أشرت في مقالتين سابقتين إلى أن اللحى أنواع وموديلات، وعلامات على الطاعة أو الانفلات، والتدين أو الاستباحة، وأنه ليس كل متدين شيخًا، وليس كل حليق زنديقًا.. وأواصل حديثي اليوم عن اللحية التي تختلف دلالاتها بين المروءة والرجولة والكرامة، والنعومة والخنفسة والاستعراض، وما بين ذلك..
كانت اللحية (والشارب) من علامات الرجولة، والقوة، والنضوج، والهيمنة، وكان من العار أن يجبَر إنسان على حلق لحيته أو شاربه، إذ كان ذلك قمة الانتقاص والإذلال وكسر الإرادة، ولو أنك سببت كائنًا من أهل النخوة بأن لحيته (على مَرة) فكأنك قطعت عنقه!
وقد استخدم هذا المعنى سبط ابن الجوزي (يوسف بن عبد الله - توفي 654 هـ/1256 م. وهو ابن بنت الإمام ابن الجوزي رحمهما الله) أيام الغزو الصليبي لديار المسلمين إذ وصف قومه بأنهم (نساء بعمائم ولحى!) حين خطب في الجامع الأموي بدمشق، فقال: أيّها الناس: مالكم نسيتم دينكم، وتركتم عزتكم، وقعدتم عن نصر الله، فلم ينصركم؟!
حسبتم أن العزة للمشرك، وقد جعل الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
يا ويحكم، أما يؤلمكم ويشجي نفوسكم مرأى عدو الله وعدوكم يخطر على أرضكم التي سقاها بالدماء آباؤكم، يذلكم ويستعبدكم وأنتم كنتم سادة الدنيا!؟
أما يهز قلوبكم وينمي حماستكم مرأى إخوان لكم قد أحاط بهم العدو، وسامهم ألوان الخسف؟!
أفتأكلون وتشربون وتتنعمون بلذائذ الحياة وإخوانكم هناك يتسربلون اللهب، ويخوضون النار، وينامون على الجمر؟!
يأيّها الناس: إنها قد دارت رحى الحرب، ونادى منادي الجهاد، وتفتحت أبواب السماء، فإن لم تكونوا من فرسان الحرب، فافسحوا الطريق للنساء يُدرن رحاها، واذهبوا فخذوا المجامر والمكاحل، يا نساءً بعمائم ولحى!
ولا يمنع هذا أن تجد نساء بلحى، يستنكفن أو يستصعبن أن يزلن شعر الوجه والذراعين والجسد، بحسب شرائعهن، أو تقاليدهن، أو لخلل هرموني، أو لا أعرف لماذا (وهو شائع في نساء شبه القارة الهندية)!
وهناك لحية للمفكرين والرسامين (خاصة) انتشرت في فترة من الفترات إشعارًا من أحدهم بأنه استثنائي ومخالف للناس.. فمن أهل الفكر الملتحين كان ماركس وداروين وفرويد وجورج برنارد شو أصحاب اللحى الكثيفة الطويلة (لو عاشوا زمن مبارك لنفخهما مخبرو أمن الدولة) ولينين ذو السكسوكة.. ومن أهل السياسة الريس كاس- ترو، ورفيق دربه اليساري المتطرف أرنستو جيفارا الذي اشتهر بلازمته اللفظية (تشي) فظن المثقفون أنها اسم أبيه! وأهمهم وأفضلهم الرئيس مرسي الذين يطلق لحيته تدينًا واستنانًا، وهي شجي في حلوق العلمانيين من أول دقيقة؛ إذ كيف يحكم مصر رئيس (بدقن) ويصلي الفجر، ويحفظ القرآن!
ومن الرسامين المصريين الملتحين المثال محمود مختار، وسيد بدرية، وجورج بهجوري، ومن الممثلين حسن يوسف..
وهناك لحية كاذبة تلصق على الوجه، تضعها طائفتان (خسيستان) من البشر:
طائفة المخبرين الأنذال الذين يلبسون اللحى، ويتحركون لتنفيذ مهمة (خسيسة) مثل التفجير، والترهيب، وذبح الناس وقتلهم..
وقد نشر واحد من هؤلاء هرب من الجزائر إلى فرنسا، ثم شرح للصحافة كيف كانوا يكلَّفون بمهام الهجوم على القرى، وذبح الناس من أعناقهم كالخراف، ثم إلصاقها بالإسلاميين، بعد أن يكونوا قد اصطحبوا معهم مصورين وصحفيين، لتنشر الصور مباشرة على أنها من جبهة الإنقاذ!
والثانية طائفة الممثلين الأنذال الذين تخصصوا في تقبيح الدين والملتحين والمنتقبات والمحجبات، في موجة كبيرة من أفلام التشويه والتقبيح وانتقاص الدين.. خصوصًا البذيء الهلفوت وعصابته التي تخصصت في الهجوم المباشر منذ عقود.. وأخرجوا العديد من الأفلام في هذا السياق، وصدق نفسه أنه صار (زعيمًا) ومثقفًا، وله الحق أن يتكلم في كل شيء!
هذا بجانب اللحى التي يرسمها رسامو الكاريكاتير البذيئين الذين كثفوا أعمالهم في موجات انتقاص وإهانة، خصوصًا مصطفى حسين وعمرو سليم وعمرو عكاشة، وكثيرين آخرين! والذين فاقوا في هجومهم هجوم رسامي الكاريكاتير في الغرب، وما يقترفونه كل يوم ضد الإسلام والمسلمين، مع أن أكثرهم عديم الموهبة، إلا في السب والردح!
وهناك لحى نضالية، أو لحى مواجهة، رفض أصحابها حلقها لما أمروا بحلقها في الجيش أو الشرطة، وتعرضوا بذلك للسجن، والأذى، والإخراج من الخدمة العسكرية، وأذكر عددًا ممن تمردوا وواجهوا وأصروا في السبعينيات منهم الصديق الشيخ علاء رجب، وبلدياتي الشخ سيد مطر، والشيخ الإسكندري المشهور الدكتور أحمد فريد، وكثيرون غيرهم!
وهاهي القصة تعود ثانية بشكل أوضح في إضراب عدد لا بأس به من الضباط والعسكريين في مواقع مختلفة، ممن يريدون إعفاء لحاهم، والذين كونوا ائتلاف ضباط الجيش والشرطة الملتحين، ويطالبون باعتبار ذلك اختيارًا مسموحًا به في مصر المسلمة، وفي ظل رئيس جمهورية ملتح، ووزراء ومسؤولين مثله.. وأسأل الله تعالى أن يأجرهم، ويثبتهم، ويسددهم، ويعينهم.. فهم يواجهون ألف ناقم، ومليون رافض، وثمانين مليون مندهش من موقفهم!
وقد صدرت لصالح بعضهم أحكام، أبى وزير الداخلية تنفيذها، ونحن ولا شك دولة ديمقراطية جدًّا، يُصدر (بعض) قضاتها أحكامًا لا بأس، فلا تعجب بعض الناس اللي (دستور يا سيادي) فيقولون بلساني الحال والمقال: بلِّي حكمك يا محكمة، واشربي ميته، سواء كانوا من الإعلاميين البلطجية، أو الوزراء الجامدين، أو السادة الكبار جدًّا بتوع المجلس العسكري، فلا يجوز أن يجلس أحد من هذه الفئات أمام محكمة كما يحصل في بعض البلاد المتخلفة، الذين يجلس رئيسهم أمام القاضي، ويخضع لحكمه، كما فعل كلينتون، وبلير، وحظابط كوندي بنت رايس!
طبعًا لن أتطرق للحى الإهمال التي تعفى في الحداد على ميت، ولا موديلات اللحى العجيبة في السينما، خصوصًا في المسلسلات التاريخية (اللي تفطس م الضحك) لشدة البلاهة فيها، والانسلاخ عن العقل والمنطق والحق والصواب، ولا اللحية القفل، والسكسوكة، والخط الرفيع، ولا اللحية الإخوانية، أو السلفية، أو الدراويشية!
ولن أتكلم عن الأمثال الشعبية عن اللحية وهي كثيرة، ومن أكثرها تعبيرًا قولهم: لحية تنداس، ولحية تنباس، ولحية تتحط فوق الراس كما ذكرني به الأستاذ الفاضل عزت عفيفي/ وقولهم: كل لحية ولها مقص/ بوس الأيادي ضحك على الدقون/ كل لحية ولها مشط/ آدي دقني/ ابقى تف على دقني... وما شابه من أمثال وكنايات عامية في ثقافات كل الشعوب!
لن أكمل فبعض القراء بدؤوا ينزعجون من هروبي من الواقع المزعج للكتابة عن اللحية.. خلاص.. وقفنا.. وهانبطل هروب!

gpdi jkfhs ,gpdm jk]hs