ثم يريد بعد ذلك النصراني أن يقول أن القبائل العربية هي الأخرى شككت في نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم ، فيقول :

لكن ترى ماذا قال عنه العرب؟
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجالاً من كندة يزعمون أنهم منه وأنه منهم، فقال إنما كان يقول ذلك العباس وأبو سفيان ابن حرب إذا قدما المدينة فيأمنا بذلك، وإنا لن ننتفي من آبائنا، نحن بنو النضر بن كنانة.
وانتهى كلام النصراني إلى هنا هكذا بدون أن يذكر مصدر الرواية ولا عن من رويت .
وهذه الرواية أتى بها هذا النصراني المدلس من كتاب البداية والنهاية للإمام العلامة عماد الدين بن كثير ، وسنعرف لماذا لجأ إلى التحايل والإقتطاع عندما نرى كلام الإمام بن كثير رحمه الله كاملاً .

يقول الإمام العلامة عماد الدين بن كثير :
وقد ورد حديث في انتسابه عليه السلام إلى عدنان وهو على المنبر ، ولكن الله أعلم بصحته ، كما قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقري ببغداد ، حدثنا أبو عيسى بكار بن أحمد بن بكار ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أبان القلانسي ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي ، حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن أنس ، وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام . قالا : بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجالاً من كندة يزعمون أنهم منه ، وأنه منهم ، فقال : إنما كان يقول ذلك العباس أبو سفيان بن حرب إذا قدما المدينة ليأمنا بذلك ، وإنا لن ننتفي من آبائنا ، نحن بنو النضر بن كناكة .

قال : وخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنا محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار ، وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما ، فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهيلة ، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ، من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي ، فأنا خيركم نفسا، وخيركم أبا .
وهذا حديث غريب جداً من حديث مالك تفرد بن القدامي وهو ضعيف .[1]

قلت : وهو عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي المصيصي .
قال الإمام الذهبي : أحد الضعفاء . أتى عن مالك بمصائب .
ضعفه بن عدي وغيره .
قال بن عبد البر : خرساني ، روى عن مالك اشياء انفرد بها ، لم يتابع عليها ، على أن القدماء ما رأيتهم ذكروه .[2]

فلهذا السبب أتى النصراني بهذه الرواية بتلك الطريقة المشوهة .

ولنرى الأصل والصحيح في هذه القصة لنرى هل كان فيها تشكيك من قبل أي مخلوق على وجه الأرض في نسبه صلى الله عليه وسلم :

حدثنا عبد الله حدثني أبى ثنا بهز وعفان قالا ثنا حماد بن سلمة حدثني عقيل بن طلحة قال عفان في حديثه انا عقيل بن طلحة السلمي عن مسلم بن هيضم عن الأشعث بن قيس انه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في وفد من كندة قال عفان لا يرونى أفضلهم قال قلت يا رسول الله انا نزعم انكم منا قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفى من أبينا قال قال الأشعث فوالله لا اسمع أحدا نفى قريشا من النضر بن كنانة الا جلدته الحد .[3]

والسبب في قول الأشعث – أحد رجال كندة – للنبي صلى الله عليه وسلم : " يا رسول الله انا نزعم انكم منا " – ويعني قريش – أن أن ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب كانا تاجرين ، وكانوا عندما يسيرون في أرض العرب إبتغاء لتجارتهم كانوا يقولون نحن بنو آكل المرار .
وآكل المرار هو بن عمرو ابن حجر بن عمرو بن معاوية بن كندة .
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم جدة من كندة ، وهي السيدة أم كِلاب بن مرة ، وهي التي تحدث عنها الأشعث عندما قابل النبي صلى الله عليه وسلم .

فكان العباس وربيعة يقولون نحن بنو آكل المرار لأن بنى آكل الـمرار من كندة كانوا ملوكاً‏ ، فكانا يقويان بهذا ليأمنوا على أنفسهم وتجارتهم ولذلك ظنت كندة أن قريشاً منهم لقول العباس وربيعة المذكور .
فصحح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم بأن النسب يكون بالآباء لا بالأمهات .

قال الإمام العلامة شمس الدين بن القيم :
قال الزهرى وابن إسحاق‏:‏ كانا تاجرين وكانا إذا سارا في أرض العرب، فسئلا من أنتما‏؟‏ قالا‏:‏ نحن بنو آكل الـمُرار، يتعززون بذلك في العرب، ويدفعون به عن أنفسهم، لأن بنِى آكل الـمُرار من كندة كانوا ملوكاً‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا، ولا ننتفى من أبينا‏.‏
وفى ‏‏المسند‏‏ من حديث حماد بن سلمة، عن عقيل بن طلحة، عن مسلم ابن هيضم، عن الأشعث بن قيس ، قال ‏:‏ قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد كندة ، ولا يرون إلا أنى أفضلهم، قلت :‏ يا رسول الله ؛ ألستم منا‏ ؟‏ قال‏:‏ ‏لا، نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفو أمنا ولا ننتفى من أبينا‏، وكـان الأشعث يقول‏:‏ لا أوتى برجل نفى رجلاً من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد‏ .‏
وفى هذا من الفقه، أن من كان من ولد النضر بن كنانة ، فهو من قريش‏ .
وفيه‏ :‏ أن من انتسب إلى غير أبيه ، فقد انتفى من أبيه ، وقفى أمه ، أى‏:‏ رماها بالفجور‏.‏
وفيها : أن كندة ليس من بنو النضر بن كنانة .[4]


فكان التصحيح منه صلى الله عليه وسلم حينما قال : " ‏نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا، ولا ننتفى من أبينا‏ " أي لا نترك النسب إلى الآباء وننتسب للأمهات فهذا كما قال الإمام بن القيم أنتفاء من الأب ورمي للأم بالفجور .

إلى هنا إنتهى كلام النصراني وما أتى به من شبهات حول نسب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وبعد أن دحضنا كل كلامه تبقي أن نعرفه طيب ، وأصل ، وعراقة ، ومناقب نسبه صلى الله عليه وسلم .
______________________________________________

[1] البداية ج 3 ص 361 .

[2] ميزان الإعتدال ج 4 ص 181 .

[3] السلسلة الصحيحة ج 5 ص 448 ح 2375 ، وصحيح بن ماجه 2115 .

[4] زاد المعاد ج 3 ص 676 .