من العدو والكثير عنده سواء، فإنه لا يملأ صدره منهم شيء".

    واستمر القتال على أشده حتى ظن الفريقان أن صبرهما قد نفد، فأمر خالد فرقتي المؤخرة المتأخرتين، فهجمتا من بعيد والتفَّتا من أعلى القوم، ثم انقضتا على جيش الروم من خلفه، فكانت هزيمة داحرة لجيش الروم، وقتلوا مقتلة عظيمة, وهرب بقيتهم إلى داخل حصن بُصرى، وأعلنوا الاستسلام ودفع الجزية، فقام خالد بن الوليد بجمع غنائم الحرب التي خلَّفها الرومان خارج الحصن..

    انتصار كاسح وأهل بصرى يدفعون الجزية:

    وبذلك فتحت بُصْرَى في 25 ربيع الأول عام 13هـ. (أي بعد شهر من قدوم خالد بن الوليد) وهي من أعظم المدن الموجودة في هذه الفترة.

    وما إن وصلت أنباء موقعة بصرى إلى هرقل حتى قال: ألم أقل لكم: لا تقاتلوهم؟!! فإنه لا قوام لكم مع هؤلاء القوم (ونعلم أن هرقل كان رافضًا للحرب، موقنًا بنصر المسلمين)، فقال أخوه: قاتل عن دينك، ولا تجَبنِّ الناس، واقضِ الذي عليك, فقال: وأي شيء أطلب إلا توقير دينكم؟!!

    وفرق كبير بين جيش كجيش الروم، قائده موقن بالهزيمة، ولا يرى جدوى من القتال، وبين جيش قائده أبو بكر الصديق ، الذي ما فتئ يحمسه، ويحثه على القتال، ويوثقه بالنصر أو الشهادة..

    وكان رد فعل الروم على هزيمة الجيش الرومي في بصرى شديدًا وذكيًّا، إذ أخرجوا قوتين كبيرتين: الأولى إلى جِلَّق من70 ألف رومي، وقوة أخرى من حمص في 10 آلاف مقاتل. ولكن إلى أين اتجهت؟ وماذا فعلت؟ هذا ماسنعرفه في المقال التالي بإذن الله.

    يتبع بإذن الله ،،،





    [SIGPIC][/SIGPIC]


  3. #13
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 14

    افتراضي


    معركة أجنادين
    http://www.albshara.net/showthread.php?t=43716



    يتبع إن شاء الله ،،،




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  4. #14
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 14

    افتراضي


    موقعة مرج الصفر

    بانتصار خالد بن الوليد في موقعة أجنادين سيطر المسلمون على جنوب فلسطين، وامتلكوا بذلك جزءًا من أرض الشام، وهربت الحامية الرومية التي كانت موجودة في جلق، وكانت حامية بصرى قد هزمت من قبل، فأصبحت أهم قوة يجب أن يتوجه إليها خالد في الشام هي (حامية دمشق)، وقرر خالد أن يعود من أجنادين لحصار دمشق مرة أخرى، وكانت دمشق ذات أسوار حصينة، وبها حامية قوية، لم تحارب المسلمين من قبل بل كانت تكتفي بالتحصن وإلقاء السهام عليهم..
    فالتف خالد بن الوليد عليهم من جنوب البحر الميت ثم صعد شمالاً إلى البلقاء، ثم إلى بُصرى، ثم إلى دمشق، ولم يتجاوز أرض فلسطين من منتصفها، خوفًا من وجود حاميات رومية مختبئة في هذه الأرض، والمسلمون ليس لديهم دراية كافية بهذه الأرض، ووصل بجيشه إلى دمشق، وحاصرها، وخلف في البلقاء (شرحبيل بن حسنة) لحماية مؤخرة المسلمين، وترك معه 2500 جندي، وصعد مع أبي عبيدة ويزيد وعمرو بجيوشهم إلى دمشق لحصارها من جميع الجهات..
    بعد أن حاصر المسلمون دمشق، قرر هرقل إرسال حامية من (حمص) حتى تلتف حول الجيش الإسلامي الموجود في الجنوب، وحامية أخرى من الشمال، حتى تضع الجيش الإسلامي بين فكي كماشة!


    موقعة مرج الصفر :

    توجهت الجيوش الرومية (في 30 ألف مقاتل) من حمص إلى مرج الصفر حتى تصعد إلى دمشق، ولكن خالدًا علم من مخابراته بتوجههم ذاك، فقرر ألا ينتظر حتى تأتيه الجيوش، وأخذ جيشه وتوجه إلى الجيوش الرومية قبل أن تصل إلى دمشق، والتقى بهم في مرج الصفر، ولم تكن الجيوش الرومية مستعدة لذلك اللقاء، وبذلك التقى المسلمون والروم في مرج الصفر للمرة الثانية، ودار بينهما قتال عنيف للغاية، وجعل خالد ترتيب الجيش كما كان عليه في أجنادين، مع اختلاف يسير وهو وضع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على الميسرة، وبقي على الميمنة معاذ بن جبل ، وعلى القلب أبو عبيدة وسعيد بن زيد، وبقي هو في المقدمة، ويتنقل في كل المواقع، وكانت موقعة شديدة..
    وكان جيش الروم آنذاك أعدادًا ضخمة قادمة من أنطاكية ومن حمص لم تهزم قبل ذلك مع جيش الروم في أجنادين، صبر الفريقان، وطالت بهم المدة حتى نهاية اليوم، وكان أشد المسلمين ضراوة في القتال خالد بن سعيد ، الذي كان قد هُزِم من قبل في مرج الصفر والتي هُزم فيها، وكأنه يكفر عن خطئه، فجاهد جهادًا عظيمًا حتى استشهد وأرضاه في آخر اليوم..
    حيث انتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا، ولكن بثمن غالٍ، سقط خمسمائة شهيد من المسلمين، في مقابل خمسمائة قتيل وأسير من الروم، وجرح 4 آلاف مسلم. وهرب الجيش الرومي جرَّاء ذلك الانتصار.. وكان ذلك بعد موقعة أجنادين بعشرين يوم.. في السابع عشر من جمادى الآخرة عام 13 هـ..
    مما يذكر في هذه الموقعة: أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام زوجة خالد بن سعيد رضي الله عنهما، كانت زوجته لليلة واحدة، أي أنه تزوجها في ليلة مرج الصفر، وكانت أرملة أحد شهداء المسلمين في فتح الشام، فلما علمت أم حكيم بمقتل زوجها ما كان منها إلا أن أخذت عمود الفسطاط وتلثمت، وخرجت تقاتل الروم، واختلف الرواة: أقتلت منهم أربعة، أم سبعة؟!! وعادت دون أن تصاب بجرح، فلا نامتْ أعينُ الجبناء!



    وفاة أبي بكر واستخلاف عمر :

    بعد ذلك الانتصار الثمين الذي حققه المسلمون في مرج الصفر، عاد المسلمون مرة أخرى إلى حصار دمشق، وأصرَّ الجيش الرومي على عدم الخروج، وكان الأولى به أن يخرج في الفترة التي ذهب المسلمون فيها للقتال في مرج الصفر، ولكن الله ألقى في قلوبهم الرعب، فبقوا في حصونهم، حتى عادوا إليهم مرة أخرى..
    وفي هذه الأثناء يحدث للمسلمين حدثٌ جلل، ومهم للغاية في المدينة المنورة.. وهو مرض خليفة رسول الله ، ومكوثه في بيته 15 يومًا، يؤم المسلمين أثناءها عمر بن الخطاب الذي أمره بأن يخلفه، يمرض الصديق ، الذي أمضى حياته كلها جهادًا في سبيل الله.. ولم يمكث في الخلافة إلا عامين، استطاع فيهما أن يقمع كيد المرتدين، وأن يجمع القرآن الكريم, ويبدأ بفتوحات المسلمين حول الجزيرة العربية، في فارس فتفتح العرقا، وفي بلاد الروم، فيفتح جزءًا من الشام، وفعل ما لم يفعله السابقون ولا اللاحقون بعد رسول الله ..
    حتى يأتي يوم 22 من جمادى الآخرة عام 13هـ، إذ يرسل لعثمان بن عفان رضي الله عنه..
    جاء في الكامل في التاريخ لابن الأثير:
    أن أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خاليًا ليكتب عهد عمر، فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد. ثم أغمي عليه، فكتب عثمان: أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرًا. ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ عليَّ. فقرأ عليه، فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي. قال: نعم. قال: جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأهله.
    فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه عمر، فكان عمر يقول للناس: أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله، ، فإنه لم يألكم نصحًا. فسكن الناس، فلما قُرِئ عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا، وكان أبو بكر أشرف على الناس وقال: أترضون بمن استخلفت عليكم؟ فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر فاسمعوا له وأطيعوا، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي. فقالوا: سمعنا وأطعنا. ثم أحضر أبو بكر عمر فقال له: إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله، ، وأوصاه بتقوى الله ثم قال: يا عمر إن لله حقًّا بالليل لا يقبله في النهار، وحقًا في النهار لا يقبله بالليل (أي أن العبادات يجب أن تؤدى على أوقاتها، ومثل ذلك نصرة دين الله في الوقت الذي يحتاج النصرة)، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدَّى الفريضة، ألم تر يا عمر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم؟ وحق لميزان لا يوضع فيه غدًا إلا حق أن يكون ثقيلاً.
    ألم تر يا عمر أنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم؟ وحق لميزان أن يوضع فيه غدًا إلا باطل أن يكون خفيفًا. ألم تر يا عمر أنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا (أي أن الله عندما يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49], يتبعها بالآية الكريمة {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر: 50]، وهكذا حتى يصبح المؤمن بين الخوف والرجاء، بين الرغبة لثواب الله ورضاه وجنته، والرهبة من عقاب الله سبحانه، وسخطه، والنار) (فلا يلقي بنفسه إلى التهلكة، ولا يتمنى على الله غير الحق) لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبةً يلقي فيها بيديه. أو لم تر يا عمر أنما ذكر أهل النار بأسوأِ أعمالهم؟ فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو أن لا أكون منهم، وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه يجاوز لهم ما كان من سيئ فإذا ذكرتهم قلت: أين عملي من أعمالهم؟ فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت فلا بد لك منه، وإن أنت ضيعت وصيتي هذه، فلا يكونن غائبٌ أبغض إليك من الموت، ولا بد لك منه) ولست بمعجزه.
    وقد وقعت هذه النصيحة -ولا شك- موقعًا حسنًا من نفس الفاروق عمر ، إذ نشر العدل في بلاد المسلمين، لمدة 10 سنوات كاملة، هي مدة خلافته .

    المثنى في المدينة :

    كان هذا في صباح يوم 22 جمادى الآخرة، ويأتي المثنى بن حارثة من أرض العراق في هذه الفترة التي مرض فيها أبو بكر، وذلك بعد أن انفصل خالد بجيشه عنه ذاهبًا إلى الشام، وبمجرد انفصال خالد بجيشه، التحم المثنى بن حارثة والفرس في موقعة بابل وانتصر فيها انتصارًا ساحقًا، ولكن بعد ذلك حدثت بعض التغيرات في الحكم الفارسي أسفرت عن تجميع الجيوش الفارسية في كل مكان لحرب المسلمين، فلم يكن من المثنى بن حارثة إلا أن ترك الجيش الإسلامي في العراق، وجاء للصديق يستأذنه في المدد (وكان يريده من المرتدين الذين عادوا إلى الإسلام، ويريد أن يقنع أبا بكر بضرورة الاستعانة بهم!)..
    وعاد المثنى في فترة المرض تلك، حتى كان يوم 22 من جمادى الآخرة، إذ أفاق أبو بكر، وبدا للناس أنه عاد إلى صحته، (كما حدث لرسول الله قبيل وفاته)، فجلس إليه المثنى بن حارثة، وحدثه عن الموقف في أرض العراق، وقال له إن المسلمين بحاجة إلى المدد، ولم يحدثه في أمر المرتدين، فأرسل أبو بكر مباشرة إلى عمر بن الخطاب ، ويقول له: (يا عمر إني لأرجو أن أموت من هذا اليوم، فإن أنا مت في الصباح، فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى بن حارثة إلى العراق، وإن أنا مت في المساء، فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، للجهاد في العراق)، وهنا نرى أن الصديق يلفت انتباه خليفته إلى أهم الأمور التي يجب أن ينتبه إليها بعد وفاته، وهو الجهاد في سبيل الله، ومساعدة المجاهدين في أرض فارس مباشرة، دون تأخير، ويمتد العمر بالصديق حتى المساء، وما بين المغرب والعشاء في ذلك اليوم، يصل رسول خالد بن الوليد من الشام ببشرى الفتح معركة أجنادين.
    فيُسَرُّ سرورًا عظيمًا، ثم يلتفت إلى من حوله من أهله ويقول: (انظروا إلى ثوبي هذين، فاغسلوهما، وكفنوني فيهما، فإن الحيَّ أحوج إلى الجديد من الميت) أي أنه لا يريد كفنًا جديدًا.. وكانت آخر كلماته قبل وفاته : (رب توفَّني مسلمًا، وألحقني بالصالحين) قالها، ولفظ أنفاسه الأخيرة.. رحمه الله ورضي عنه..
    وكان وقع المصيبة عظيمًا على المسلمين، فوفاة أبي بكر حدثٌ جلل، ليس فقط لأنه أول خليفة للمسلمين، ولكن لما له من مكانة في قلوب المسلمين، والصحابة رضوان الله عليهم، وبمجرد تولي عمر بن الخطاب الخلافة، دُفِن أبو بكر الصديق بعد العشاء مباشرة، وبدأ في تنفيذ وصيته بأن يندب الناس في منتصف الليل للجهاد في أرض العراق، وظل يندب الناس 3 أيام، دون أن يخرج أحد!! وكان ذلك لأسباب عديدة: أحدها: تأثر المسلمين بوفاة أبي بكر، وخوفهم من بطش عمر حتى إن طلحة بن عبيد الله دخل على أبي بكر بعد أن علم بأنه ولَّى عمر من بعده، فقال له: استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك؟! فانتفض أبو بكر وأمسك بكتفه وهزه وقال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفني؟! (أي هل تظن أنك أكثر ورعًا مني، فتخوفني بالله؟!!) إذا لقيت ربي فسألني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك. (أي أنه يرى أن خير أهل الأرض آنذاك، وأفضلهم، وأجدرهم بالخلافة هو عمر ).. عن الكامل في التاريخ!!
    هذا بالإضافة إلى رهبتهم من القائد الفارسي رستم وقوة جيش الفرس، بالإضافة إلى أن كثيرًا من المجاهدين (نحو 50 ألف مجاهد) كانوا قد خرجوا في الشام والعراق وعلى أطراف الجزيرة العربية.. وغير ذلك.
    حتى خرج في اليوم الرابع أبو عبيد بن مسعود الثقفي، ثم قام ثلاثة بعده، وبعدهم قام ألف من المجاهدين، وأصرَّ عمر على أن يولي أبو عبيد بن مسعود على كل الجيش حتى الموجود في العراق.. على الرغم من أنه ليس له علم بالحرب!!

    الوضع في الجبهة الشرقية :

    في الميدان الشرقي في ذلك الوقت، ينتصر أبو عبيد بن مسعود الثقفي في ثلاث مواقع متتالية على الفرس، ثم يهزم هزيمة كبيرة جدًّا، في مواجهة جيش جابان الفارسي القوي في معركة الجسر ويُسْتَشهد، وكان الثمن في منتهى القسوة على المسلمين إذ يسقط منهم 4 آلاف شهيد (من إجمالي 10 آلاف مجاهد)، وفرَّ منهم 4 آلاف!! وتولى المثنى بن حارثة قيادة الجيش، ثم انتصر المسلمون بفضل الله انتصارًا عظيمًا في موقعة البويب وكان ذلك بعد نحو أسبوعين من هزيمتهم في الجسر.
    فكان عمر كلما جاءه مدد من المسلمين أرسله إلى العراق، وبذلك فإن الوضع في الشام قد غدا مطمئنًا، ومما لا شك فيه أن غياب خالد بن الوليد عن العراق بـ9 آلاف من جنود المسلمين، كان له أثر بالغ في إضعاف جيش المسلمين هناك، وكذلك كان لقيادة (أبو عبيد الثقفي) أثر، أما الوضع في الشام فكان مطمئنًا، فكان يرسل لأرض العراق كل المدد..
    الوضع الجديد في الشام :

    في أرض الشام، تجمعت بعض الجيوش الرومية القادمة من حمص، وأنطاكية في بعلبك وكان لديها الاستعداد أن تقدم إلى دمشق، فلما وصلتها أنباء هزيمة الروم في مرج الصفر تراجعوا وآثروا البقاء في حصون "بعلبك"، في ذلك الوقت أرسل أبو عبيدة بن الجراح شرحبيل بن حسنة رضي الله عنهما، الذي كان في البلقاء، يرسل له رسالة يأمره فيها بالانتشار في أرض الأردن وفلسطين، وبثِّ السرايا، والإغارة على القرى والمناطق المجاورة له، وجمع الغنائم، ودعوة الناس إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال..
    ولم يكن هناك حامية رومية قوية، فلم يكن من الناس إلا أن يقبلوا بالجزية، أو يدخلوا في الإسلام، أو يهربوا من الأرض، وتجمعت القوات الرومية الموجودة في كل مكان في (بيسـان) شمال فلسطين.. وعرف المسلمون أن الروم لديهم حاميتان: الأولى في بعلبك، والثانية في بيسان. وأن شرحبيل بمفرده في بيسان بالقرب منهم وليس معه سوى ألفين وخمسمائة من المجاهدين..
    وكان جيش المسلمين المتبقي حول دمشق 29 ألفًا، وتصل هذه الأخبار إلى أبي عبيدة، فيجمع قادة جيوش الشام كلها خالد، ويزيد، وعمرو، معه في خيمته، ليأخذ رأيهم في تجمعات الروم الجديدة.




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  5. #15
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 14

    افتراضي


    عزل خالد بن الوليد

    أرسل عمر رسالة إلى أبي عبيدة بن الجراح في أرض الشام مع مولاه يرفأ، جاء فيها:
    عن تاريخ دمشق لابن عساكر: "أما بعد فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله قد توفي، فإنا لله وإنا إليه راجعون, ورحمة الله وبركاته على أبي بكر الصديق العامل بالحق والآمر بالقسط والآخذ بالعرف اللين الستير الوادع السهل القريب الحكيم, ونحتسب مصيبتنا فيه ومصيبة المسلمين عامة عند الله تعالى وأرغب إلى الله في العصمة بالتقى في مرحمته والعمل بطاعته ما أحيانا والحلول في جنته إذا توفانا فإنه على كل شيء قدير، وقد بلغنا حصاركم لأهل دمشق وقد وليتك جماعة المسلمين فابثث سراياك في نواحي أهل حمص ودمشق وما سواها من أرض الشام وانظر في ذلك برأيك ومن حضرك من المسلمين ولا يحملنك قولي هذا على أن تغري عسكرك فيطمع فيك عدوك ولكن من استغنيت عنه فسيره ومن احتجت إليه في حصارك فاحتبسه (أي أن عمر بدأ يوجه القائد بنفسه، من مكانه كخليفة للمسلمين، فيأمره بإخراج السرايا إلى حمص، وما حولها، وألا تكن تلك السرايا كثيرة، فيضعف ذلك من شأن الجيش المحاصر دمشق) وليكن فيمن يُحتبَس خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه. (فاحتياج المسلمين لخالد بن الوليد أمر لا ينكره أحد، لذا نصحه أن يستبقيه مع الجيش الذي يحاصر دمشق)..
    وعلى هذا النحو جاء خطاب عمر لأبي عبيدة بلهجة رقيقة، ليس فيها أمرٌ مباشر، فقرأ أبو عبيدة الخطاب، وأخذه المفاجأة لوفاة الصديق ، ثم نادى معاذ بن جبل فأخبره، فاسترجع وقال: وما فعل المسلمون؟، فقال له يرفأ: استخلف أبو بكر رحمة الله عليه عمر بن الخطاب ، فقال معاذ: الحمد لله، وُفِّقُوا وأصابوا، فقال أبو عبيدة: لقد خشيت أن أسأل يرفأ خشية أن يقول أن الخليفة غير عمر. (وهكذا كان الصحابة متفقين على خلافة عمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما)، ثم قال يرفأ لأبي عبيدة: إن عمر بن الخطاب يسألك عن جيش المسلمين، ويسألك عن خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعن شرحبيل بن حسنة وعن معاذ بن جبل وهم قادة الجيوش، فقال أبو عبيدة: (أما خالد فخير أمير، وأشدهم على عدوهم من الكفار، فجزاه الله عنهم خيرًا) وفي هذا شهادة من أمين الأمة على أن خالد بن الوليد ذو كفاءة عالية، وأن اختياره للقيادة كان اختيارًا صائبًا، ثم يذكر أن بقية القادة كانوا أشداء على المشركين رحماء بينهم..

    ثم يقوم يرفأ لكي يعود إلى عمر، فيأمره أبو عبيدة بالانتظار حتى يكتب معه، ثم يجتمع هو ومعاذ بن جبل، فيكتبان رسالة إلى عمر جاء فيها: في تاريخ دمشق لابن عساكر (من أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، إنك يا عمر أصبحت وقد وليت أمر أمة محمد أحمرها وأسودها، يقعد بين يديك العدو والصديق، والقوي والضعيف، والشريف والوضيع، ولكل عليك حقٌ وحصة من العدل، فانظر كيف تكون يا عمر، وإنا نُذَكِّرُك يومًا تبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتظهر فيه المخبآت، وتعنو فيه الوجوه، لملك قاهر قهرهم بجبروته، والناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته، وإنه بلغنا أنه يكون في هذه الأمة رجال إخوان العلانية، أعداء السريرة (يحذرونه من بطانة السوء) وإنا نعوذ بالله من ذلك، فلا ينزل كتابنا من قلبك بغير المنزلة التي أنزلناها من أنفسنا (أي أن يهتم به كما اهتموا بكتابته) والسلام عليك" .

    أبو عبيدة يتكتم الأمر :

    فمضى الرسول بالكتاب إليه , وقال أبو عبيدة لمعاذ بن جبل والله ما أمرنا عمر أن نظهر هلاك أبي بكر للناس, وما نعاه إليهم فما ترى أن نذكر من ذلك شيئًا دون أن يكون هو الذي يذكره (يريد أن يكتم الخبر عن المسلمين، حتى لا يوهن من عزائمهم، وكتم ذلك الخبر يدل على مدى ما كان عليه أبو عبيدة من زهد في الدنيا , فقد ولاه عمر قيادة الجيوش بدلاً من خالد), قال له معاذ: فإنك نِعْمَ ما رأيت، فسكتا فلم يذكرا للناس من ذلك شيئًا.
    وبقي الأمر على ما هو عليه، على الرغم من أنه فيه مخالفة لأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في تغييره لأمير جيش المسلمين، ويبدو من الرسالة أيضًا أنه كان يريد أن يبلغ المسلمين بوفاة أبي بكر، لأن ذلك التغيير الذي وضعه عمر يقتضي أنه هو الذي أصبح خليفة المسلمين..
    ولكن أبا عبيدة -لخوفه على معنويات المسلمين-لم يرد أن يعلن هذا الأمر لهم، فاستبقى الأمر على ما هو عليه تحت إمرة "خير أمير" كما يرى، وهو خالد بن الوليد ، فيرجع يرفأ الذي علم أن أبا عبيدة لم يخبر الناس بوفاة أبي بكر، ولم يغير إِمْرَةَ الجيوش، فأخبر عمر بن الخطاب بذلك، فأرسل عمر بن الخطاب رسالتين، الأولى: يرد فيها على رسالة معاذ بن جبل وأبي عبيدة في رسالتهما إليه، والثانية إلى أبي عبيدة خاصةً يقول له فيها: من عبد الله عمر، إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلامٌ عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد ، وبعد، فقد وليتك أمور المسلمين، فلا تستحي فإن الله لا يستحي من الحق، وإني أوصيك بتقوى الله الذي أخرجك من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، وقد استعملتك على جند خالد، فاقبض جنده، واعزله عن إمارته.
    وكانت هذه الرسالة في 26 من رجب عام 13هـ، وأُسْقِطَ في يد أبي عبيدة، فلم يكن راضيًا عن نزع خالد عن إمرة الجيش، لما يرى له من بأس على الكفار ورحمة على المسلمين ولمقدرته على القيادة، وخبرته بأمور القتال. فيطلب معاذ بن جبل ، ويستشير بعض المسلمين، ويتداول المسلمون الأمر فيما بينهم، حتى يصل الأمر إلى خالد بن الوليد ، (من تاريخ دمشق: فأقبل حتى دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله لك يا أبا عبيدة؛ أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية؛ فلم تُعْلِمْني وأنت تصلِّي خلفي والسلطان سلطانك!!)، (لأن الصلاة تكون للأمير، أو الوالي على المسلمين، حتى وإن كان مَنْ خلفه أقرأ منه، وكان هذا فقط ما أقلق خالدًا ، فلم يسأله: لم عزله عمر؟ ولم يعترض على رأي خليفة المسلمين!) فقال أبو عبيدة: وأنت يغفر الله لك، والله ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من عند غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله, ثم قد كنت أُعْلِمُكَ بعد ذلك، وما سلطان الدنيا أريد وما للدنيا أعمل، وإنَّ ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان وقُوَّام بأمر الله ، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ولا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة إلا من عصم الله وقليل ما هم.
    وهكذا، لم يعلق خالد على مسألة عزله، وتولَّى أبو عبيدة بن الجراح إمرة جيوش المسلمين في الشام.

    تحقيق مواعيد المعارك :

    وكان للأستاذ أحمد عادل كمال بحث من أروع ما كُتِبَ في هذا المجال، وقد رجح فيه بعد الكثير من التقصي، والتحقيق، أن أول موقعة كانت أجنادين -كما ذكرنا- وكان فتح دمشق بعدها (14هـ)، وكانت اليرموك عام 15هـ.. وعلى ذلك يكون توقيت هذه الرسالة بعد موقعة أجنادين، لأن أبا بكر تُوُفي بعدها بنحو 20 يومًا، ومعروف عند المؤرخين جميعًا أن أول قرارات عمر كان عزل خالد بن الوليد رضي الله عنهما.. أي أن ذلك بعد أجنادين مباشرة، في حصار دمشق هذا (13هـ)...
    وقفـة عـنـد عـزل خـالـد :

    عزل خالد كان موقفًا مهمًا بارزًا في التاريخ الإسلامي، يجب على كل مسلم أن يقف لتأمله، ذلك أن القائد العظيم الخليفة عمر بن الخطاب رأى أن المسلمين سيفتنون بقيادة خالد لجيش المسلمين، لانتصاراته المتتالية، ورأى أن في سيف خالد بن الوليد (رهقًا) , وأنه يقاتل الناس قبل أن يسلموا...
    وأنه يرى الهدف من الجهاد دخول الناس في الإسلام والدعوة للإسلام، وليس فتح الأراضي الجديدة فحسب، وفي الواقع كان خالد بن الوليد كان يقوم برسالته خير قيام، وإنه كان حريصًا على إيصال الدعوة الإسلامية للناس، وكان أبو بكر الصديق مدركًا لذلك، فرحًا بانتصاراته، يدعو له ويقول: (أَعَجَزَتِ النساءُ أن تلد مثل خالد بن الوليد؟!!) فكان هذا رأي أبي بكر، وأبي عبيدة فيه، ولكن كان هذا اجتهاد عمر بن الخطاب، وعلى علمه بمهارة خالد، إلا أنه رأى أن من الأفضل عزل خالد وتولية أحد القادة الهَيِّنين اللَّيِّنين كأبي عبيدة..
    وهي تضحية منه في سبيل الله، حتى يعم الإسلام الديار المفتوحة، فالهمُّ الأكبر لديه ليس كسب الأراضي الجديدة وفتحها، وإنما نشر دعوة الإسلام.. كما تجلى في هذا الموقف عظمة (أبو عبيدة بن الجراح) عندما تلقى أمر عمر بن الخطاب بالإمارة، بالحزن والهم، لأنه كان لا يريدها لنفسه.
    ومن جهة أخرى تجلت عظمة تربية خالد بن الوليد في طاعته لأمر خليفة المسلمين، فبمجرد أن علم بأمر عزله، قال: "الحمد لله الذي ولَّى عمر بن الخطاب، وقد كان أبو بكر أحب لديَّ من عمر بن الخطاب، فالحمد لله الذي ولَّى عمر، ثم ألزمني حبه", فمنذ هذه اللحظة أصبح يحب عمر بن الخطاب، وليس فقط يطيعه.
    ولم يعترض أحد على ما قرره الخليفة من عزل خالد، كما لم نسمع عن اعتراض على توليته على الجيوش، وقد كان أبو عبيدة أميرًا عليها، وهذا يعكس لنا إلى حد بعيد، طبيعة ذلك الجيش الإسلامي المنتصر، فلا فرق لدى المسلمين، فهم تحت أي إمرة يعملون، وفي أي صف يشاركون، وإنما هدفهم رضا الله ، والجهاد في سبيله. وهذا يوضح لنا أنه لا يمكن أن يعود الإسلام من جديد إلا بجماعة من المسلمين متحابين مترابطين.

    يتبع بإذن الله ،،،




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  6. #16
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 14

    افتراضي


    المفاوضات قبل موقعة بيسان

    بعد تجمع القوات الرومية في بعلبك (20 ألف مقاتل)، قرروا التوجه لحرب المسلمين في دمشق، ولكنهم تراجعوا بعد هزيمة الروم في مرج الصفر، خشية الهزيمة..

    وفي نفس الوقت في شمال فلسطين كان شرحبيل بن حسنة ، يقوم بإغارات على أهل المناطق المجاورة، يستثيرهم للإسلام أو دفع الجزية، وذكر المؤرخون أنه أقام القيامة في هذه الأرض (فلسطين والأردن)، وأغار على كثير من المناطق، حتى تضايق الناس من هذا الأمر، وبدأوا يتجمعون في منطقة غرب نهر الأردن قرب بصرى تسمى بيسـان، تجمع فيها نحو 20 ألف جندي من الروم، ولم تكن بيسان من المناطق الحصينة، ولكنهم تجمعوا عندها، وكان جيش شرحبيل ألفين وخمسمائة مجاهد، فوصلت هذه الأخبار إلى أبي عبيدة ، وهو مع جيشه في دمشق، فاستشار خالدًا في الأمر، وسمع رأيه أولاً احترامًا له، فأشار عليه خالد بأن يرسل إلى شرحبيل مددًا يساعده على مواجهة جيش الروم؛ لأن جيش الروم في بيسان ليس مستعدًا للحرب على أن يراقب المسلمون جيش بعلبك، فإذا ثبت هناك توجهت قوة إسلامية إليه، وإن تحرك تجاه دمشق تحرك إليه الجيش الإسلامي قبل أن يصل إلى دمشق، حتى لا تجتمع القوة الرومية الموجودة في بعلبك مع القوة الرومية الموجودة داخل أسوار دمشق، ووافق أبو عبيدة على اقتراح خالد، وأرسل مددًا لشرحبيل بن حسنة، على رأسه عمرو بن العاص ، الذي توجه ومعه ألفان وثمانمائة مجاهدٍ، فأصبح جيش المسلمين في فلسطين نحو خمسة آلاف وثلاثمائة مجاهد، وكان على إمرتهم عمرو بن العاص .

    من جهة أخرى علم المسلمون بتراجع حامية بعلبك عن حربهم، فقرروا أن يتوجهوا إليهم في بعلبك، وقال أبو عبيدة لخالد: والله ما لهذا الجيش إلا أنا أو أنت أو يزيد، فيقول خالد: لا. بل أنا أسير إليهم، (فهو يرى في نفسه القدرة على قيادة هذا الجيش، كما أنه توَّاقٌ إلى الجهاد في سبيل الله دائمًا، ويريد أن يتجه إلى القتال) فانطلق بجيش قوامه 5 آلاف جندي كلهم من الفرسان، وبقي في حصار دمشق مع أبي عبيدة نحو 21 ألف وسبعمائة مجاهد، وخرج أبو عبيدة يودع جيش خالد ويوصيه، ويقول له: إن احتجت للمدد فابعث لي، وأبعث لك بالمدد، وإن احتجت لي أنا، آتِك فورًا, فيشد خالد على يد أبي عبيدة، وينطلق إلى بعلبك..

    مراوغات وتحركات إلى بيسان:

    يتجه خالد ين الوليد من شمال دمشق إلى بعلبك، وهي في سهل البقاع الموجود بين سلسلتين من الجبال الشرقية، والغربية، وجيش المسلمين يتوجه صَوْبَ بعلبك شرق سلسلة الجبال الشرقية، في حين كان جيش الروم بعد أن علم بتوجه الجيش الإسلامي له يفر من ملاقاة الجيش الإسلامي، (على الرغم من كثرة عدده 20 ألفًا) ويتجه إلى منطقة بيسان، بعد أن أمرهم (هرقل) بذلك، وكان هذا قرارًا عسكريًّا حكيمًا؛ لأن في بيسان 20 ألفًا من الجنود، وبانضمام هؤلاء إليهم، يصبحون 40 ألفًا، بإمكانهم أن يقاوموا جيش المسلمين الـ 5 آلاف مقاتل فقط..

    فتوجهت الجيوش الرومية من بعلبك -عبر الطرق الداخلية، بين سلسلتي الجبال العاليتين- إلى بيسان، وعلى الرغم من قوة مخابرات خالد بن الوليد ، إلا إنه لم يعلم بأمر توجه هذه القوات إلى الجنوب! وتوجه إلى بعلبك، كل ذلك بسبب تلك الجبال الوعرة.. ووصل خالد إلى بعلبك، ولم يجد فيها جيشًا!!

    خالد ينطلق إلى بيسان:

    وعلى الفور يعود خالد إلى دمشق، ليستطلع رأي أبي عبيدة، فيأمره أبو عبيدة بالتوجه إلى الروم المجتمعين في بيسان لمؤازرة جيش عمرو بن العاص هناك، ويبدو أن الروم قد ركزوا تجمعهم على هذه المنطقة.. وتُعَدُّ الجيوش الإسلامية على وجه السرعة، مع استبقاء جيش من المسلمين (نحو 7 آلاف) بقيادة يزيد بن أبي سفيان في حصار دمشق، حتى لا تخرج حامية دمشق في ظهر المسلمين.. ويجعل أبو عبيدة خالد بن الوليد في مقدمة جيشه، ويأمره بأن يسبق المسلمين بألف وخمسمائة فارس، لنجدة الجيش الإسلامي في بيسان..

    ينطلق خالد بفرسانه شرق نهر الليطاني، وبحيرة طبرية، حتى إنه من شدة سرعته، يباغت مؤخرة الجيش الرومي القادم من بعلبك إلى بيسان، على الرغم من تحركها قبله بفترة طويلة، وكانت قد اتخذت طريقها غرب نهر الأردن، وغرب بحيرة طبرية، فوصل خالد إلى جنوب بحيرة طبرية، ويجد أن أخريات الجيش الرومي على الجهة الأخرى، فيعبر نهر الأردن، ويقتتل معهم، ويهرب منهم الكثير على الرغم من كثرة عددهم (حيث كان بإمكانهم أن يستديروا لمواجهة فرسان خالد) في مواجهة فرسان خالد (20 ألف مقابل ألف وخمسمائة فارس!!) إلا أنهم لم يكن لهم هم إلا المسارعة للوصول إلى حامية الروم في بيسان فقتل خالد كثيرًا من أخريات الجيش الرومي، وعاد بعد ذلك إلى منطقة فِحْل التي عسكر فيها عمرو بن العاص بجيشه المكون من خمسة آلاف وثلاثمائة مجاهدٍ، فيصل إليهم ومعه بعض الغنائم من الجيش الرومي الذي حاربه، ويستبشر المسلمون بقدوم خالد بن الوليد إليهم استبشارًا عظيمًا.. ويغدو للمسلمين معسكران في هذه المنطقة: واحد بقيادة خالد، والآخر بإمرة عمرو بن العاص..

    وانتظر المسلمون بقية الجيش الإسلامي القادم من دمشق، حتى وصلوا إليهم، وبدأ أبو عبيدة يعد الجيوش الإسلامية لحرب جيش الروم في بيسان.

    يقسم أبو عبيدة جيشه جاعلاً خالد بن الوليد في المقدمة مع فرسانه، ومعاذ بن جبل على الميمنة، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص على الميسرة، وسعيد بن زيد على المشاة، وكان لا ينام إلا على تعبئة (أي على هذا الترتيب)، حتى إذا باغته الجيش الرومي في أي وقت تكون جميع الجيوش مستعدة للقتال والمواجهة.

    ولم تفتأ الإمدادات الرومية تتوالى على الجيش الرومي في بيسان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، عبر السفن حتى تزايد عدد الجيش الرومي، وأراد خالد أن يبدأ بحربهم قبل أن يأتيهم مدد أكثر، واستعمل الروم حيلة حتى يمنعوا المسلمين من التقدم إليهم، وذلك بأن فجروا السدود الموجودة بنهر جالوت الذي يفصلهم عن المسلمين فغُمِرَتْ تلك المنطقة الفاصلة بالمياه..

    ومع ذلك تقدم المسلمين، إلا أن الأرض أصبحت موحلة طينية، فلم يستطع المسلمون مواصلة التقدم (وسميت تلك الأرض الردغة، أو ذات الرداغ من كثرة الطين والوحل فيها!)، وكانت هذه المطاولة (الإبطاء في المواجهة) من مصلحة الروم؛ لأن هذا الجانب الغربي لنهرالأردن (الذي مكثوا فيه) كان هو الجانب الخصب، ولم يكن الجانب الشرقي خصبًا لدرجة كافية، فكان لدى المسلمين مشكلة في التموين والغذاء!، بالإضافة إلى تزايد الإمدادات القادمة للجيش الرومي، حتى تضاعف عددهم بعد بضعة أيام إلى 80 ألفًا..

    بدء المفاوضات:

    فكر المسلمون في الإغارة على هذه المناطق، حتى يأتوا بالمدد والتموين للجيش الإسلامي، ويقطعوا في الوقت ذاته وصول الإمدادات والتموين عن الجيش الرومي! ويستحثونه للبدء في المواجهة، وفعلاً وسع المسلمون دائرة الإغارة حتى إنهم وصلوا إلى شمال نهر (جالوت) وشمال الجيش الرومي، واستطاعوا أن يقطعوا الإمدادات القادمة من الشمال، وعند ذلك فكر الروم في مواجهة المسلمين.. واحتالوا على المسلمين في البداية بمحاولة هزيمتهم نفسيًّا، فقاموا بإرسال رسالة شديدة اللهجة، اعتقدوا أنها قد توهن في قلب المسلمين، فأرسلوا لأبي عبيدة يقولون: "اخرج أنت ومن معك من أصحابك، وأهل دينك من بلادنا، فلستم لها بأهل، وارجعوا إلى بلادكم بلاد البؤس والشقاء، وإلا أتيناكم بما لا قبل لكم به، ثم لا ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف"..

    فأرسل إليهم أبو عبيدة قائلاً: "أما قولكم: اخرجوا من بلادنا فلستم لها بأهل; فَلَعَمْرِي ما كنا لنخرج منها، وقد أذلكم الله فيها بنا (يذكرهم بهزائمهم المتتالية) وأورثناها، ونزعها من أيديكم، وصيَّرها لنا، وإنما البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، والله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. أما قولكم في بلادنا: إنها بلاد البؤس والشقاء; فصدقتم، وما نجهل ما قلتم، إنها لكذلك، وإنا لنحمد الله، فقد أبدلنا خيرًا منها، بلاد العيش الرفيع، والأنهار الجارية، والثمار الكثيرة (إشارة إلى الشام أرض الروم، وهو بذلك يسخر منهم ويستفزهم أكثر)، فلا تحسبونا تاركيها، ولا منصرفين عنها حتى نف###م، ونخرجكم عنها، فأقيموا؛ فوالله لا نجشمكم: إن أنتم لم تأتونا إلا أن نأتيكم، وإن أنتم أقمتم لنا فلا نبرح حتى نبيد خضراءكم، ونستأصل شأفتكم إن شاء الله", وهكذا يرد عليهم ردًّا مليئًا بالقوة والعزة، وبمجرد وصول هذه الرسالة إلى الروم أصيبوا هم بالهزيمة النفسية، وهزهم الخطاب هزًّا شديدًا، لدرجة أنهم أرسلوا له رسالة أخرى، يقولون له فيها: "ألا ترسل لنا رسولاً من عندك نتفاهم معه؟".. فيرسل لهم أبو عبيدة معاذ بن جبل ، الذي يتجه إلى المعسكر الرومي ليحدثهم فيم يريدون..

    عبرة من مفاوضات الرسول :

    ومن المفيد أن نتذكر ما كان قبل ستة عشر عامًا، حيث كان رسول الله يفاوض الوفود القادمة لمكة للحج، يفاوضها على حماية المسلمين، أو الدخول في الإسلام، ونجد من الصحابة تطبيقًا عمليًّا واضحًا لهذه المفاوضات بعد ذلك، كما فعل من فاوضوا رستم قائد الفرس، ومن خلال ما فعل معاذ بن جبل مع الروم في هذه المفاوضات.

    مفاوضاته مع بني شيبان:

    جاء في هذه المفاوضات مفاوضات الرسول مع وفد بني شيبان (مفروق، وهانيء بن قبيصة، وكان فيه المثنى بن حارثة قبل إسلامه) وهم يعيشون في شمال الجزيرة العربية، حيث ذهب الرسول ومعه أبو بكرالصديق ، فسألهم: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق (أحد عظمائهم): إنا لنزيد عن الألف.. ولن تغلب الألف من قلة، فسأله أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ قال مفروق: علينا الجد والجهد، ولكل قومٍ حد، قال أبو بكر: وكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنا لنؤثرالجياد على الأولاد، وإنا لَنُؤْثِرُ السلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يدلينا مرة، ويديل علينا أخرى، لعلك أخو قريش؟ (خُيَّل إليه أن أبا بكر هو رسول الله، وكانت قد وصلتهم أنباء عنه) فقال أبو بكر: أوبلغكم أنه رسول الله، فها هو ذا، وعرفهم برسول الله ، فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعو يا أخا قريش؟ قال رسول الله : أدعو إلى شهادة ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأني رسول الله (فهذه هي القاعدة الأولى، التي يجب أن يتفق عليها معهم)، وإلى أن تؤوني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق! والله هو الغني الحميد، فقال مفروق: وإلام تدعو أيضًا، يا أخا قريش؟ فتلا عليه رسول الله قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]، ثم قال له مفروق: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فتلا عليه رسول الله قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

    فلما سمع مفروق ذلك كله، قال: دعوت يا أخا قريش والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أَفِكَ (أي: خسر) قومٌ كذبوك وظاهروا عليك. وبذلك أبدى مفروق تعاطفًا مع رسول الله ، وهي نقطة مهمة في الدعوة، ومكسب للرسول، لأنه حتى هذه اللحظة، لم يكن أحدٌ من الوفود حول مكة قد دخل في الإسلام بعدُ، ولم يكن الرسول قد أرسل لأهل المدينة بعد، وكأن مفروق قد أحب أن يشرك أحد أفراد قبيلته في الأمر، وهو هانئ بن قبيصة، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانئ: لقد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى إن تركنا ديننا، واتباعنا إياك على دينك لمجلسٍ جلسته إلينا، ليس له أول ولا آخر، لوهن في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، (أي إنه يريد أن يفكر في الأمر، ويتريث) وإنما تكون الزلة في العجلة، ومن وراءنا قومٌ نكره أن نعقد عليهم عقدًا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر! (وكأنه أحب أن يشرك المثنى بن حارثة في الأمر) فقال له: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا (وكان معروفًا بأنه أشد فرسان بني شيبان)، فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب ما قال ابن قبيصة، في تركنا ديننا واتباعك في مجلس جلسناه إليك ليس له أول ولا آخر، ولكن إنما نزلنا بين صريين: بين اليمامة والسماوة"..
    فقال رسول الله : ما هذان الصريان؟ فقال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما أنهار كسرى (أي كل ضرر يأتيك من كسرى) فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب (أي مشكلات ضد العرب) فعذره مقبول، وذنبه مغفور، وإنما نزلنا على عهدٍ أخذه علينا كسرى، لا نحدث حدثًا، ولا نُؤْوِي محدثًا (ورسول الله عندهم محدث، لأنه أتى بشيء جديد) وإني لأرى أن هذا الأمر مما تكرهه الملوك (ويقصد بذلك كسرى)، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. (وكان هذا العرض ثمينًا، في وقتٍ أشد ما يكون على المسلمين، حيث كان رسول الله خارجًا لِتَوِّه من حصار شعب أبي طالب، وكانت ذلك في عام الحزن).

    عودة إلى أرض الشام:

    مفاوضات معاذ بن جبل: وبهذا الفهم ينطلق معاذ بن جبل، وهو يعرف ما الحدود التي يستطيع أن يتفاوض فيها، والأمور التي لا يمكن أن يقبل التفاوض فيها، يدخل معاذ بن جبل على فرسه، ويصل إلى المعسكر الرومي، ويجد الروم يجلسون على وسائد من الحرير، ونمارق مبسوطة، والكثير من الرفاهية حتى في أرض المعركة! ويجلس أمراء جيشهم، وحولهم الخدم، ويقف هو بفرسه، وثيابه البسيطة، فينزل من على فرسه، وينظر إليهم، ويأتيه أحد الروم ويقول له: أعطني دابتك أمسكها لك، وادنُ أنت فاجلس مع هؤلاء الملوك، فإنه ليس كل أحد يقدر على ذلك.

    ولكن معاذًا يصر على أن يمسك دابته، ويقف على أول البسط، ويقول لهم (من خلال مترجم): إن نبينا أمرنا ألا نقوم لأحدٍ من خلق الله (يخبرهم أنه لا يقف تعظيمًا لهم)، ولا يكون قيامنا إلا لله، في الصلاة والعبادة، والرغبة إليه، فليس قيامي هذا لك إعظامًا، ولكني قمت هنا، إعظامًا للمشي على هذه البسط، والجلوس على هذه النمارق، التي استأثرتم بها على ضعفائكم، وإنما هي من زينة الدنيا وغرورها، وقد زَهَّد الله في الدنيا، وذمها، ونهى عن البغي والسَّرَف فيها، فأنا جالسٌ ها هنا على الأرض، وكلموني بحاجتكم من ها هنا.

    (هذا الأمر به معنى إسلامي واضح، وهو أن المسلمين يكرهون هذه الرفاهية كراهية شديدة، وقد كان من الممكن لسيدنا معاذ أن يتنازل، ويتحمل، ويجلس معهم، ولكن في هذا الأمر ذكاء، وبعد سياسي من معاذ ، بالإضافة إلى ورعه وتقواه، فبجلوسه في الخارج بهذا الوضع الغريب، سينقل الناس ذلك إلى من لم يشهدوه، وهو يريد أن يعلم الناس جميعًا أنه جلس على الأرض، ويتساءلون لم جلس كذلك؟ فيكون الرد ما قاله معاذ ، وهو (أنكم استأثرتم بهذه الأشياء على ضعفائكم) مما يحدث بلبلة في صفوف الجيش الرومي، ويشعرهم بالفارق الشاسع بين الجند وقادتهم، مما يؤدي إلى تصدع الصف، وأن الأمة الإسلامية التي تحاربهم ليس لديهم هذه التفرقة).

    فنظر بعضهم إلى بعض متعجبين، فيقولوا له: هل أنت أفضل أصحابك؟ (ذلك أن الزهد عندهم مَقْرون بالأنبياء، وانتهى منذ عهد المسيح عيسى بن مريم وحوارييه، أما هم فقد نسوا كل هذا! فيتعجبون من اقتراب صفاته من صفات الأنبياء) فيقول لهم: عند الله، معاذَ الله أن أقول ذلك، وليتني لا أكون شرَّهم! (على الرغم من علو مكانته بين المسلمين، وأنه كان -كما قال عنه رسول الله- أعلم الأمة بالحلال والحرام، وإمام العلماء، إلا أنه كان يرى نفسه صغيرًا، وهكذا كان شأن صحابة رسول الله دائمًا).. فأخذوا يتناقشون ساعة، فلما ملَّ من الانتظار، طلب منهم الانصراف، فأوصلوا له مجموعة من الطلبات، فقالوا له: "أخبرونا ما تطلبون، وإلى أي شيءٍ تدعون؟ وما أدخلكم بلادنا، وتركتم أرض الحبشة، وليست منكم ببعيد، ولماذا تركتم أرض فارس، وقد هلك ملك فارس، وهلك ابنه، وإنما تملكهم اليوم النساء؟! (في ذلك الوقت ملك الفرس بوران بنت كسرى) ونحن ملكنا حي، وجنودنا عظيمة كبيرة، وإن فتحتم من مدائننا مدينة، أو من قرانا قرية، أو من حصوننا حصنًا، أو هزمتم لنا عسكرًا، أظننتم أنكم قد ظفرتم علينا، وأنكم قد قطعتم حربنا عنكم؟ أو فرغتم مما وراءنا منا، ونحن عدد نجوم السماء، وعدد حصى الأرض، وأخبرونا لم تستحلون قتالنا، وأنتم تؤمنون بنبينا، وكتابنا؟!".

    رد مُعاذ على الروم:

    فأخذ معاذ الورقة، فبدأ بأن يقول للترجمان: (بعض ما جاء فيه عن فتوح الشــام للأزدي) افهم عني أن أول ما أنا ذاكر حمد الله الذي لا إله إلا هو، والصلاة على محمد نبيه ، وأن أول ما أدعوكم إليه أن تؤمنوا بالله وحده وبمحمد ، وأن تصلوا صلاتنا، وتستقبلوا قبلتنا، وأن تستنوا بسنة نبينا ، (وهذا يشمل كل أمور الإسلام، ثم يضيف في اختياردقيق جدًّا) وتكسروا الصليب، وتجتنبوا شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير (فلماذا اختص هذه الأمورالثلاثة، على الرغم من أنهم كانوا يفعلون الكثير من المحرمات غيرها، مثل استعباد الناس، والقتل، واستحلال الزنا، ذلك أنه -والله أعلم- اختار هذه الأمورالثلاثة لأمرين مهمين:

    الأول: أنهم كانوا يستحلون هذه الأمور، أما بقية الأمور فكانوا يُعاقِبون عليها، ولا يجدونها من المكارم، وإن كانوا يفعلونها!!

    الثاني: لشيوع ذلك الأمر لدى الروم من كبارهم حتى أسافلهم وعبيدهم).

    ثم أنتم منا ونحن منكم، وأنتم إخواننا في ديننا، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدُّوا الجزية إلينا في كل عام وأنتم صاغرون، ونكفُّ عنكم (هكذا يتحدث بكل عزة، ويطلب منهم الجزية، ويقول إنه سيدافع عنهم، هؤلاء العرب، سيدافعون عن الروم! أقوى قوة في العالم) وإن أنتم أبيتم هاتين الخصلتين فليس شيء مما خلق الله نحن قابلوه منكم، فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فهذا ما نأمركم به وندعوكم إليه. وأما قولكم: "ما أدخلكم أرضنا، وتركتم أرض الحبشة؟ وليسوا منكم ببعيد", فذلك أنكم أقرب إلينا، وإننا سنأتيهم بعدكم، وإنما يقول ربنا في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]، فكنتم أقرب إلينا منهم فبدأنا بكم، وأما أهل فارس فقد أتاهم طائفة منا، وهم يقاتلونهم، ونرجو أن يظفروا عليهم، وأن يفتح الله على يديهم وينصرهم (والروم يعلمون انتصارات المسلمين في فارس، لكنهم يريدون لو انشغل المسلمون بفارس فقط!) وأما قولكم: "إن ملكنا حي، وإن جنودنا عظيمة، وإنا عدد نجوم السماء، وحصى الأرض" وتُيَئِّسوننا من الظهور عليكم، فإن الأمر في ذلك ليس إليكم، وإنما الأمور كلها إلى الله، وكل شيء في قبضته، فإذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون، وإن يكن ملككم (هرقل)، فإن ملكنا (الله)..

    (وهذه مصدر عزة المسلم دائمًا، أيًّا كان الزعيم، أو العظيم الذي أمامه) وأميرنا رجل منا، إن عمل فينا بكتاب ديننا، وبسنة نبينا ، أقررناه علينا، وإن عمل بغير ذلك عزلناه، وإن هو سرق قطعنا يده، وإن هو زنا جلدناه (وهي أمور يذكرها معاذ بذكاء، حتى يقارنوا بينهم، وبين ما يحدث عندهم مع ملوكهم!!) وإن شتم رجلاً منا، شتمه كما شتمه، وإن جرحه أقاده من نفسه، ولا يحتجب منا، ولا يتكبر علينا، ولا يستأثر علينا في فيئنا، وهو كرجل منا.

    (وما كذب معاذ ، فقد كان أمراء المسلمين في هذه العصور المجيدة كذلك، لا فرق بين أميرهم وصغيرهم، قائدهم وجنودهم، ولكنَّ ذِكْرَ هذه الكلمات في هذا الموقف فيه إذلال شديد للروم)..

    وأما قولكم: "جنودنا كثيرة" فإنا لا نثق بها، ولا نتكل عليها، ولا نرجو النصر على عدونا بها، ولكن نتبرأ من الحول والقوة، ونتوكل على الله ، ونثق بربنا، فكم من فئة قليلة قد أعزها الله ونصرها، وكم من فئة كثيرة مثلكم قد أذلها الله وأهانها، وقال تبارك وتعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، وأما قولكم: "كيف تستحلون قتالنا، وأنتم تؤمنون بكتابنا ونبينا؟!" فأنا أخبركم عن ذلك: نحن نؤمن بنبيكم ونشهد أنه عبدٌ من عبيد الله، وأنه رسولٌ من رسل الله، وأن مثله عند الله كمثل آدم، خلقه من ترابٍ ثم قال له: كن فيكون، ولا نقول: إنه الله، ولا نقول: إنه ثاني اثنين، ولا ثالث ثلاثة، ولا أن لله ولدًا، ولا أن لله صاحبة، ولا نرى معه آلهة أخرى.. تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وأنتم تقولون في عيسى قولاً عظيمًا، لو أنكم قلتم في عيسى ما نقول، وآمنتم بنبوة نبينا ، كما تجدونه في كتابكم، وكما نؤمن نحن بنبيكم، وأقررتم بما جاء به من عند الله، ووحدتم الله، ما قاتلناكم، بل كنا نسالمكم، ونواليكم، ونقاتل معكم عدوكم..

    عرض رومي مذهل:

    فلما فرغ معاذ من خطابه قالوا: ما نرى بيننا وبينك إلا متباعداً (شعروا أن هناك هوة بعيدة في المفاوضات، وأن كلامه لا يمكنهم القبول به! ومع ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب الشديد، وهزتهم هذه الكلمات)، وهذه خصلة نحن نعرضها عليكم، فإن قبلتموها منا فهو خير لكم، وإن أبيتم فهو شر لكم (ها هم يقدمون تنازلاً جديدًا) نعطيكم البلقاء وما إلى أرضكم من سواد الأرض، (وهو عرض غريب جدًّا، إذ به يتنازلون عن الجزء الجنوبي من الشام، ويطلبون أن يُبقي المسلمون الجزء الشمالي للروم!) ونكون معكم على حرب فارس (وهو عرض سياسي مغرٍ جدًّا، يتشابه مع العرض الذي كان مقدمًا للرسول من بني شيبان) وتنحُّوا عن بقية أرضنا وعن مدائننا، ونكتب لكم كتابًا نسمي فيه خياركم وصلحاءكم.

    أما معاذ بن جبل فهو تلميذ رسول الله ، وأعلم أمته بالحلال والحرام، لم يكن همه الأرض وأشجار الزيتون، وإنما همه إبلاغ رسالة الإسلام للأرض قاطبة، فهو يعلم أن ما وراء البلقاء شعوب تُقْهَر على عبادة غير الله، ويجب عليه أن يصل برسالة الإسلام إليهم.

    قال معاذ: هذا الذي عرضتم علينا وتعطونه كله في أيدينا، ولو أعطيتمونا جميع ما في أيديكم مما لم نظهر عليه ومنعتمونا خصلة من الخصال الثلاث التي عرضتها عليكم (الإسلام أو الجزية أو القتال) ما فعلنا.

    فغضبوا عند ذلك غضبًا شديدًا، وقالوا: نتقرب إليك وتتباعد عنا؟ اذهب إلى أصحابك، إنا لنرجو أن نُفِرَّكم غدًا إلى الجبال.
    فقال معاذ: أما الجبال فلا، ولكن واللهِ لتَقْتُلُنَّنا عن آخرنا، أو لنخرجَنَّكم من أرضكم أذلةً وأنتم صاغرون.

    فانصرف معاذ إلى أبي عبيدة فأخبره بما قالوا، وبما رد عليهم.




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  7. #17
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 14

    افتراضي


    موقعة بيسان

    فشلت المفاوضات التي دارت بين معاذ بن جبل والروم، ورفض الروم الأمور الثلاثة التي عرضها عليهم معاذ (الإسلام أو الجزية أو القتال)، وعرضوا أرض البلقاء، ومساعدة المسلمين في حرب الفرس، ورفض معاذ ذلك كله.
    عاد معاذ إلى أبي عبيدة ، فأرسل الروم في أعقابه رسولاً برسالة إلى أبي عبيدة، يقولون له: "لقد أرسلت إلينا رسولاً لا يريد الإنصاف، ونحن نعتقد أن هذا الرأي ليس رأيك".
    وأرادوا أن يتقدموا بطلباتهم إلى قائد المسلمين مباشرة، وهذا يوحي بأنهم سيقدمون تنازلاً جديدًا، فأخَّروا أمر القتال، وأرسلوا رسولاً من قادة الروم للحديث مع أبي عبيدة، فدخل مع دليله، لكي يوصله إلى أمير المسلمين أبي عبيدة، فدخل عليهم، فلم يعرف أين أبو عبيدة؛ لأنه لا يتميز عمّن حوله، وهو أمر مختلف عما عند الروم، فسأل: أين أميركم؟ فأشاروا إليه، فوجد أحدهم يجلس على الأرض متنكبًا قوسه، فتعجب وقال: أهذا قائدكم؟ قالوا: نعم.
    فقال: وما يضيرك إذا وضعت تحتك وسادة؟ أهذا يضعك عند الله؟! فرد عليه أبو عبيدة : "إن الله لا يستحي من الحق، ولأصدقنك عما قلت، والله ما أصبحت أملك دينارًا ولا درهمًا! ولا أملك إلا فرسي وسلاحي وسيفي، ولقد احتجت بالأمس إلى نفقة فلم يكن عندي، فاستقرضت من أخي هذا (وأشار إلى معاذ بن جبل)، ولو كان عندي أيضًا بساط، ما كنت لأجلس عليه دون إخواني وأصحابي، وأُجْلِسُ أخي المسلم -الذي لا أدري لعله عند الله خير مني- على الأرض، ونحن عباد الله نمشي على الأرض ونجلس على الأرض، ونأكل على الأرض، ونضطجع على الأرض، وليس ذلك بناقصنا عند الله شيئًا، بل يعظم الله به أجورنا، ويرفع درجاتنا، ونتواضع بذلك لربنا, هات حاجتك التي جئت بها".
    (وأبو عبيدة لا يتصنع هذا الموقف، فالمسلمون في هذا الوقت، الذي نسأل الله أن يعيد المسلمين اليوم إليه، كانوا يكرهون حياة الرفاهية والدَّعَة، ولم يكونوا يحبونها؛ لأنهم يعلمون أن نهاية هذا الترف تكون نهاية وخيمة، ويعلمون قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]. يقول ابن عباس في هذه الآية: أي أن الله يأمرهم بالطاعات، ولكنهم لا يستجيبون، وإنما يفسقون، ويتمادون في المعاصي، فيعذبهم الله, فمن يقوم بالفساد في الأرض -في كثير من الأحوال- هم المترفون؛ ولذلك ينصح عمر بن الخطاب المسلمين جميعًا: "اخشوشنوا؛ فإن النعم لا تدوم".
    والإسلام لا يحرم امتلاك الثروات، والأموال، ولكن يكره ويحرم الإسراف والبذخ في أي شيء؛ لأن ذلك قد يعرض الإنسان لتجاوز الحد، والتفريط في دين الله، وكان الصحابة يكرهون هذا الترف، ولا شك في أن أمين هذه الأمة أبا عبيدة كان من أورع وأزهد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا الأمر يوقع جيش الروم في هزيمة نفسية كبيرة، عندما يعود ذلك الرسول، ويحكي لهم ما رآه من تواضع قائدهم، فسيفقد الجنود الروم ولاءَهم لقائدهم ذاك، الذي لا يجلس معهم، وهو مفضل عنهم في كل شيء، لا يرى من ضيق عيشهم شيئًا، ولا يعاني معاناتهم، بل إن بعض الأمراء كان يأتي للحرب بكامل حليه وزينته!).
    عرض رومي جديد :

    فقال رسول الروم لأبي عبيدة : نعرض عليكم الإنصاف, فعرض عليه أن يعطوهم البلقاء، وما وَالَى أرض المسلمين من فلسطين، ونساعدكم في حرب فارس، وسنعطي كل جندي من جنود المسلمين دينارين وثوبًا، وسنعطيك ألف دينار، وسنعطي الذي فوقك (يقصدون الخليفة عمر بن الخطاب) ألفي دينار (فلو جمعنا المبالغ التي يريدون أن يدفعوها تبلغ 70 ألف دينار و35 ألف ثوب، وهذا كثيرٌ جدًّا في هذا الوقت، لا يتوقعه أحد من المسلمين أبدًا).
    فشعر أبو عبيدة أن الرجل لم يفهم قصد المسلمين حتى هذه اللحظة، فلم يكن منه إلا أن حمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلَّى على رسوله، ثم قال: "إن الله بعث فينا رسولاً، وأنزل علينا كتابًا حكيمًا، وأمره أن يدعو الناس إلى عبادة ربهم؛ رحمة منه للعالمين، وقال لهم: إن الله واحد، عزيز مجيد، وهو خالق كل شيء، وليس كمثله شيء، وأمرهم أن يوحدوا الله الذي لا إله إلا هو، ولا يتخذوا له صاحبة، ولا ولدًا، ولا يتخذوا معه آلهة أخرى، وأن كل شيء يعبده الناس دونه فهو خَلَقَه، وأمرنا فقال: "إذا أتيتم المشركين فادعوهم إلى الإيمان بالله وبرسوله، وإلى الإقرار بما جاء من عند الله، فمن آمن وصدق فهو أخوكم في الله، له ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أَبَى فاعْرضوا عليه الجزية، حتى يؤدوها عن يدٍ وهم صاغرون، فإن أبَوْا أن يؤمنوا أو يؤدوا الجزية، فاقتلوهم وقاتلوهم، فإن قتيلكم في الجنة، وقتيل عدوِّكم في النار". فإن قبلتم ما سمعتم مني فهو لكم، وإن أبيتم فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين.
    ولا شكَّ أن هذه الكلمات قد هزَّتْ ذلك القائد الرومي، وهو من المترَفين المنعمين، حيث كان يأمر فيطاع، ولكنه وجد الآن واحدًا من العرب، من رَعَاع القوم (في نظره) يقول له هذا الكلام الشديد، فقال له: أنا والله على ذلك، وإني لأراكم تتمنون غدًا أنكم قبلتم منا دون ما عرضنا عليكم!! (أي أنه يرى أن المسلمين سيندمون على حربهم للروم، وأنهم سيُهزمون لا محالة، وسيتمنون حينها أقل مما كان الروم سيعطونهم لو لم يحاربوا)، ثم تركه وانصرف.
    بذلك انتهت المفاوضات مع الروم نهاية واضحة، وهي الحرب.
    رسالة أبي عبيدة إلى عمر:

    استعد جيش أبي عبيدة للقتال، وبدأ في إعداد الصفوف، وأرسل إلى عمر بأن الروم رفضوا الجزية، وأنهم سيبدءون في الحرب، وسلم هذه الرسالة إلى أحد نصارى الشام وكان عدَّاءً ماهرًا، وفي نهاية ذلك اليوم خرجت بعض القوات الإسلامية من فِحْل، للتحرش ببعض القوات الرومية التي خرجت من خلف المستنقع من "بيسان" لمناوشة المسلمين (كما أخبرتهم المخابرات الإسلامية بذلك)، فما كان منها إلا أن عادت بسرعة! وكان رسول أبي عبيدة قد انتظر حتى يرى ما حدث بعد خروج الجيش الإسلامي، ولم ينطلق برسالته إلا بعد أن عاد الجيش الإسلامي فرحًا بالهزيمة النفسية التي حققها لذلك الفريق الرومي، ووصل الرسول إلى عمر، وسلمه الرسالة من أبي عبيدة، فسأله عمر: وكيف تركت المسلمين؟ فأخبره بأنه ما تركهم حتى علم أمر ذلك الفريق، وأنه تركهم على خير حال، فعاتبه عمر لأنه تأخر في إيصال الرسالة، فقال له: علمت أنك سائلي عن ذلك. فأعجب عمر بذكائه، وسأله ما دينك؟ فقال له: نصراني. فقال له عمر: ويحك! أسلم. فلم يكن من الرجل إلا أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
    ونحتاج أن نتوقف قليلاً عند هذا الموقف المهم، إذ فيه يتجلى ملمح من ملامح الخليفة الفاروق عمر ، الذي لم يضيع فرصة وجود هذا النصراني، حتى دعاه إلى الإسلام، وحتى كان سببًا في نجاته من النار! فلم يكن تعامل الخليفة معه تعاملاً عاديًّا لكونه مجرَّد رسول من قائده، ولكنه يدعوه إلى الإسلام في هذا الوقت السريع المحدود، ويسلم الرجل فعلاً، وهكذا يجب على المسلم ألا يضيع وقتًا أو فرصة للدعوة إلى الله، فسيجد المسلم -في كل وقت- مَن هو أهلٌ لأن يدعوه، ويستنقذه من النار، ويدخله -بفضل الله ورحمته- الجنة، وذلك يكون حتى بين المسلمين أنفسهم، بأمره بطاعة، أو نهيه عن فعل معصية، كما أنه لا شكَّ أن لدى هذا الرجل قابلية منذ البدء للإسلام، فعمر لم يوضح له قواعد الإسلام أو ضوابطه، ولكن هذا الرجل -لا شك- قد رأى من جنود المسلمين بأرض الشام ما أعجبه، وما وجد فيه الفرق بين الإسلام وبين النصرانية، وبين تطبيق المسلمين للإسلام، وتطبيق النصارى للنصرانية؛ فلم يتبقَّ له إلا الشيء اليسير، الذي حركه في نفسه طلب خليفة المسلمين عمر.
    ونستفيد من ذلك أن لكل فرد عددًا من الأفراد ينقلونه من حال الكفر إلى الإيمان، أو من المعصية إلى الطاعة، نفترض أن لكل فرد مثلاً خمسة أشخاص، يحدثونه كل واحد على حدة، وفي أماكن مختلفة، ومواقف مختلفة، ولا يسلم أو لا يتغير إلا بعد جهد هؤلاء الخمسة، الذي اخْتُزِن في ذاكرته طويلاً، ولا يسلم إلا على يد الخامس هذا، وهذا -لا شك- لا ينقص من أجر الأربعة الذين سبقوه شيئًا، فعلى المسلم أن يسعى دائمًا، وليس عليه أن ينتظر النتائج، أو أن يرى النتائج أمامه!! وفي المقابل إذا أسلم على يده أحد، أو اهتدى على يده أحد، لا يبالغ بالافتخار بذلك، ويعتقد أنه هو الوحيد صاحب الفضل في ذلك، بل إنه مجرَّد الأخير، وقد سبقه -ولا شك- الكثيرون.

    المناوشات الأولى.. وبداية موقعة بيسان:

    خرج خالد بن الوليد بمقدمة الجيش في مناوشات أخرى مع مقدمة جيش الروم في 1500 من الفرسان، فقسم جيشه أقسامًا ثلاثة، وكان هو في قلبها، وعلى الميمنة قيس بن هبيرة، وعلى الميسرة ميسرة بن مسروق.
    تقدمت إحدى القوى الرومية، فخرج إليهم قيس بن هبيرة في مجموعة من الخيول، وصدهم صدًّا شديدًا، على الرغم من أن قوة الروم كانت أكبر بكثير، إلا أن قيسًا صبر كثيرًا، ولم يُقتَل الكثير من الطرفين، فعاد قيس وفريقه، وبعد قليل خرجت مجموعة، فخرج لهم ميسرة بن مسروق بمجموعته، وصدهم صدًّا شديدًا، فقُتل من الروم بعضُهم، ولم يُقتل من المسلمين أحدٌ، فعاد الطرفان، ثم خرج من الروم قوة أكبر، عليها قائد مقدمة الروم، فخرج إليها خالد بن الوليد بنفسه، وبعض جنده، فصدها صدًّا عنيفًا، وقتل منها كثيرًا فعادت، لكنـه لم يعد، واستمر بقواته، واقتحم مقدمة جيش الروم، على غير المألوف، فهجمت الطائفتان (الميمنة والميسرة) المسلمة على بقية الجيش الرومي، وأحدثت فيهم مقتلة عظيمة، لدرجة أنهم لم يكن لهم من هَمٍّ إلا الفرار!! وتتبعهم خالد بن الوليد حتى دخلوا معسكرهم، فعاد خالد بن الوليد وفرسانه، فرحين بما حصدوه من نصر، وما حصلوا عليه من غنائم، وبما أحدثوا من هزة نفسية شديدة للروم.
    ثم فكر خالد بن الوليد في هذه الليلة مع أبي عبيدة في كيفية مواجهة هذا الجيش الرومي الهائل، ويلهمه الله فكرةً ذكية، وهي أن جيش الروم الآن في أضعف لحظاته، وأن الهجوم عليهم يجب أن يكون في الصباح، ويوافقه أبو عبيدة على ذلك، ويبدأ أبو عبيدة في الثلث الأخير من الليل (في ذلك الوقت الشريف، حيث ينزل الله إلى السماء الدنيا، فيعطي كل سائلٍ مسألته) يصُفُّ المسلمين، ويدعون الله، ويجهزون صفوفهم لملاقاة عدوهم بعد صلاة الفجر.
    ساعة الصفر بعد الفجر:

    كان ذلك في 28 من ذي القعدة عام 13هـ (الموافق 23 من يناير 635م)، حيث متوسط درجة الحرارة في هذه المنطقة آنذاك 12 درجة مئوية، فجوُّ الحرب قارس البرودة عليهم، وهم لم يعتادوا على مثل تلك الأجواء، وخاصة أنهم قادمون من مناطق حارة (كالمدينة ومكة)، ومع ذلك تحملوا برودة الجو الشديدة، وأعدوا العدة والعتاد للحرب، يمرُّ أبو عبيدة على كل مجموعة، ويحمسهم للقتال في سبيل الله، قائلاً: "عباد الله، اِستوجِبُوا من الله النصر بالصبر، فإن الله مع الصابرين".
    ثم أردف قائلاً: "إني أبشر من قُتِل منكم بالشهادة، ومن بقي منكم بالنصر والغنيمة، ولكن وَطِّنوا أنفسكم على القتال، والطعن بالرماح، والضرب بالسيوف، والرمي بالنبال، ومعانقة الأقران، فإنه والله لا يُدْرَك ما عند الله إلا بطاعته، والصبر على ذلك في هذه المواطن المكروهة".
    ثم بدأ بعد صلاة الفجر مباشرة وقبل أن تطلع الشمس، في تحريك الجيوش الإسلامية من (فِحْل) عابرةً نهر الأردن، من الشرق إلى الغرب، من مخاضة كان ارتفاع المياه فيها نصف متر تقريبًا، ثم يُصفّ المسلمون صفوفهم في هذه الجهة، وعلى الجهة المقابلة كان الجيش الرومي بقيادة (سقلار) وهو من كبار قواد الروم، يظنُّ أن المسلمين سيكونون نائمين، ففكر أن يباغت المسلمين، وبدأت الجيوش تتحرك باتجاه الجيش المسلم، فوصل إلى جنوب المستنقعات، ففوجئ بوجود الجيوش الإسلامية مصفوفة على هيئة القتال، وكانت هذه مفاجأة قاسية لهم، ودليل على ضعف المخابرات الرومية آنذاك، إذ لم يكتشفوا تحرك المسلمين حتى ذلك الوقت!! فرأى خالد وجيشه أن الجيش الرومي عرضه كبير، لا يرى أوله من آخره، وهو جيشٌ ضخمٌ جدًّا، فأخذ خالد بن الوليد مقدمته (الألف وخمسمائة فارس)، وانطلق باتجاه الجيش الرومي، في جولة استطلاعية حتى يرى نظام الجيش الرومي وإعداده، فرأى لهم ترتيبًا عجيبًا آنذاك، حيث وجد أن للروم قلبًا وميمنة وميسرة، ولكن في القلب خليطًا من الجنود الفرسان والمشاة (على غير المعتاد، وقد كان المعتاد أن يكون الفرسان بمفردهم، والمشاة بمفردهم)، كما جعلوا كلَّ الخيل من جهة الميمنة راميًا ورامحًا، وذلك لحماية الجيش الرومي من الخيول الإسلامية، فرأى خالد أن هذا القلب بذلك في منتهى القوة؛ لأنه محميٌّ من الطرفين بالرماة والرماح، فلا يمكن أن يقترب منه الخيل المسلم إلا وأصيب! ويعلم خالد جيدًا أن الروم يعلمون تفوق الخيل العربي على خيل الروم، مهما كانت قوة هذا الخيل الرومي، وكان ذلك تجهيزًا ذكيًّا من الروم.
    كما أنه لاحظ أن الميمنة والميسرة كلها مشاة، لا خيول فيهم، وهذه هي نقاط ضعف الجيش الرومي، كما لاحظ أيضًا أن عرض الجيش ضخم جدًّا، لدرجة أنه لو هجم على المسلمين، وهو بهذه الضخامة، فمن الممكن أن يلتف حول المسلمين (مع فارق العدد الهائل)، كما وجد أن ظهر الجيش الرومي مفتوح، أي أنه لو هُزِم فسيكون الفرار يسيرًا لهم، ففكر على الفور في التغلب على هذه الخطة، فبدأ بالاقتراب من الروم، وكأنه سيقاتلهم، فتجرأ عليه الروم وهاجموه، كل ذلك والجيش الإسلامي كله لا يزال في مكانه مستقرًّا، فتتجرأ القوات الرومية، وتبدأ بحرب القوة التي مع (خالد) ويُظهِر خالد الفرار، وكأنه خشي من القوات الرومية، فيتجرأ الجيش الرومي في ملاحقته، حتى جعل الجيش الرومي يصل إلى المنطقة التي يكون من خلفه فيها المستنقعات، وبذلك تغلب على عامل الهرب، وحاصرهم من الخلف، مما يؤثر عليهم، كما أن هذا المكان ضيق، ولا يتسع لهذه الجيوش العريضة أن تقف أمام جيش المسلمين، فما كان منهم إلا أن صفوا صفوفهم أكثر، فقل عرض الجيش (لو افترضنا أن الجيش 100 ألف، ووقف كل ألف متجاورين، فإنهم يكونون 100 صف، أما إذا وقف في كل صف مائة، فإنهم يكونون ألف صف!!) وخالد يضمن كفاءة الصف المسلم، بتقليل أفراد الصف الرومي المقابل له، فيريد أن يقاتل كل رجل رجلاً من كل صف، ولا يتجمع في قتال كل مسلم أكثر من رومي، وبذلك لم يتبق أمامه إلا مشكلة قلب الجيش الرومي الذي يحيطه الرماة ويحمونه، فوضع الخطة مباشرة أن قسم المقدمة (الفرسان) إلى ثلاثة أقسام، كل قسم 500، ويجعل على الميمنة قيس بن هبيرة، ويجعل نفسه على الميسرة، ويضع ميسرة بن مسروق في قلب المقدمة، ثم يشير إلى قيس وينطلق بالميسرة معه، إلى أجناد الجيش الرومي الميمنة والميسرة (المشاة) فيبدأ في حربهم..
    وكان القتال عنيفًا أباد فيه المسلمون كثيرًا من الروم؛ لأن الروم مشاة، وقد اقتحم عليهم الفرسان المسلمون بخيولهم، وحقق المسلمون نصرًا سريعًا في البداية، وعلم خالد أن جيش الروم عندما يجد ما يحدث في الميمنة والميسرة من هزيمة كبيرة، ستتجه خيولهم مباشرة لنجدة الميمنة والميسرة، وهذا ما فعلته الجيوش الرومية، وبذلك فقدت قوتها فانكشف قلب جيش الروم، ثم قال خالد بن الوليد: الله أكبر! أخرجهم الله لكم من رَجَّالَتِهم (وهكذا ينسب الفضل كله إلى الله)، ثم يقول: شُدُّوا عليهم. فانقض ميسرة ناحية قلب الجيش الرومي المكشوف، وبدأ يحاربهم، وأتت الجيوش الرومية إلى خالد وقيس، وهما لم يعودا يخشيان هذه الخيول، بعد أن تركتهم تلك الحماية.
    كل ذلك يحدث، ولا يزال الجيش الإسلامي في مكانه ثابتًا، وخالد بن الوليد يجبر عدوه على التحرك، واتخاذ قرارات، ومواقف معينة، كما يريد هو؛ نتيجة لذلك يشتد القتال على أجناب جيش الروم من قبل قيس وخالد، ويتقدم ميسرة تجاه المقدمة.

    المسلمون في بيسان:

    وبدأ الجيش الإسلامي الموجود في هذه المنطقة يدرك خطة خالد بن الوليد، الذي كان قد بدأ في تنفيذها فورًا، فلم يسعفه الوقت حتى يستأذن، أو يخبر أبا عبيدة، بل كانت كل حركته في سرعة، ثم انطلقت جيوش المسلمين: معاذ بن جبل على الميمنة في ميسرة الروم وخلف خيولهم، وسعيد بن زيد يساعد ميسرة في القلب، وهاشم بن عتبة على الميسرة يهاجم ميمنة الروم، وخلف جنود الروم أيضًا، وهكذا حُصِرت ميمنة جنود الروم بين هاشم وخالد، وحصرت الخيول في الميسرة بين معاذ وقيس، وأبو عبيدة يحمي بفريقه مؤخرة المسلمين، واشتد القتال، واستعرت الحرب، حتى نزل عليهم الليل، ووقع الكثير من القتلى في صفوف الروم، حتى إن الرواة يذكرون أن جيش الروم كله قد أصيب (80 ألفًا)، ولم يفلت منهم إلا الشريد، أي أن الروم لما أدركتهم الهزيمة، بدءوا يتراجعون ففوجئوا بسقوطهم في المستنقعات، فتمكَّن المسلمون من اللحاق بهم، ووقع الكثير منهم في القتل.
    وكل هذا يدلنا على مدى قوة المسلمين، وصبرهم في ميدان الجهاد، فبحسابات الدنيا نجد أن جيش المسلمين (25 ألفًا) أمام جيش الروم (80 ألفًا)، أي أن المعركة غير متكافئة إطلاقًا، وعلى كل مسلم أن يقتل 3 من الروم، ولكنهم أخذوا بأسباب النصر، فكان توفيق الله حليفهم.
    نماذج عسكرية فذة في بيسان:

    ظهرت في هذه المعركة نماذج إسلامية كبرى، كان منهم خالد بن الوليد، الذي قاتل -كما يروي الرواة- في هذه المعركة قتالاً شديدًا، وكان عِبْرة لمن بعده من المسلمين -فأصبح يُضرب به المثل، فيقولون للمجاهد الذي قاتل بكفاءة عالية: قاتل كقتال خالد في بيسان- وقتل بنفسه أحدَ عشرَ قائدًا روميًّا، وكان حريصًا طوال المعركة على قتال الفرق القوية، وقتل القادة فيهم.
    ومنهم قيس بن هبيرة (ابن مكشوح)، الذي قاتل قتالاً عنيفًا حتى تكسرت في يده 3 أسياف وأحد عشر رمحًا، كلما كسر سيف أرسلوا إليه آخر، ورأى منه المسلمون موقفًا عظيمًا، وبذلك صَدَقَ أبا بكرٍ، عندما وعده فقال: "لئن أمدَّ اللهُ في عمرك وعمري، لأرينَّك وأُرِي المسلمين موقفًا يُرضي الله ورسوله". وبالفعل أطال الله في عمره، حتى رأى منه المسلمون مواقف جليلة.
    ومعاذ بن جبل كان من أشد المسلمين قتالاً في هذه الموقعة، وكان من أمضى الناس سيوفًا في رقاب الروم، وكان من أحرص الناس على إخوانه المسلمين، وعلى الرغم من أن ما نعرفه عن معاذ بن جبل، أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام وهو إمام العلماء، كان هذا الإمام الورع -على علمه وزهده وتقواه- خبيرًا بالحرب والعسكرية، وهو يقدِّم الصورة الحقيقة للمسلم، فالمسلم الحق هو من يؤدي الفريضة في وقتها، ففي وقت الجهاد تغدو ساحة القتال أفضل من ساحة المسجد، فترك دروس العلم، وذهب للجهاد في سبيل الله.
    كذلك كان عمرو بن سعيد من أشد الناس قتالاً في هذه الموقعة، وهو -كما نعلم من تاريخه- حريصٌ على الجهاد في سبيل الله، وكان أول من قام لما استنفر أبو بكر وعمر المسلمين للجهاد في الشام، حتى إنه استشهد في هذه الموقعة، وكان من القلائل الذين استشهدوا فيها، وكان لاستشهاده قصة؛ إذ إنه لضراوة قتاله، وشدة بأسه في قتالهم، كَوَّن له الروم فريقًا من الجنود لقتله، ورآه أحد المسلمين من على بُعْدٍ، وقد سال الدم من عينيه، وقد فَقَدَ كلتا عينيه، وقبل أن يصل إليه أخوه المسلم قطعوه بأسيافهم، فكان بجسده أكثر من ثلاثين ضربة!! واستشهد.
    وقد أجزل الله العطاء للشهيد في سبيل الله؛ لما يبذله في أرض المعركة من بذل وتضحية، ولما يلقاه من أهوال وصعوبات، ولا يَقْوى على الصمود فيها إلا من ثبته الله، ومن وفقه الله لهذه الدرجة العالية.
    وما يطمئننا أن رسول الله يقول: "مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ". رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب.
    فكل ما على المجاهد أن يثبت فقط حتى يستشهد، فهذه هي الفترة الصعبة في حياته، وكفى به فتنة أنه يرى الموت تحت ظلال السيوف، فالشهيد في سبيل الله لا يُفتنُ في قبره، ولا يُفتنُ يوم القيامة في الحساب، بل يدخل الجنة دون حساب، ويُغْفَرُ له من أول دفعة من دمه، ويغفر له جميع الذنوب إلا الدَّيْن.
    يقول ابن القيِّم في "إغاثة اللهفان" عن الشهادة في سبيل الله: "وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا كما في ألم القرصة، فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على المعتاد في موت بني آدم، فمَنْ عدَّ مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الموتات وأفضلها، وأعلاها، ولكن الفارَّ يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش، وقد كذَّب الله هذا الظن حيث قال: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 16]، فأخبر الله سبحانه أن الفرار من الموت لا ينفع بشيء، وأنه حتى إن نفع، فسيكون هذا الشيء قليلاً، ثم قال سبحانه: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [الأحزاب: 17]، فإذا أراد الله للمرء سوءًا فإنه لا محالة لاقيه! {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11].
    وكانت هذه المعركة من المعارك العظيمة في الإسلام، والتي هُضِم حقُّها في التاريخ؛ إذ نجد قليلاً من المسلمين مَن يعلمون أمر هذه المعركة العظيمة، بل إنه حتى أهل (بيسان) اليوم ربما لا يعرفون هذه الموقعة، فيجب أن يعرف المسلمون كل هذه المواقع الإسلامية المهمَّة، والتي فَصَل الله بها بين الحق والباطل، ومهّدت لفتح أرض الشام أمام المسلمين.
    ملاحظات على المعركة :

    كانت هذه الموقعة دليلاً على كفاءة المسلمين، لاحظنا فيها تأييد الله للمسلمين، وهذا سبب كافٍ، ولكننا يجب أن نذكر أن ذلك التأييد من الله استحقه المسلمون آنذاك؛ لما تمسكوا بكتاب الله، وسنة نبيه.
    كما كان القائد في هذه الموقعة -كما بدا- هو خالد بن الوليد، وإن كان أبو عبيدة هو القائد الرسمي، إلا أننا لمسنا براعته العسكرية، ومهارته في القيادة، ولاحظنا كيف تمكّن من استدراج جيش الروم إلى المنطقة التي يريد أن يحاربهم فيها، كل ذلك التخطيط البارع وجدناه عند خالد، في مقابله وجدنا القائد الرومي يرتبك، وتفشل كل مخططاته للحفاظ على جيشه، مما أدى إلى تلك الهزيمة النكراء!! وكما يقول الرواة: "إن الله نصر المسلمين بما كانوا يكرهون", فقد كره المسلمون ذلك المستنقع، الذي وضعه الروم لعرقلتهم، فإذا به يتحول إلى الفخ الذي تسقط فيه فلول الجيش الرومي؛ كل ذلك لإثبات أن النصر إنما يكون من عند الله، ينصرهم كيف يشاء.
    كما تميز الجيش الإسلامي في هذه المعركة بخفة الحركة، وسرعة الأداء، وهذا ما اعترف به حتى المؤرخون النصارى، إذ أسرع المسلمون، منذ اللحظة الأولى في التحرك، والاستجابة لتعليمات خالد بن الوليد، وباغتوا الروم أكثر من مرة؛ مما كان له عظيم الأثر في انتصارهم.
    كما تمتعوا بكفاءة قتالية عالية، وصبرهم على القتال من الفجر حتى الظلام كان أمرًا لافتًا للأنظار، كذلك لا ننسى دور المخابرات الإسلامية في هذه المعركة، على عكس المخابرات الرومية، وكذلك الروح المعنوية العالية للمسلمين، فهم يقاتلون وليس أمامهم إلا إحدى الحسنيين: إمّا النصر، وإمّا الشهادة.
    وبعد الانتصار كتب أبو عبيدة لعمر بن الخطاب يبشره بالنصر، وأرسل الرسالة مع سعيد بن عامر، وذلك أن سعيدًا تاقت نفسه إلى حج بيت الله الحرام، فطلب من أبي عبيدة أن يرسله إلى عمر y جميعًا، وبدأ المسلمون يتسلمون الأردن وفلسطين من أهلها.




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  8. #18
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 14

    افتراضي


    فتح دمشق

    سيطر المسلمون على منطقة الأردن وفلسطين، بعد هروب جيش الروم إِثْرَ هزيمتهم النكراء في "بيسان"، ومن لم يقاتل منهم استسلم، ورضي بدفع الجزية للمسلمين، عدا ثلاث مدن: هي (القدس) و(عكَّا) و(حيفا) فلم تستسلم في هذا الوقت، وكان للقدس أسوار عظيمة، حالت دون دخول المسلمين إليها آنذاك، ثبَّت المسلمون أقدامهم في الأردن لمدة 3 شهور، منذ انتصارهم في ذي القعدة، حتى منتصف ربيع الأول عام 14هـ.
    بعد أن تم استسلام هذه المنطقة، فكَّر المسلمون في المرحلة التالية، ولم يكن أمامهم من عقبة سوى مدينة دمشق، التي لا تزال تتمتع بوجود أكبر حامية رومية فيها، فبدأ الجيش الإسلامي يتجه لحرب الروم في دمشق، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المسلمين تركوا (القدس /مدينة إيلياء آنذاك)، واتجهوا إلى دمشق، على الرغم من وجود المسجد الأقصى في القدس، وأنه مسرى الرسول ، وكان من المفترض أن يهتموا بفتحه، إلا أن المسلمين، مع عظم قدر المسجد الأقصى في قلوبهم، إلا أن همهم الأكبر لم يكن المباني والمنشآت وإنما إيصال دعوة الله إلى الأرض، ومنطقة القدس لم يكن بها الكثير من السكان، في حين كانت دمشق عامرة بالسكان، ومحصنة، وبها أكبر حامية للروم آنذاك، فآثر المسلمون أن يتركوا القدس، وينتقلوا إلى دمشق، حتى يكسروا شوكة الروم في هذا المكان، وينشروا الإسلام في هذه المنطقة..
    وهذا المفهوم في الحقيقة يجب أن يحرص عليه المسلمون دائمًا، فلا تتعارض رغبتنا في استرداد فلسطين، والقدس كأراضٍ مسلمة شريفة مع تعبيد الناس إلى الله ، ونشر الإسلام في أرجاء المعمورة، فغرضنا الأساسي أن تكون الأرض إسلامية، وأن يكون مَنْ عليها مِنَ المسلمين، ولا يحول بينهم وبين العبادة طاغوت مثل الروم، أو غيرهم. (فلا نرضى بأن نسترد القدس، وتقوم على أرضه دولة علمانية مثلاً، وإنما همُّنا الأول أن يكون من فيها يعبدون الله).
    انتقل المسلمون بقيادة أبي عبيدة من منطقة الأردن وبيسان إلى دمشق، آخذين الطريق الأقصر إليها، وكان هذا الحصار الرابع لدمشق، (كان الحصار الأول عندما جاءهم خالد من العراق، ثم انتقل لفتح بصرى، والثاني بعد عودته من فتح بصرى، ثم انطلق إلى أجنادين، وعاد بعدها مرة أخرى إلى حصاردمشق، حينما عزل خالد، ووليَ الأمرَ أبو عبيدة، ثم تركها وذهب إلى بيسان), وهذا يؤكد أنها مدينة حصينة، وأن حامية الروم فيها قوية، ولكن هذه المرة تختلف حيث إن البلاد التي خلف المسلمين الآن أصبحت كلها إسلامية، فلا خوف من أن يأتيهم جيش رومي من خلفهم، وقد كان اهتمام الروم بدمشق راجعًا لأهميتها الخاصة، وهو ما يرصده لنا القزويني في (آثار البلاد وأخبار العباد) إذ يقول: "قصبة بلاد الشام (أي عاصمتها أو مدينتها الأساسية) وجنة الأرض لما فيها من النضارة وحسن العمارة، ونزاهة الرقعة وسعة البقعة وكثرة المياه والأشجار ورخص الفواكه والثمار".
    قال أبو بكر الخوارزمي كما جاء في آثار البلاد للقزويني، وفي معجم البلدان للحموي: "جنان الدنيا أربع: غُوطة دمشق، وصِغد سمرقند، وشعب بَوَّان، وجزيرة الأبلة، وقد رأيتها كلها فأفضلها غوطة دمشق.
    ويقول الإصطخري: أَجَلُّ مدن الشام كلها دمشق وليس بالمغرب مكان أنزه منه (ويعدها من مدن المغرب لأنه من إيران)، ولهذا اهتم الروم بمدينة دمشق، ووضعوا حولها حصون ضخمة وعظيمة، حتى إن سور دمشق حتى اليوم لا تزال آثاره باقية، لِعِظمه وضخامة بناءه، وكان ارتفاع السور 6 أمتار، وعرضه 4 أمتار ونصف، وهو مبني بالحجارة السميكة، وبه أبراج يبعد كل برج عن الآخر 15 مترًا، وهذه الأبراج بها عيون يقذف منها الجنود الرماح والأسهم على من يقترب منها، وكان حول سور دمشق خندق عظيم، يحيط بدمشق كلها، إحاطة السوار بالمعصم، وكان هذا الخندق عريضًا بحيث يتعذر قفز الخيول من فوقه!! وكان عميقًا أيضًا..
    كما كان لذلك السور العظيم سبعة أبواب، (وقد تم استحداث 3 أبواب بعد الفتح الإسلامي) الباب الشرقي (العراقي) الذي اعتاد خالد بن الوليد النزول عنده، وعلى بعد ميل منه كان يوجد (دير صليبة) للنصارى، وعرف ذلك الدير لكثرة نزول خالد بالقرب منه باسم (دير خالد)، ونعتقد أنه الدير الوحيد بالعالم الذي يحمل اسمًا إسلاميًّا..
    معاهدة مكذوبة:

    تورد بعض كتب التاريخ (مثل كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر) نصًّا آخر للمعاهدة، هذا النص لا نجوزه، ومع ذلك فقد انتشر في كتب المسلمين، ونشره المستشرقون، وفي سند هذه الوثيقة ثمانية مجهولون، واثنان ضعفاء، كما أن العهد ورد في صيغته أنه من الروم لأبي عبيدة، يقول في بداية العهد: (هذا من قائد الروم ومدينة دمشق إلى أبي عبيدة، أنه علينا) وهي أمور يقومون بها للمسلمين، وهذا مخالف لكل الصيغ التي جاءت في تاريخ الحروب الإسلامية، في الروم وفارس.. فقد كانت الصيغة تأتي دائمًا من الجانب المنتصر (المسلمين) للمهزوم (الروم). وقد ذكرنا هذا العهد ورفضناه، لأنه قد ورد فيه بعض الأمور التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية، مثل ما ورد على لسان الروم (ونقوم لهم من المجالس، إذا أرادوا المجالس) أي أن الروم يقومون للمسلمين من المجالس، وهو ليس من الأصول الإسلامية في شيء!!، وحتى إن كان هذا قدْ تمَّ، فمن الصعب أن يكتب مثل هذا الأمر التافه البسيط في معاهدة بين دولتين.
    كما يذكرون: (ولا نعلم أولادنا القرآن) وهذا يتنقض من هدف هذه الفتوحات أصلاً، وهو نشر الإسلام، ونشر تعاليم الإسلام، وتعليم الناس القرآن، فكيف يوافق المسلمون على أن تكتب وثيقة يتعهد فيها الروم أنهم لن يعلموا أولادهم القرآن؟!! حتى إن ذلك يتعارض مع أصل عدم الإكراه في الدين في الإسلام، فإذا لم يريدوا أن يعلموا أنفسهم، ولا أولادهم القرآن فلا حرج عليهم، ولكن لا يكتب ذلك في وثيقة، بحيث إنه إذا علم أحد الروم ابنه القرآن يكون قد خالف عهد المسلمين، وهو أمر يخالف ما جاء في القرآن الكريم: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]. فهدف القتال مع هؤلاء المشركين هو توصيل رسالة الله I إليهم، وليس السيطرة أو امتلاك الأراضي..
    ويذكرون أيضًا في هذه المعاهدة المختلقة: (ولا نظهر شركًا في نادي المسلمين)، وليس من المعقول أن يقول النصارى على أنفسهم أنهم (يظهرون شركًا)، إذ إنهم لا يعترفون -أصلاً- بأنهم مشركون.. بل يرون أنهم على الحق، ويقولون: (ولا ننقش خواتيمنا بالعربية), أي أنهم لن يكتبوا بالعربية، وهذا مخالف للأصول الإسلامية، فإنه كان من أهداف المسلمين نشر اللغة العربية في البلاد المفتوحة، حتى يقربهم ذلك من فهم القرآن الكريم، والسنة النبوية..
    فلذلك كله يجب التنبيه على أن هذا العهد موضوع على المسلمين (إما وضعه بعض النصارى واليهود)، والغرض منه إظهار المسلمين أنهم يحاولون إذلال الآخرين، وليس همهم الدعوة، أو أنه وضعه بعض المسلمين الجهلاء، الذين ظنوا أن عزة الإسلام في ذل الآخرين!! وإنما تكون عزة الإسلام بنشره بين الناس، وبطاعتهم لله سبحانه.

    عودة إلى دمشق:

    يقضي المسلمون الشتاء في دمشق، ويوطدون أمورهم فيها، وفي المناطق المحيطة، ثم ينتقلون بعد ذلك بنحو 7 أشهر إلى المرحلة القادمة من جهادهم.
    دمشـق.. تُفتَح صُلْحًا:

    حتى يأتي الله في ليلة 14 من رجب عام 14هـ بالنصر من عنده، بعد أن أعد المسلمون العدة كاملة، من العبادة وقيام الليل، والاستعداد المادي والمعنوي، في هذا الوقت يولد مولود لـ(نسطورس) قائد الحامية الرومية، فيقيم احتفالاً كبيرًا بهذه المناسبة ويذهب إليه كل جنود الروم، وكل شعب دمشق الموجود داخل الأسوار، وانهمكوا في احتفالهم، وشربهم للخمر، ولا يزال المسلمون حول الأسوار، لم يعلموا بما يحدث إلا خالد بن الوليد ، الذي كان لا ينام، ولا يُنيم -كما يقول عنه الرواة- وكان له عيون في كل مكان، فلما سمع هذه الضجة، والأصوات العالية، استشرف الأمر، وإذا بالأسقف الذي وقع معه المعاهدة يرسل له رجلاً يخبره بأن أهل دمشق قد أقاموا ذلك الاحتفال بمولود قائدهم، وأن كثيرًا من الجنود في ذلك الحفل، يدرك خالد عندئذٍ قلة الحراسة عند الأبواب، وكان قد أعد (سلالمَ وحبالاً) أخذها من الدير القريب منه، على أن يخفف عن صاحب الدير الجزاء إذا فتحت دمشق، وكذلك أعد القِرَبَ التي تمكن المسلمين الذين لا يجيدون السباحة من عبور المياه، وتجاوز هذا الخندق الكبير الذي يحيط أسوار دمشق، يعبر هذا الخندق خالد والقعقاع بن عمرو والمذعور العجلي، وهؤلاء الثلاثة كانوا قادة المسلمين في حروب الفرس، فلم يكلوا هذا الأمر إلى صغار الجنود، بل تولاه هو، ونائبه القعقاع وأحد كبار قواده المذعور بن عدي، فعبروا الخندق، وألقوا بالسلالم والحبال على الأسوار، وتمكنوا من تسلق السور، وكانوا أول من نزل داخل الأراضي الدمشقية، وقالوا للمسلمين: إن علامة دخولكم أرض دمشق "التكبير"، ولم يكن هناك إلا عدد قليل من الحراس، قاتل خالد حراس الباب الشرقي، وقتلهم، وأشار إلى رجال فوق السور، ليكبروا، فهجمت القوات الإسلامية على الباب، وفتحته، وقطعوا الحبال التي تمنع فتحه، وتدفقت الجيوش الإسلامية تدفقًا عظيمًا على الباب الشرقي (9 آلاف مجاهد) من دمشق بعد منتصف الليل (وتذكر بعض الروايات أن ذلك كان قبيل الفجر), وكان ذلك في 3 من سبتمبر 653م في مطلع الشتاء, ودخل الجيوش الإسلامية دمشق، ويعلم الروم بدخولهم فيسرعون لتدارك موقفهم، ولكن المفاجأة أذهلتهم، وسقط منهم كثير من القتلى، ودار القتال في شوارع دمشق، وكان قتالاً صعبًا على المسلمين، لأنهم لا يعرفون تفاصيل الشوارع، ومع ذلك فقد انتصر المسلمون، وكتب الله لهم النصر في البداية!
    حيلة نسطورس:

    لما علم قائد الروم بذلك، قام بحيلة ذكية، بأن فتح الباب الغربي (باب الجابية) لأبي عبيدة، والباب الصغير ليزيد، وباب الفراديس لشرحبيل، وهي الأبواب الثلاثة البعيدة عن خالد بن الوليد، وقال لأبي عبيدة: إني قد عاهدتك على الصلح، ولم يكن أبو عبيدة يعلم أن خالدًا قد دخل من الباب الشرقي في ذلك الوقت، (وربما يرجع ذلك لسرعته، ولأنه خشي أن يستأذنه فتضيع الفرصة منه)، فلما خرجت الجيوش الرومية إلى أبي عبيدة، ويزيد، وشرحبيل تطلب الصلح (وهو ما أراده المسلمون منذ البداية) لم يكن منهم إلا أن يوافقوا وأعطاهم أبو عبيدة الأمان، إلا أنه كان متعجبًا لوقت هذا الصلح!!.
    ودخلت الجيوش الإسلامية من غرب دمشق ومن شمالها صلحًا، حتى وصلوا إلى جيش خالد بن الوليد وهو يقاتل، فلم يكن منهم إلا أن اجتمعوا (وبدا أن جيش خالد دخل قبل أن يعقدوا الصلح مع المسلمين، وأن نسطورس قام بهذه الحيلة لكي يحفظ دماء قومه بإعطاء الجزية، لكن المسلمين لم يتأكدوا من ذلك). فقالوا: والله إن أخذنا ما ليس لنا فسَفَكْنا الدماءَ، وأخذنا الأموال لَنَأْثمَنَّ، ولئن تركنا بعض ما لنا، لا نأثم, فأخذوا بالسلامة إيثارًا للعدل، فأنفذوه صلحًا مع دمشق!!...
    وهو أمر عجيب أن المسلمين يتحرجون من أن يظلموا أهل دمشق والروم إلى هذا الحَدِّ، على الرغم من أن الروم كانوا حريصين على قتالهم، إلى آخر لحظة.
    وهم بذلك إنما يتبرأون من الشبهة عملاً بقول رسول الله : من حديث النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: "إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ, فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ, كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ, أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلا, وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ" رواه مسلم.
    يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث: "إن صحابة رسول الله ، كانوا يتركون تسعة أعشار الحلال، مخافة الوقوع في الحرام إذا كان فيه شبهة". وبذلك سادوا، وبذلك نصرهم الله I في دمشق، وفي المواقع السابقة، والمواقع التالية. إذ إنهم يعملون وكل غايتهم إرضاء الله أولاً وأخيرًا، وليس كسب المغانم من أرض دمشق، وثمارها، وأنهارها، وإنما الغاية الوحيدة رضا الله ، بنشر الإسلام في هذه البلاد، وغيرها.
    ويُقر أهلُ دمشق على العهد، فيأتي أسقف دمشق، ويحضر معه العهد الذي كان قد أمضاه خالد بن الوليد، فيتعجب المسلمون من هذا العهد، ويقولوا: كيف يعطي خالد عهدًا وهو ليس بأمير؟!! إن هذا لا نجوِّزُه، فيقول أبو عبيدة: "إنني من المسلمين، وأجيز على أدنى رجلٍ من المسلمين".
    وتلك المقولة من أبي عبيدة لها عدة أسباب أهمها ثقته الكبيرة في خالد بن الوليد، وعلو مكانته عنده، وأن هذه هي طبيعة أبي عبيدة، إذ كان يتسم بالحكمة، والذكاء الشديدين، كما أنه كان هينًا لينًا سهلاً، لا ينتصر لنفسه، كما قال عنه الصديق: "إذا ظُلِمَ لم يَظلِم، إذا أُسيءَ إليه غَفر، وإذا قُطِعَ وَصل", وهذا ما فعله من قبل مع عمرو بن العاص في ذات السلاسل، وهذا ما يجب أن يفعله المسلمون، إذا أعطى أحدهم عهدًا أو أمانًا ينفذه أمير المسلمين..
    وبذلك أجاز المسلمون عهد خالد بن الوليد.

    وقفة مع أبي الدرداء:

    المتابع لسيرة أبي الدرداء يلحظ أنه كان رجلاً حريصًا على العبادة، والصلاة، وليس له اهتمام يذكر بالجهاد، وقد قرأنا من أقوال لأبي الدرداء توحي بذلك، إذ يدعو الله: "اللهم إني أعوذ بك من شتات القلب، سئل، وما شتات القلب يا أبا الدرداء؟، قال: أن يكون لي في كل واد مال", أي أن يكون له تجارة، تجعل قلبه معلقًا بهذه الأموال، وتبعده عن عبادة الله حق عبادته، وكان ذلك ديدنه دائمًا بعد إسلامه، إذ إنه كان تاجرًا عظيمًا قبل إسلامه، لم يبق من تجارته بعد إسلامه إلا القليل، كان يقول: "أسلمت مع النبـي وأنا تاجر، وأردت أن تجتمع لي العبـادة والتجارة فلم يجتمعا، فرفضـت التجارة وأقبلت على العبادة، وما يسرنـي اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار، حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد، ألا إني لا أقول لكم: إن اللـه حرم البيع، ولكني أحب أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"، وقد صدَّق في أفعاله كلها هذه الكلمات، فاكتفى بقليل التجارة، حتى لا تلهيه عن ذكر الله، بل وكان يقول لمن حوله: "ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند باريكم، وأنماها في درجاتكم، وخير من أن تغزو عدوكم، فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم، وخير من الدراهم والدنانير.. ذكر الله، ولذكر الله أكبر", ورد موقوفًا في موطأ مالك، ومرفوعًا إلى النبي في الترمذي, (وكان شأنه في ذلك شأن معاذ بن جبل، الذي أوصى أصحابه عند وفاته أن يلتمسوا العلم عند أبي الدرداء)، كل تلك الأقوال توحي إلينا أنه لا يرى فضلاً عن ذكر الله، وعبادته، ويجعلنا نتعجب من أن يكون قد خرج للجهاد في سبيل الله، ويؤمره أبو عبيدة على هذه الفرقة في دمشق، ونفهم من ذلك أن أبا الدرداء ، وإن كان يولي ذكر الله وعبادته كل اهتمامه، إلا إنه يعرف (عبادة الوقت)، ففي وقت الجهاد، لا شيء يعدل الجهاد في سبيل الله، فلما دعي للجهاد ترك العبادة، وترك مسجد رسول الله، والمسجد الحرام، وخرج إلى الجهاد، ولا يزال على عهده مع الله، ومع نفسه، في أرض الجهاد يذكر الله في كل حين، شأنه في ذلك شأن غيره من صحابة رسول الله ، وأفراد الجيش الإسلامي كله.. وعلى ذلك يجب أن يكون المسلم في كل وقت..
    ثم يرسل أبو عبيدة ذو الكُلاعِ الحِمْيَرِيّ إلى مسافة 45 كلم في الشمال، في اتجاه حمص، يعسكر بقوة أخرى، لحماية المنطقة أكثر، وهكذا أصبح لدى المسلمين قوتان في الشمال لصد أي هجمات رومية محتملة، وقطع المدد والتموين عن الحامية الرومية في دمشق، وبذلك صعبت المهمة على الروم صعوبة شديدة..
    حصــار.. ومعاهدة:

    استمر حصار المسلمين للروم لمدة أربعة أشهر (وتذكر بعض الروايات أنها بلغت 6 أشهر)، وفي أثناء ذلك الحصار يرسل الروم اثنين من الجواسيس العرب، للاندساس في جيش المسلمين، مثلما فعلوا قُبَيْلَ موقعة أجنادين فذهبا، ثم عادا لقائد حامية دمشق الرومي نسطورس يقولان له: وجدناهم على طول قيام بالليل، وصبر على الجهاد والتدريب بالنهار، وإذا وجد أحدهم شيئًا كالنعل أو الغزل، وضعه في الغنائم، فإذا سأله صاحب الغنائم: أي شيء هذا؟ قال: لا نستحِلُّه إلا بحِلِّه. (أي أن جميع الجيش الإسلامي لا يَغُلُّ، أو يأخذ ما ليس له، مهما كان حقيرًا أو بسيطًا)..
    يروي أبوداود أن رجلاً مات يوم خيبر، من أصحاب رسول الله، فبلغ النبي، فقال: "صلوا على صاحبكم"، ولم يصلِّ عليه، فتغيرت وجوه الناس، فقال : "إن صاحبكم غَلَّ في سبيل الله", أي أخذ شيئًا من الغنائم ليس من حقه، ففتشوا متاعه فوجدوا خرزًا من خرز اليهود، لا يساوي درهمين!! (تسبب في حرمانه من صلاة الرسول عليه في ذلك اليوم)، وروىالبخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: كان على ثقل النبي (أي على حماية الغنائم) رجل يقال له: كَرْكَرَة، فمات، فقال النبي : "هو في النار", فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة في متاعه!!! (جعلته في النار، فهذه أصول إسلامية، تعلمها المسلمون، وتربوا عليها) وكان رد نسطورس قائد دمشق آنذاك: إن كانوا على هذه الحال، فليس لنا بهم من طاقة!! (مثلما قاله قائد الروم باهان في أجنادين)... وهكذا يدخل المسلمون الحرب بهذه النفسية، وبهذة الثقة أن الله معهم، ومن كان الله معه، فمن عليه؟!!. وفي المقابل نلحظ نفسية القائد الرومي، وبالتالي جيشه، الذي يدخل الحرب، وفي يقينه أنه لا طاقة له بمثل هؤلاء المجاهدين الصادقين!! فقد ألقى الله I في قلوبهم الرعب.
    في هذه الأثناء، كان لخالد بن الوليد عيون داخل دمشق، وكان منهم أحد أساقفة دمشق، الذي يمده بالمعلومات، وقامت بينه وبين خالد علاقة وطيدة، إلا أنه لم يُسْلِم، حتى جاء يوم، وهو يحدثه قال له: إني أرى أن الغلبة ستكون لكم، فقال له خالد: صالِحْني (ولم يكن خالد آنذاك أميرَ الجيوش) وكتب عهدًا معه يقول فيه: هذا كتاب من خالد بن الوليد إلى أهل دمشق، أني أمنتهم على ديارهم، وأموالهم، وكنائسهم، ألا تُسْكَنَ، ولا تهدم، لا يُعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية.. وأمَّنَ هذا الأسقف، (ولم يكن من صلاحيات خالد، وهو قائد على واحد من جيوش المسلمين فحسب أن يفعل ذلك، ولكنه أراد أن يستغلَّ هذه الفرصة التي قد تزلزل أهل دمشق، وتشجعهم على الاستسلام في نفس الوقت)، وهناك رواية أخرى تذكر أن يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهما شهدا على هذا العقد، وإذا صحَّتْ هذه الرواية، فلا شك أن أبا عبيدة قد وصله أمر هذه المعاهدة، ويزول اللبس أو الإشكال حول هذا الأمر. أما إذا لم يصح، فإن حله أن خالد قد آثر أن يأخذ هذا العهد لكي يوهن من نفسية أهل دمشق, وقد تم هذا العهد ولم يعلم القائد الرومي نسطورس عنه شيئًا، إذ كان تصرفًا فرديًّا من أسقف دمشق.
    ويأتي مدد آخر للروم من طريق حمص، ويتصدى له ذو الكلاع الحميري، ويقضي على هذا المدد، وبذلك أيس الروم داخل حصون دمشق من أن يصلهم أي مدد، أو يفك عنهم الحصار.
    جيش المسلمين يحـاصر دمشق:

    توجه أبو عبيدة بالجيوش، وفي مقدمتها خالد بن الوليد إلى حصون دمشق، واستعاد ترتيب جيشه، فنزل خالد بن الوليد في مكانه المعتاد (الباب الشرقي)، ثم نزل على باب الجابية أبو عبيدة بن الجراح، وكان من الواضح أن جيشي أبي عبيدة وخالد، هما أقوى جيوش المسلمين، وكان قوام جيش خالد 9 آلاف مقاتل، وجيش أبي عبيدة 7 آلاف مقاتل، ثم حاصر جيش يزيد المنطقة الجنوبية، حول بابي (كيسان والصغير)، في حين حاصر جيش عمرو باب (توما) في الشمال، وحاصر جيش شرحبيل باب الفراديس، وتُرِكَ باب السلامة لصعوبة الطريق إليه..
    كما بثَّ المسلمون العيون في كل منطقة، تحسبًا لقدوم قوات رومية من خلف الجبال، إذ تقع دمشق في سفح جبل قاسيون، وقد قدمت القوات الرومية من حمص -كما ذكرنا سابقًا- مستترة خلف هذه الجبال، حتى وصلت إلى بيسان، وفعلاً حدث ما توقعه المسلمون، إذ علموا بوصول قوة رومية قادمة من حمص، متجهة نحو دمشق مددًا للحامية الرومية، فخرجت فرقة صغيرة لمقاتلة هذه القوة، وكانت بقيادة الصَّلْت بن الأسود الكندي، فطاردت تلك القوة التي كانت أكبر من فرقته، ولكنها فرَّتْ، فتعقبها حتى دخل حمص وراءها (وكانت المسافة من دمشق إلى حمص نحو 225 كلم) فهي مسافة كبيرة، ولكن الفرقة الإسلامية تتبعتها كل تلك المسافة، وتجاوزت حمص، وفتحت حمص دون أي مجهود يذكر من المسلمين، وطلب أهل حمص الأمان من المسلمين، فأمَّنوهم، ثم عادت القوة الإسلامية مرة أخرى إلى دمشق، بعد فرار القوة الرومية، ومعاهدة أهل حمص على الأمان..
    ووضع المسلمون جيشًا إسلاميًّا (حامية) في اتجاه الشمال، تجنبًا لحدوث مثل ذلك مرة أخرى، ووضوعوا على رأسها أبو الدرداء ، وكانت على بعد 5 كلم شمال دمشق، في سفح جبل قاسيون، عند قرية تسمى قرية برزة، للتصدي لأي قوى رومية تأتي في اتجاه دمشق من هذه المنطقة.




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  9. #19

    عضو مجتهد

    مسلم غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2027
    تاريخ التسجيل : 14 - 4 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 43
    المشاركات : 177
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    البلد : مصر
    الاهتمام : مقارنة الاديان
    الوظيفة : محاسب قانونى
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    بارك الله فيك
    والله لقد دمعت عيناى من كثرت مقارنات على حالهم وحال المسلمين الان





  10. #20
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 14

    افتراضي


    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مسلم مشاهدة المشاركة
    بارك الله فيك
    والله لقد دمعت عيناى من كثرت مقارنات على حالهم وحال المسلمين الان
    وبارك الله فيك يا أخى
    و لقد دمع قلبي قبل عيني على فخر الأمه وقادتها وعزتها وشموخها فى هذا العصر الراااااااااااائع و والله إني لأشتاق أن أرى واحد من هؤلاء العظماء البسطاء الرفقاء ... اللهم ألحقنا بالشهداء والصالحين يا رب العالملين




    [SIGPIC][/SIGPIC]


 

صفحة 2 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML