ولقد كان من المبادئ العامة لدى المسيحيين - ولدى كثيرين من الضالين أنفسهم - أن الكنيسة قد أقامها ابن الله، وتبعا لهذا المبدأ كان كل هجوم على المذهب الكاثوليكي جريمة موجهة إلى اللّه نفسه، وكانت النظرة التي ينظر بها إلى الضال العاصي هي أنه أداة للشيطان أرسل للقضاء على عمل المسيح، وكل رجل من رجال الحكم بغض النظر عن الضلال إنما يخدم الشيطان بعمله هذا. وإذ كانت الكنيسة نشعر بأنها جزء لا يتجزأ من حكومة أوربا الأخلاقية والسياسية، فقد كانت تنظر إلى الضلال كما تنظر الدولة إلى الخيانة: أي أنه عمل يراد به تقويض أسس النظام الاجتماعي.
وفي ذلك يقول إنوسنت الثالث: "إن القانون المدني يعاقب الخونة بمصادرة أملاكهم وإعدامهم ... وهذا يؤكد حقنا في أن يحرم من الدين من يخونون دين المسيح، وأن تصادر أملاكهم، ذلك بأن الإساءة إلى الذات العلية المقدسة جريمة أشنع من الإساءة إلى جلالة الملك"(40).
وكان الضال يبدو في أعين الحكام الدينيين أمثال إنوسنت شراً من المسلم أو اليهودي، ذلك أن هذين يعيشان إما في خارج العالم المسيحي أو يخضعان لقانون نظامي - صارم - إذا كانا في داخله؛ يضاف إلى هذا أن العدو الأجنبي جندي في حرب صريحة، أما الضال فهو خائن في داخل البلاد يقوض أسس المسيحية وهي مشتبكة في حرب طاحنة مع الإسلام، يضاف إلى هذا في رأي رجال الدين، أنه إذا أجيز لكل إنسان أن يفسر الكتاب المقدس حسب ما يراه عقله (مهما يكن قاصراً)، وينشئ لنفسه الصورة التي يرتضيها من صور المسيحية، فإن الدين الذي حفظ لأوربا قانونها الأخلاقي الضعيف لن يلبث أن ينهار ويتفرق إلى مائة عقيدة، ويفقد ما له من أثر بوصفه قوة اجتماعية تربط الآدميين المتوحشين بفطرتهم، تخلق منهم مجتمعاً وحضارة. (ص5682)