المبحث الأول
اختلاف المطالع معتبر شرعا

ان كثير من المسلمين في هذه الأيام يرون أن اختلاف المسلمين في الصيام والافطار أمر منكر لا يجيزه الشرع ، وأنه مظهر من مظاهر الضعف والوهن الذي أصاب المسلمين ، وعلامة على تفرقهم وتشتتهم ، وهو خطأ وجهل بالدين ، لأن اختلاف المطالع معتبر شرعا ، ويدل على ذلك حديث كريب مع ابن عباس رضي الله عنهما .

فعن كريب مولى ابن عباس ، أن أم الفضل بنت الحارث ، بعثته إلى معاوية بالشام ، قال: فقدمت الشام ، فقضيت حاجتها ، واستهل علي رمضان وأنا بالشام ، فرأيت الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة ، فقال : أنت رأيته ؟ فقلت : نعم ، ورآه الناس ، وصاموا وصام معاوية ، فقال : " لكنا رأيناه ليلة السبت ، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين ، أو نراه ، فقلت : أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ ، فقال : لا ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ صحيح : أخرجه مسلم في صحيحه (1087) ، والترمذي في "جامعه" (693) ، والنسائي في "المجتبى" (2111) ، وابن خزيمة في "صحيحه" (1916) ] .

قال الترمذي : " حديث ابن عباس حديث حسن صحيح غريب ، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن لكل أهل بلد رؤيتهم " .

قلت : وهو حديث وان كان موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما الا انه في حكم المرفوع الى النبي صلى الله عليه وسلم ، لقول ابن عباس المتقدم : " هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، فصرح بأنه من أمره صلى الله عليه وسلم ، والحديث ظاهر الدلالة على ان اختلاف المطالع أمر واقع وثابت بين البلاد البعيدة كاختلاف مطالع الشمس ، وأنه معتبر شرعا ، فلكل بلد رؤيتهم ، وان رؤيته الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنها .

قال الفقيه الحنفي ابن عابدين في رسالته : " تنبيه الغافل والوسنان على أحكام هلال رمضان" : "اعلم أن مطالع الهلال تختلف باختلاف الأقطار والبلدان ، فقد يُرى الهلال في بلد دون آخر... فتحقّق اختلاف المطالع مما لا نزاع فيه " [ مجموعة رسائل ابن عابدين ، 1/250 ] .

فاختلاف مطالع الهلال أمر واقع وثابت ، فمن المحسوس لبمشاهد أن الليل يدخل في مكان قبل الآخر، وكذلك النهار ، وهو يشبه الصلاة ، فلم يكن من الممكن أن يتفق ويتحد المسلمين في الصلوات الخمس ، ولا حتى في صلاة واحدة منها ، مادامت ديارهم متنائية ، وأقطارهم متباعدة ، اذ يدخل وقتها في بلد ، ولا يدخل في آخر ، وكذلك لا يجوز أدائها قبل دخول وقتها لأن الصلاة موقوتة لقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ) [النساء : 103] ، فكما أن الوقت المعين للصلاة يعتبر شرطا من شروطها ، لا تصح الا بدخوله ، ولا يقال : ان ذلك يدل على تفرق المسلمين ، واختلاف كلمتهم ، فكذلك الصيام ، لأن الاعتبار برؤية واحدة فقط لبلد ، والزامها سائر البلدان قد يدخل في المحظور ، فتجعل أهل بلد يصومون يوم الشك وهو صوم منهي عنه ، أو تجعل أهل بلد يفطرون أول يوم من رمضان ، أو يصومون أول أيام عيد الفطر ، وكل ذلك منهي عنه . والله المستعان .