الطريق الثاني
ومداره على ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا :

ورواه عن ابن لهيعة كلا من :
1- الحسن بن موسى : أخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" (2/175) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن أكثر منافقي أمتي قراؤها" .

2- عبد الله بن وهب : أخرجه ابن بطة في "الابانة" (942) .

رواية العبادلة عن ابن لهيعة :
قال الشيخ المحدث أبو معاذ طارق بن عوض الله في كتابه القيم : "النقد البناء لحديث أسماء" (ص 43 - 50) : "كان ابن لهيعة-رحمه الله تعالى-من علماء الإسلام، ومن فقهاء أهل مصر، إلا أنه لم يكن من أهل التثبت في الرواية، فكان يُخطئ إذا حدَّث من حفظه، وكان يُجيز كلَّ ما يُقرأُ عليه، سواء كان من حديثه المطابقِ لما في كتبه، أو: ليس من حديثه ، فكثُرت في أحاديثه المناكيرُ مما أُدخِل عليه من حديث غيرِه ، فأجازه لمن ألقاه عليه .
وكانت له أصول وكتب، ثم إن كتبه احتَرقت، وقيل: لم تَحتَرق ، وإنما كان شأنُ ابن لهيعة في أول أمره وآخره سواءً واحداً، وأنه كان يُجيز كل ما يُقرأُ عليه من غير أن يَرجع إلى كتبِه وأصولِه .
ومن يقول باحتراقها، يقول: إنَّ من كان يأخذ من أصول ابن لهيعة فسماعه أصح ممن لم يأخذ من أصوله .
فالاختلاف كما ترى شكليٌّ صوريٌّ، لا ينبني عليه اختلاف في الحكم، لأن الجميع متفقون على أن المعتمَد من حديث ابن لهيعة إنما هو الذي حدث به عنه من كان يأخذ من أصوله وكتبه، وأنَّ من كان يأخذ من كتب غيره ثم يقرأُها على ابن لهيعة فيجيزه إياها لا يُعتمَد عليه، ولو كان ابن لهيعة لم تَحترق كتبه .
بيد أن بعض العلماء المتأخرين، ومنهم بعض المعاصرين فهموا من هذا: أن ما رواه العبادلةُ الثلاثةُ عن ابن لهيعة هو صحيح في نفسه، بمعنى أنه مما حفظه ابن لهيعة، ولم يُخطئ فيه، كما هو الحال في المختلِط، أن ما رواه عنه من سمع منه قبل اختلاطه قُبِل، وإلا فلا .
وليس الأمرُ كذلك، وإنما مرادُ هؤلاء العلماء بتفريقهم بين مَن أخَذَ من أصوله ومَن لم يأخذ من أصوله، أنَّ من كان يأخذ من أصوله: حديثُه صحيح، مرادهم: صحة نسبته إلى ابن لهيعةَ، وأنه مِن حديثِه فعلاً، وأنه ثابتٌ عنه، وليس هو من حديث غيره الذي أُدخِل عليه، وأجازه لمن قرأه عليه .
يقول ابن سعد في: (طبقاته) (7/2/204): "كان يُقْرَأُ عليه ما ليس من حديثه فيسكت عليه، فقيل له في ذلك، فقال: وما ذنبي؟ إنما يجيئون بكتاب يقرؤونه ويقومون، ولو سألوني لأخبرتُهم أنه ليس من حديثي ! " .
ويقول أحمد بن صالح المصري-كما في: (المعرفة والتاريخ) (2/184): "كان ابن لهيعة طلاَّباً للعلم، صحيحَ الكتاب، وكان أَمْلَى عليهم حديثَه، من كتابه قديماً، فكتب عنه قوم يعقلون الحديثَ وآخرون لا يَضبطون، وقوم حَضَروا فلم يكتبوا وكتبوا بعد سماعهم، فوقع علمُه على هذا إلى الناس، ثم لم يُخرجْ كتُبَه، وكان يَقرأ من كتب الناس، فوقع حديثُه إلى الناس على هذا، فمن كتب بأخرة من كتاب صحيح قرأ عليه على الصحة، ومن كتب من كتاب من لا يضبط ولا يُصححُ كتابَه وقع عنده على فسادِ الأصل ..." .
ولهذا كان المحققون من أهل العلم لا يعتدون بكل ما يُروى عن ابن لهيعة، ولا يَعتبِرون حديثَه بكل ما يُروى عنه، إلا إذا رواه عنه من كان يأخذ من كتبه وأصوله .
يقول ابن مهدي-رحمه الله تعالى-: "ما أعتدُّ بشيء سمعتُه من حديث ابن لهيعة، إلا سماعَ ابن المبارك، ونحوِه" .
ومن تدبر كلامَ العلماء فيه فهِمَ هذا، وعَلِمَ أن إطلاقَ بعضهم الصحةَ على حديث العبادلة عنه، إنما يقصدون به: صحةَ ما رواه العبادلةُ عنه، أي: صحةَ ثبوتِه عن ابن لهيعة، وأنه من حديثه فعلاً المطابقِ لما في كتبه، وأنه محفوظ عنه، لا أنه هو نفسه حفِظه وضَبَطه ولم يخطئ فيه...ويؤكد ذلك :
أن الذين سَبَروا حديثَه الذي رواه عنه العبادلةُ وحديثَه الذي رواه عنه غيرُهم لم يَتَرَدَّدوا في تضعيفه، مما يدلُّ على أن ابن لهيعةَ كان في نفسه ضعيفاً، أو: لم تكن أصولُه في ذاتها مضبوطةً .
قال ابن الجنيد في: (سؤالاته لابن معين) (9/164/رقم:538): "قلت ليحيى بن معين: فسَماع القدماء والآخرين من ابن لهيعة سواء؟ قال: نعم، سواء واحد" .
وحكى ابن طهمان عن يحيى بن معين أنه قال: "ابن لهيعة ليس بشيء تغير أو: لم يتغير". (من كلام أبي زكرياء يحيى بن معين في الرجال، رواية أبي خالد الدقاق يزيد بن الهيثم بن طهمان) (11/96/رقم:342) .
وقال ابن معين-كما في: (تاريخ الدوري) (5388)، و(من كلام أبي زكرياء يحيى بن معين في الرجال، رواية أبي خالد الدقاق يزيد بن الهيثم بن طهمان) (11/87/رقم:298): (لا يحتج بحديثه) .
وقال-كما في: (تاريخ الدارمي) (533)، و(من كلام أبي زكرياء يحيى بن معين في الرجال، رواية أبي خالد الدقاق يزيد بن الهيثم بن طهمان) (11/87/رقم:298): (ضعيف الحديث) .
فهذه الأقوال من ابن معين في ابن لهيعةَ؛ تدل على أنه سَبَرَ حديثَه كلَّه القديمَ والأخيرَ، وتبيَّن له من خلال السَّبر أنه ضعيف بصرف النظر عمن يروي عنه .
وسئل أبوزرعة الرازيُّ عن سماع القدماءِ منه ؟
فقال: (آخره وأوله سواء، إلا أن ابن المباركِ، وابنَ وهب كانا يتتبَّعانِ أصولَه فيَكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانو يأخذون من الشيخ، وكان ابن لهيعة لا يَضبط، وليس ممن يُحتجُّ بحديثه) .
فرغم أنه يرى فرقاً بين ما يرويه ابنُ المبارك، وابنُ وهب عنه وبين ما يرويه غيرُهما إلا أنه اعتبر ابنَ لهيعة ضعيفاً في نفسِه وأنَّ حديثَه الأول والآخر، سواء بصرف النظر عمن يروي عنه، وأنه لا يضبط، وأنه ليس ممكن يحتج بحديثه) .
وقال ابن أبي حاتم : (قلت لأبي: إذا كان مَن يَروِي عن ابن لهيعة مثلَ ابنِ المبارك وابنِ وهب، يُحتجُّ به؟ قال: لا) .
وقال عمر وبن علي الفلاس : (عبد الله بن لهيعة، احترقت كتبه، فمن كتب عنه قبل ذلك مثلُ ابن المبارك وعبد الله بن يزيد الْمُقرئ أصحُّ من الذين كتبوا بعد ما احتَرَقَتِ الكتبُ، وهو ضعيفُ الحديثِ) .
فرغم أنه يَرى التفرقةَ، قال: "وهو ضعيف الحديث"، أي: أنه في نفسه ضعيف بصرف النظر عن الرواة عنه .
وقوله: (أصح) الظاهر أنه يعني به الصحةَ النسبيةَ، أي: أقل ضعفاً، وهذا أمر بَدَهِي، لأنه إذا كان في نفسه ضعيفاً ثم احترقَتْ كُتبه، فمِن الْبَدَهِي أن يكون بعد احتراق كتبِه أشدَّ ضعفاً من ذي قبل .
ومثله، قول ابن سعد في: (الطبقات) (7/2/204): (كان ضعيفاً وعنده حديث كثير، ومن سمع منه في أول أمره أحسنُ حالاً في روايته ممن سمع منه بأخرة، وأما أهل مصر فيذكرون أنه لم يَختلط ولم يزل أولُ أمرِه وآخرُه واحداً، ولكن كان يُقْرَأُ عليه ما ليس من حديثه فيسكت عليه، فقيل له في ذلك، فقال: وما ذنبي؟ إنما يجئون بكتابٍ يقرؤونه ويقومون، ولو سألوني لأخبرتُهم أنه ليس من حديثي! ) .
وقد بيَّن ذلك بياناً شافياً، فقال في: (المجروحين) (2/12/13): (قد سَبَرت أخبارَ ابن لهيعةَ من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه، فرأيتُ التخليطَ في رواية المتأخرين عنه موجوداً، وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيراً، فرجعتُ إلى الاعتبار، فرأيته كان يدلس عن أقوام ضَعْفَى، عن أقوام رآهم ابن لهيعة ثقاتٍ، فَالْتَزَقَتْ تلك الموضوعاتُ به) .
وقال أيضاً: (وأما روايةُ المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه ففيها مناكيرُ كثيرة، وذلك أنه كان لا يبالي ما دُفِع إليه قَرَأَه، سواءٌ كان ذلك من حديثه أو: غير حديثه، فوجب التنكُّبُ عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه، لما فيها من الأخبار المدلَّسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب تركُ الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه، لما فيه مما ليس من حديثه) .
وقد قال الدارقطني في: (الضعفاء والمتروكون) (322): (يُعتبَر بما يَروي عنه العبادلة: ابنُ المبارك، والمقرئُ، وابنُ وهب) .
فهذا هو القول الواضحُ البيِّنُ، أن روايةَ العبادلةِ الثلاثةِ عنه، هي التي يُعتَبَرُ بها حديثُ ابنِ لهيعةَ، ومفهومه: أن روايةَ غيرِ العبادلة عنه لا يُعتبَر بها .
ومثله، قول أبي زرعة-كما في: (الجرح والتعديل) (2/2/147)-: (يُكتبُ حديثُه على الاعتبار) .
أي: حديثه الذي يرويه العبادلةُ، لأنهم كانوا يأخذون عن أصوله، بخلاف غيرهم، كما قال أبو زرعة وغيره ... لكن على كل حال، وجود المناكير في أحاديث العبادلة عنه، دليل واضح على أنه هو نفسه ضعيفُ الحفظ، بصرف النظر عن الرواة عنه، لأن الراويَّ إنما يُعرف حالُه من حديثه، فكلما كثرت المناكير في حديثه كلما دلَّ ذلك على سوء حفظه " انتهى كلامه حفظه الله .


الخلاصة :
1- عبد الله بن لهيعة : ضعيف مطلقا سواء قبل الاختلاط وبعده .
2- حديثه قبل الاختلاط (الذي يرويه العبادلة ونحوهم) من أصوله وكتبه ، وهو ضعيف لكنه يصلح للاعتبار ، فيرتقي بغيره .
3- حديثه بعد الاختلاط ، ليس من أصوله وكتبه ، وكان يتلقن ، فما تفرد به منكر مطلقا ، ولا يعتبر به .