سادساً:

فقد تواترت الأدلة وتكاثرت وتعاظمت على الآيات التي أجراها الله على يد نبيه صلى الله عليه وسلم عدها العلماء بالمئات بل تزيد على الألف كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في (الجواب الصحيح) : (( كان يأتيهم بالآيات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم, ومعجزاته تزيد على ألف معجزة )) .. وكما نص تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله في (إغاثة اللهفان) بعد أن ذكر معجزات موسى وعيسى عليهما السلام : (( وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين، مع بُعد العهد وتشتت شمل أمّتيْهما في الأرض، وانقطاع معجزاتهما، فما الظن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم, ومعجزاتُه وآياتُه تزيد على الألف والعهد بها قريب، وناقلوها أصدقُ الخلق وأبرُّهم، ونقلُها ثابت بالتواتر قرناً بعد قرن ؟ )) .
وأعظم هذه الآيات آية انشقاق القمر التي نص عليها الكتاب والسنة فجاء في أول سورة القمر : ﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين : فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشهدوا) " .
يقول الإمام الخطابي رحمه الله فيما نقله عنه الحافظ في (الفتح) : (( انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجاً من جبلة طباع ما في هذا العالم، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر )) .
وقال ابن كثير رحمه الله في (البداية والنهاية) بعد سوقه عدة طرق للقصة : (( فهذه طرق عن هؤلاء الجماعة من الصحابة، وشهرة هذا الأمر تغني عن إسناده، مع وروده في الكتاب العزيز .. والقمر في حال انشقاقه لم يزايل السماء، بل انفرق باثنتين، وسارت إحداهما حتى صارت وراء جبل حراء، والأخرى من الناحية الأخرى، وصار الجبل بينهما، وكلتا الفرقتين في السماء، وأهل مكة ينظرون إلى ذلك، وظن كثير من جهلتهم أن هذا شيء سُحرت به أبصارهم، فسألوا من قدم عليهم من المسافرين، فأخبروهم بنظير ما شاهدوه، فعلموا صحة ذلك وتيقنوه )) .
وغير ذلك كثير جداً ، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : " أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني عامر فقال : يا رسول الله أرني الخاتم الذي بين كتفيك فإني من أطيب الناس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أريك آية قال : بلى قال : فنظر إلى نخلة فقال : ادع ذلك العذق قال : فدعاه فجاء ينقز حتى قام بين يديه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارجع فرجع إلى مكانه فقال العامري : يا آل بني عامر ما رأيت كاليوم رجلا أسحر " وعند ابن حبان بسند صحيح أن العامري قال: " والله لا أكذبك بشيء تقوله أبداً"، ثم قال: " يا آل عامر ابن صعصعة ، والله لا أكذبه بشيء يقوله "
ونحو هذه الآية يرويها الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال : " سِرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا وادياً أفْيَح [أي واسعاً] فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ير شيئاً يستتر به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي.
فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: ((انقادي عليَّ بإذن الله)) فانقادت معه كالبعير المخشوش [المربوط بالحبل] الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: ((انقادي علي بإذن الله)) فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما؛ لأم بينهما - يعني جمعهما - فقال: ((التئما عليّ بإذن الله)) فالتأمتا " ثم يقول جابر رضي الله عنه : " فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق "
يقول الإمام أحمد رحمه الله فيما نقله عنه الأصبهاني في (دلائل النبوة) : ((في الحديث آيات من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم منها: انقلاع الشجرتين واجتماعهما، ثم افتراقهما)) .
وعند ابن ماجه رحمه الله من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حزين قد خضب وجهه بالدماء، قد ضربه بعض أهل مكة، فقال: مالك؟ فقال: ((فعل بي هؤلاء، وفعلوا)) فقال جبريل: أتحب أن أريك آية؟ قال: ((نعم أرني)).
فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، قال: ادع تلك الشجرة، فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: قل لها: فلترجع، فقال لها، فرجعت، حتى عادت إلى مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حَسْبي)) " والحديث صحيح صححه الألباني رحمه الله في (صحيح ابن ماجه) .
ومن آياته أيضا تسبيح الطعام والحصى بين يديه صلوات ربي وسلامه عليه ، فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال : " لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل " .
وفي الحديث الذي رواه الطبراني في (الأوسط) والبزار ، وصححه الألباني في تخريج كتاب (السنة) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : " إني شاهد عند النبي صلى الله عليه وسلم في حَلْقَة، وفي يده حصى، فسبّحنَ في يده. وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فسمع تسبيحَهن مَنْ في الحَلْقَة، ثم دفعهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر ، فسبحن مع أبي بكر ، سمع تسبيحهن من في الحلقة ، ثم دفعهن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسبَّحنَ في يده ، ثم دفعهنّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر، فسبحن في يده، وسمع تسبيحهنّ مَنْ في الحلقة، ثم دفعهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان، فسبّحن في يده، ثم دفعهنَّ إلينا، فلم يسبّحن مع أحدٍ منا " ..
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في (البداية والنهاية) عما بين هذه الآية وآية نبي الله داوود من تسبيح الجبال معه : (( ولا شك أن صدور التسبيح من الحصى الصغار الصمّ التي لا تجاويف فيها؛ أعجب من صدور ذلك من الجبال؛ لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنها وما شاكلَها تردِّدُ صدى الأصوات العالية غالباً .. ولكن من غير تسبيح؛ فإن ذلك [أي تِردادَها بالتسبيح] من معجزات داود عليه السلام، ومع هذا كان تسبيح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أعجب )) .
ومن آياته أيضاً نطق الجمادات بين يديه وتسليمها عليه ، ففي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن " .
يقول الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم : (( فيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم )) .
ولقد شهد ذلك المسلمون فقد روى الترمذي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله " ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وأبو يعلى ، وصحح متنه الألباني رحمه الله لطريق أخرى في (صحيح الترغيب) .
بل أنطق الله هذه الجمادات بالشهادة بوحدانيته والنبوة والرسالة لنبيه صلى الله عليه وسلم فيما رواه الدارمي وابن حبان وصححه من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل أعرابي، فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين تريد؟)) قال: إلى أهلي، قال: ((هل لك في خير؟)) قال: وما هو؟ قال: ((تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله)).
قال الأعرابي: ومن يشهد على ما تقول؟ فأشار النبي إلى شجرة، وقال: ((هذه السلَمَة))، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بشاطئ الوادي، فأقبلَتْ تَخُدُّ الأرض خداً حتى قامت بين يديه, فاستشهدها ثلاثاً، فشهدت ثلاثاً أنه كما قال.
ثم رجعت إلى مَنبَتها، ورجع الأعرابي إلى قومه، وهو يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن اتبعوني أتيتُكَ بهم، وإلا رجعتُ فكنتُ معك " وصححه الألباني في المشكاة .
وإن ننس لا ننس حنين الجذع له بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، في القصة المشهورة التي يرويها البخاري رحمه الله من حديث جابر رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبراً؟ قال: ((إن شئتم)). فجعلوا له منبراً.
فلما كان يوم الجمعة خرج إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم، فضمها إليه، تئن أنين الصبي الذي يُسكَّن، قال جابر: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها "
قال ابن حجر في (الفتح) : (( إن حنين الجذع وانشقاق القمر نُقل كلٌ منهما نقلاً مستفيضاً، يفيد القطع عند من يطَّلع على طرق ذلك من أئمة الحديث ))
قال البيهقي : (( قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف , ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف )) لأنها مشهورة ذائعة فيُكتفى فيها بالإشارة إليها دونما رواية لها وتقصٍّ لأخبارها .
قال الشافعي : (( ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً , فقال له عمرو بن سواد : أعطى عيسى إحياء الموتى! قال: أعطى محمداً حنينَ الجِذعِ حتى سمع صوته , فهذا أكبر من ذلك ))
يقول ابن كثير : (( وإنما قال: فهذا أكبر منه؛ لأن الجذع ليس محلاً للحياة، ومع هذا حصل له شعور ووجد لما تحوّل عنه إلى المنبر، فأَنَّ وحنَّ حنين العِشار [أي الناقة الحامل]، حتى نزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتضنه )) .
فهذه جملة يسيرة مما احتضنته الكتب العامرة بالأخبار والآثار في آياته صلى الله عليه وسلم .. ولن يسعنا العمر كله إن أردنا إثباتها كلها ، ولكن ذلك بما تقوم به الحجة الدامغة البالغة على كل من تسول له نفسه التشكيك .. وللمستزيد أن يراجع الكتب التي صنفت في ذلك ، ومن أحسنها ما صنف محدث الديار اليمنية الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله وأسماه : (الصحيح المسند من دلائل النبوة) ، ففيه الخير إن شاء الله .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ،،
تم بحمد الله