تحيةً طيبةً, وبعدُ:
1. فأمَّا الوجه الأول: كيفَ يستطيعُ المنافقونَ خداعَ اللهِ Y؟ ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾.

الجواب:
الخدع لغةً هو الإخفاء والإيهام والختل. جاء في مختار الصحاح: (خ د ع : خَدَعَهُ ختله وأراد به المكروه من حيث لا يعلم). وجاء في تاج العروس: (الخدع : إظهار خلاف ما تخفيه). إذن, الله I لا يخدع؛ لأنَّه قد أحاط علمه بكلِّ شيء خبرًا. يقول الله Y: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾, (ق: 16). ويقول: ﴿إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾, (الأحزاب: 54). ويقول: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾, (طه: 7). فالله Y يعلم ما توسوس به نفسك, وما أسرَّت, بل وأخفى من ذلك. فسبحان الله!! فليس من الإمكان إسرار ما كان على الله. فمن ذا الذي يستطيع أن يختل ربَّه Y ويوقع به؟! لا يكون هذا. وقد أثبت الله هذه الحقيقة بقوله: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾. فالله Y ينفي عن نفسه أن يخدع من المنافقين. فإن قال قائل: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾, فإنَّا قائلون: إنَّ الله Y أخبر أنَّ المنافقين يحاولون خداعه, ولم يخبر أنهم قد أفلحوا في ذلك, فهو لم يقل: ﴿يَخْدَعُونَ اللَّهَ﴾, بل قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾, فالألف التي دخلت على الفعل تفيد المشاركة, فالمخادعة من المفاعلة, أي تفيد حدوث المخادعة, ولا تفيد تحققها؛ فمثلاً, عندما نقول: قاتل علي صهيبًا, فلا نعني أنَّ عليًّا قتل صهيبًا, بل نعني أنَّ عليًّا همَّ بقتل صهيب, وصهيب حاول مثل ذلك. وهكذ, هلمَّ جرًا.
وهنا خطر على قلبي هذا السؤال: الله Y ينفي أن يخدع, ويخبرنا أنَّه من يحاول خداع الله يكون قد خدع نفسه, فكيف هذا؟!
الجواب:
لمَّا كان الخداع أن توهم غيرك خلاف ما عقدت عليه قلبك, وأن توهمه بخلاف الواقع, أقول: لمَّ كان هذا هو الخداع, فإنَّ من يوهم نفسه أنَّها تستطيع أن تكتم على الله Y أمرًا فقد خدعها؛ لأنَّه أقنعها بأمر خلاف الواقع, فقد أوهمها بمحال, وهو خداع الله, فكان بإيهامه نفسه هذا مخادعًّا لها, وخاتلا. والله الموفق.
2. وأمَّا الوجه الثاني: كيف يخدع الله المنافقين؟
الجواب:
يقول الله Y: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾, (الأعراف: 182). ويقول Y: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾, (القلم: 44). فخداع الله Y لمن يستحق الخداع هو باستدراجه من حيث لا يعلم, وهذا الاستدراج يتمثل بأمرين:
· فإمَّا أن يمهله إلى جل مسمى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾, (النحل: 61). فالله يمهل ولا همل؛ إذ يقول: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾, (إبراهيم: 42). ويقول النبي eإِنَّ اللّه لَيُمْلي لِلظَّالمِ، حتَّى إذا أَخذه لم يُفْلِتْهُ»، ثم قرأَ: ﴿وكَذلكَ أَخْذُ ربِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِي ظالمِةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَليمٌ شَديدٌ﴾, ( هود: 102). أخرجه البخاري، ومسلم. والظالم يكون قد ختم على سمعه وقلبه, وقد جعلت الغشاوة على بصره, فلا يرعوي من التذكير ببطش الله Y, وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن معاذ بن جبل ذِكْرَ رجلٍ قد خدعه الله, ألا وهو: (كان في بني إسرائيل رجل عقيم لا يولد له, وكان يخرج فإذا رأى غلاما من غلمان بني إسرائيل عليه حِلِيٌّ يخدعه حتى يدخله فيقتله ويلقيه في مطمورة له, فبينا هو كذلك إذا لقي غلامين أخوين عليهما حلي لهما فأدخلهما فقتلهما وطرحهما في مطمورة له, وكانت له امرأة مسلمة تنهاه عن ذلك فتقول له: إني أحذرك النقمة من الله عز و جل. وكان يقول: لو أن الله أخذني على شيء أخذني يوم فعلت كذا وكذا. فتقول: إني صاعك لم تمتلئ بعد, ولو قد امتلأ صاعك أخذت. فلما قتل الغلامين الأخوين خرج أبوهما فطلبهما فلم يجد أحدا يخبره عنهما, فأتى نبيا من أنبياء بني إسرائيل فذكر ذلك له, فقال له النبي: هل كانت لهما لعبة يلعبان بها؟ فقال: نعم, كان لهما جرو. فأتي بالجرو فوضع النبي: خاتمه بين عينيه ثم خلا سبيله فقال: أول دار يدخلها من بني إسرائيل فيها ميتان فأقبل الجرو يتخلل الدور حتى دخل دارا فدخلوا خلفه فوجدوا الغلامين مقتولين مع غلام قد قتله وطرحهم في مطمورة, فانطلقوا به إلى النبي, فأمر به أن يصلب, فلما رفع على خشبته أتت امرأته فقالت: يا فلان قد كنت أحذرك هذا اليوم وأخبرك أن الله غير تاركك وأنت تقول: لو أن الله أخذني على شيء أخذني يوم فعلت كذا وكذا, فأخبرك أن صاعك بعد لم تمتلئ ألا وإن هذا قد امتلأ صاعك). فهذا الرجل قد خدعه الله إذ أمهله, وتأملوا قوله: (لو أن الله أخذني على شيء أخذني يوم فعلت كذا وكذا), ولم يدرِ أنَّ الله كان يستدرجه من حيث لا يعلم.
· وإمَّا أن يزيد عليه من نعمه وإحسانه وآلائه: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾, (الزخرف: 35). ولمَّا كان الإنعام على الكافرين كافَّةً فتنةً للمؤمنين, خصَّ الله Y الغنى والترف في أكابر القوم. وهؤلاء القوم الذين جحدوا بآيات, إذا زادهم الله من نعمه وخيره يغترون, ويقع في نفسهم أنهم على حقٍّ؛ ذلك أنَّ الله_ في تقديرهم _لا ينعم على من خالف أمره, فهم في غيهم سادرون, وفي ضلالهم ماضون, وعن استدراج الله لهم لاهون لاعبون. ولنا في ذي الجنتين عبرة؛ إذ دفعه جهله إلى القول: ﴿مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾, (الكهف: 36). فقال له المؤمن معرِّضَا به أنَّه مغترٌّ بنعم الله عليه, إذ قال له: ﴿إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا﴾, (الكهف: 39). وقريب منه قول الله Y: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾, (فصلت: 51). ولا ننسى في هذا المقام قول فرعون, وقد اغترَّ بماله: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾, (الزخرف: 52). وإذا كان المال والنعمة فتنة للمؤمنين, فهو في هذه أكبر أثرًا في خداع الكافرين. وأختم بقول الله Y: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾, (سبأ: 37).
هكذا يخدع الله من حقت عليه الخديعة.
3. وأمَّا الوجه الأخير: الله Y ينفي أن يخدع المنافقون المؤمنين؛ إذ يقول: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾. والواقع المحسوس أنَّ المنافقين وغيرهم قد خدعوا المؤمنين في أحوال عديدة, فما هذا التناقض بين خبر الله Y وبين الواقع المحسوس؟
الجواب:
أمَّا من حيث التناقض السطحي فمتحقق؛ ذلك أنَّ الله Y ينفي عن المؤمنين حصول الخديعة عليهم, والواقع يتصادم مع هذا الخبر الإلهي. وحتى نفهم معنى الآية, لا بدَّ من معرفة دلالات الألفاظ في اللغة العربية.
الكلام من حيث هو يقسم إلى منطوق ومفهوم. المنطوق به دلالتان, وهما: دلالة المطابقة, ودلالة التضمين. والمفهوم به ثلاث دلالات, وهنَّ: دلالة الاقتضاء, ودلالة التنبيه والإيماء, ودلالة الإشارة. وهنا نحتاج إلى دلالة الاقتضاء, وتعريفها: هي التي يكون اللازم فيها مستفاداً من معاني الألفاظ، وذلك بأن يكون شرطاً للمعنى المدلول عليه بالمطابَقة. واللازم قد يكون العقل يقتضيه، وقد يكون الشرع يقتضيه، إما لضرورة صدق المتكلم، وإما لصحة وقوع الملفوظ به.
وعليه, فالخبر الذي دلَّ عليه منطوق الكلام يفهم_ حسب دلالة الاقتضاء _على أنَّه صيغة طلب, أي أمر بصيغة الخبر. أي, إنَّ الله يأمر المؤمنين أن لا يسمحوا للمنافقين في خداعهم, فعليهم أن يكونوا على درجة من الفطنة والوعي والحنكة تمكنهم من كشف أساليب المنافقين, ودحض حججهم وأباطيلهم الزائفة, فتؤوب مخادعة المنافقين على أنفسهم, ويقعوا في شرِّ فعالهم, وتدور الدائرة عليهم, وكيدهم في نحرهم. والله الموفق.

بحمد الله, تمَّت الإجابة.
ذا الفقار, لا بدَّ من الولوج في اقتراحك.