وليد الحسيني، تحية طيبة، وبعد:

قد استرعى حفيظتي قولك: "يعد هذا أهم وأعظم وأعمق أسباب الحادي حيث أن (الشر - الخالق) كلمتان متضادتان"؛ ذلك أنك ملحد بالخالق، وليس بالإله الإبراهيمي_ حسب تعبيرك _فقط، فما أدراك أنَّ الشرَّ ضدُّ الخالق؟ أتؤمن بخالق هو ضدُّ الشر؟! ثمَّ إنَّ هذا خطأ؛ ذلك أنَّ (الخير) ضدُّ (الشر)، و(الخالق) ضدُّ (المخلوق)، بينما (الشر) و(الخالق) كلمتان متغايرتان، فتأمَّل.

لعلَّك تقصد أنَّ وجود الشرِّ يتنافى مع وجود الخالق؟! نعم، هذا ما يظهر من السياق. لكن، لماذا هذا التنافي؟ أهو اجتماع النقيضين مثلا، أم هو افتراض أنت تفترضه؟ وعلى كل حال، العقلاء يرفضون افتراضك، وهو لا شيء.

وحتى تنكشف الأمور لمن رامها بحقٍّ، أقول: إنَّه لمن الخطأ أن نحاكم الخالق بافتراضات المخلوق، ومن الخطأ أن نقيس الخالق على المخلوق، فما نظنُّه شرًّا ليس بالضرورة أن يكون كذلك، وصدق الله العظيم:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، (البقرة: 216). وقال كذلك:" فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا"، (النساء: 19).
إذن، كونك ترى وجود الشرِّ شرًّا تنزه عنه الخالق هو تمحل منك لا نرضاه، فقد جعل الله في وجود الشرِّ خيرًا كثيرًا، ومن الطبيعي أن لا نصل بأنفسنا إلى إدراك حكم وجود الشرِّ؛ لأنَّنا لم نحط بعلم الله خبرًا حتى ندرك كلَّ خير لنا أراده. وأضرب مثلا_ ولله المثل الأعلى _: قد نهاني والداي وزجراني عن أمور لم أكن أراها إلا خيرا، وقد كان ينتابني شعور غيظ منهما كلَّما زجراني، ولم أدرك شرَّ ما رأيته من قبل خيرا إلا عندما زادت ثقافتي وتجربتي في الحياة، أي عندما كانت نظرتي للأمور قريبة من نظرة والدي_ حفظهما الله ورعاهما _.

فإن كان ذلك كذلك، فكيف لعقلك العاجز الناقص المحتاج المحدود أن يدرك أبعاد ومرامي من تنزَّه عن النقص والمعرة، وقد حاط علمه بكل شيء خبرا؟! وهنا لا بدَّ لنا من وقفة على كيفية تحديد الشر:

نحن_ المؤمنين _لدينا قناعات راسخة متينة، ألا وهي: (الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع)، (الخير ما أرضى الله، والشر ما أسخط الله). ومنبع هذه القناعات هو إيماننا الراسخ بكمال الله، فالسعادة في نيل رضوانه، ولن نكون أفضل من خالقنا في معرفة ما يصلح شأننا وأحوالنا، فما ارتضاه الله لنا هو خير وأي خير، وما نبذه لنا هو شر وأي شر. وغني عن القول أن أقول لك: إن آمنت بخالق لهذا الكون، فستكون هذه قناعتك الرديفة للإيمان، المتزامنة معه.

وعليه، فالشرُّ هو مخالفة أمر الله، وقد شاءت حكمته واقتضى عدله أن يهدي الإنسان النجدين، ثم بيَّن له الحقَّ من الباطل، وترك له اختيار السبيل؛ إمَّا شاكرًا وإمَّا كفورا.

أمَّا ما تراه من ألوف تموت جوعًا وغير جوع في أرجاء المعمورة، فهي أشواك الرأسمالية المنتنة، التي جعلت قيم الحياة مادية بحتة، ومقياس السعادة هو نيل أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية_ ولو كان على أنقاض البشر _. ونظرة خاطفة إلى النظام الرباني الذي حكم العالم طيلة أربعة عشر قرنا، ترينا كيف كان الملاذ الآمن للبشرية، وكيف قضى على الفقر أيما قضاء، وكيف ساس الناس بما هو نافع لهم، فعمر الأرض، وأرسى العدل.

أمَّا بخصوص حكمة الشر، فليس بين أيدينا أي دليل يبين حكمة الله من الشر، وما تسميه حكمة لا يكون كذلك مالم يرد بنص شرعي، وأكثر ما يوصف به: هي فوائد التمسها البشر من وجود الشر، ليس غير. فالحكمة من شيء ما لا نعرفها نحن_ البشر _؛ لأنَّ علمنا قاصر عن إدراك مراد الله، فإن قلنا: حكمة خلقنا هي عبادة الله، فليس ذلك استنتاج عقولنا، بل هو نزول لدى النص الشرعي:" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، (الذاريات: 56). ولا يشترط في الحكمة التحقق، فقد تتحق وقد لا تتحقق.

وعليه، فما طرحته من حكم للشر وتناولت أطراف الحديث عنه مع زملائك هو مجرد استنتاجات بشرية، تصيب وتخطئ، وهي مبنية على مغالطة وقعت فيها: (الشر_الخالق) كلمتان متضادتان، والحقُّ أنَّك لا تملك دليلا عقليا يقودك إلى الإلحاد بالله لمجرد وجود الشر، بل بنيت اعتقادك على أساس واه، وأقل ما يقال لك: يا سعد، ما هكذا تورد الإبل.

ونأتي لنقطة مهمة، ألا وهي: إنَّ الله بوصفه كامل القدرة قادر على نفي الشر بعد خلقه، ولكنَّه لم يرد ذلك، فهل أنت ساخط على قضاء الله؟ ما هو الشيء الذي ستؤمن به خالقا ثم تجد نفسك معترضا عليه؟ نعم، المشكلة أنَّك افترضت وهما تظنه حقًّا، فإذا به سهم أصابك في مقتل، وهو: تفترض وجود الشر دليلا على أزلية المادة، فما هذا الخطل؟ ألا تحترم عقلك؟ وأين الدليل على أنَّ وجود الشر ينفي وجود الخالق؟ إن كان لديك تساؤل ساذج مقتضاه: لماذا يسمح الله بالشر؟ فإنَّ الله يقول لك:" لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ"، (الأنبياء: 23).

أكرر لك لعلك تتدبر: وجود الشر يتنافى مع وجود الخالق هو افتراض، وقد قلت لك: (الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع، وليست هي ما نفترضه أو نتوهمه. فمن قال: إنَّ الحق هو وجود خالق، قلنا له: أيؤيد ذلك الواقعُ أم يرفضه، أي: ما هي أدلتك على قولك؟)، فما دليلك على أنَّ وجود الشر ينفي وجود خالق؟ (لتكن هذه نقطة مفصلية في النقاش؛ لأنَّها هي السبب الأكبر في إلحادك).