الحمد لله تقدَّس إجلالا وتعظيما, والصلاة والسلام على مَنْ أُرسل للعالمين بشيرا ونذيرا. تحية طيبة, وبعد:
يقول الله :﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا , (مريم: 24).اختلف أهل التأويل في مَنْ نادى مريم_ عليها السلام _من تحتها, فذهب ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي إلى أنَّ مَنْ ناداها هو جبريل_ عليه السلام _, وذهب مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ووهب بن منبه إلى أنَّ مَنْ ناداها هو عيسى_ عليه السلام _. فأيُّ الفريقين قد اهتدى للصواب؟
بعد النَّظر في هذه الآية وتأمُّلها ثبت لديَّ أنَّ الذي نادى مريم هو ابنها عيسى_ عليهما السلام _, وهذا لما يلي:
1.﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا في هذه القراءة متواترة, وهي قراءة الأخوين ونافع وحفص, وإزاء هذا نقول:
أ‌- الضمير المستتر (هو) في هذه قد يكون عائداً على جبريل_ عليه السلام _وهذا ينسجم مع الحديث الذي دار بينهما مسبقا, ويومئ إلى ذلك قراءةُ ابنِ عباس: ﴿فناداها مَلَكٌ مِنْ تحتها, و (تحت) على هذا يراد بها الجهة المحاذية للشىء, فيكون جبريل_ عليه السلام _كلمها من الجهة المحاذية لها, لا من أسفل منها.
ب‌- وقد يكون عائداً على عيسى_ عليه السلام _وهذا ينسجم مع قول الله y: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ؛ فأنَّى لها أَنْ تشير إليه؛ ليجيبهم لو أنَّه لم يكلمها من قبل؟ أكانت تهتدي لذلك لولا ما كان بينهما من حديث عند ولادته؟ و (تحت) على هذا يراد بها أسفل منها, أي: من تحت ثيابها.
2.﴿فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَافي هذه القراءة متواترة, وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير وابن عامر وأبي بكر, وإزاء هذا نقول:
أ‌- الفاعل في هذه الآية هو الاسم الموصول (مَنْ), ولم يعد الضمير المستتر (هو), و (تحت) ظرف مكاني متضمن لمن نادى, ولا يليق بجبريل_ عليه السلام _أن يكون في موضع اللوث، ناهيك أنَّ الصلة يجب أن تكون معلومة للسامع, وما يتبادر للذهن يقضي بأن الولد هو تحت من ولدته.
ب‌- إذن, هذه القراءة تحصر الأمر في عيسى_ عليه السلام _, ولما كانت هذه القراءة محكمة, والتي قبلها متشابهة, نأخذ بها ونترك المتشابه؛ لأن المحكم قاضٍ على المتشابه.
3.﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا في هذه القراءة لفظ (تحت) هو بطن في اللغة النبطية, وعلى هذا يكون المعنى: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ بَطْنِهَا, وهذا ما ذكره أبو القاسم في كتاب (لغات القرآن), ووافقه في ذلك الكرماني في كتاب (العجائب). وعلى هذه اللغة يكون المنادي هو عيسى_ عليه السلام _؛لتتفق هذه اللغة مع الآية المحكمة في دلالتها.
فهذه الأمورُ جعلتني أختار ما سَطَّرْتُ لكم, والله الموفِّقُ للصواب, يهدي إلى الرشد وإلى الطريق القويم....

(tQkQh]QhiQh lAkX jQpXjAiQh): Hi, [fvdg Hl udsn?