ومما يعيب به المؤلف اللغةََ الفصحى أيضا الجملةُ الفعلية. وهو متأثر في هذا باللغات الأوربية التي لا تعرف إلا الجملة الاسمية، مما يذكرني بأيام الفقر والعزوبة حين كان طعامنا في غالب الأحيان شطائر الفول والفلافل وما إليها. فهل هناك عاقل يعرف ما يُصْلِح صحته ويريد أن يستمتع بأذواق الطعام المختلفة التي أنعم الله بها على عباده يستمر على هذه الخطة القَشِفة حتى بعد أن تتيسر أحواله وتتسع قدراته المادية؟ إن وجود لونين من الجُمَل في "لغتنا الجميلة"، على حد وصف فاروق شوشة لها، هو نعمة من النعم العظيمة، إذ يتيح لنا أن ننوِّع أساليبنا على ما نحب بدلا من أن نسير دائما على وتيرة واحدة كما سبق القول عندما أشرت إلى المرونة التي تتمتع بها الجملة العربية الفصيحة، فهل نرفس هذه النعمة لأن الأوربيين محرومون منها في لغاتهم، ونفعل كما فعل بنو إسرائيل حين أرادوا أن يكون لهم إله آخر مع الله كما للوثنيين الذين مَرُّوا بهم في سيناء آلهة، أو كالبنت صاحبة الشعر الحريرى الطويل الجميل التي لم تهدأ إلا بعد أن قصّته تقليدا أعمى لما فعلته صديقتها بشعرها الليفىّ الأكرت؟ إنني أربأ بأنفسنا أن نكون كرؤساء القبائل الهمجية في غابات أفريقيا أيام الهجمة الأوربية المسعورة على تلك القارة حينما كان طلائع الاستعمار من شياطين الإنس يضحكون على أولئك الزعماء فيُغْرونهم بقِطَع الزجاج الملونة التي لا قيمة لها على الإطلاق في مقابل الألماس والذهب وغيرهما من المعادن والأحجار الكريمة. لكننا، والحمد لله، لسنا من التخلف والانخداع بهذه البهرجات الزائفة الرخيصة والفرح بها وإيثارها على الألماس والياقوت واللؤلؤ إلى هذا الحد! والأستاذ الشوباشي ينتمي إلى بيت علم وأدب، وكان أبوه من كبار الأدباء والنقاد والمترجمين، فكيف يقع في هذا الشَّرَك؟ إننا جميعا نريد للغتنا انتعاشا وازدهارا كما كان حالها أيام مجدها العظيم، لكن السبيل الذي ينتهجه كاتبنا ليس هو السبيل المؤدى إلى هذه الغاية. وثَمَّةَ نقطة لا بد من توضيحها في هذا السياق، وهى أن الفصحى، رغم كل شيء، قد نهضت نهوضًا عظيمًا ورائعًا من عثارها الطويل الذي كانت مرتكسة فيه أيام الحكم العثماني حيث كانت الأمية والجهل ضاربين بأطنابهما في أقطار العرب، والدليل على ما أقول أن الأمية قد انحسرت إلى حد ملموس وانتشر التعليم، وأصبح عندنا الآن ذخيرة من الأساليب قد يصعب أن نعثر على مثلها حتى في أيام الازدهار الثقافي للأمة العربية أيام العباسيين. وقد سبق أن أعطيت بعض الأمثلة على أصحاب الأساليب الفخمة في عصرنا بما يغنى عن إعادة القول فيها هنا. لكننا، مع ذلك، نريد لهذه اللغة الكريمة أن تنتعش وتزدهر أكثر وأكثر، وأن يشعر الناس جميعا بحلاوتها وروعتها وفتنتها ويتذوقوا النعمة التي أنعم بها المولى عليهم في شخصها، وبخاصة أن التفوق العام فيها مرتبط بالتفوق العلمي والأدبي والثقافي مما نحتاجه للخروج من تخلفنا الحالي الذي أوردنا مورد العجز والذل وأطمع فينا من يساوى ومن لا يساوى من دول العالم، فلم يعد أحد يحترمنا أو يقيم لنا وزنا حتى إن الفيلبين وهندوراس ولا أدرى من أيضا من الدول التي لا يعرف أحد مكانها على الخريطة تشترك في احتلال العراق مساندة للأمريكان، وحتى إن أحدا في الأمم المتحدة لا يبالي بما يحدث لإخواننا الفلسطينيين الأبطال على يد عصابات بنى صهيون المدعومين ماليا وعسكريا وسياسيا من أمريكا والغرب كله من مجازر لا تتوقف يوما ولو ساعةً من نهار، على حين أنه لو تألم شخص واحد من الأقليات في بلد إسلامي أو عربي لوجعٍ في ظفر خنصره الشمال من قدمه الحافية الجرباء لقام مجلس الأمن في الأمم المتحدة بهيله وهيلمانه يدعو إلى استقلال صاحب الظفر بدولة قائمة برأسها ومعاقبة العرب والمسلمين جميعا بسبب ما حدث لظفره! وبالمناسبة فالإنجليزية والفرنسية مثلا تقدِّمان الفعل، في بعض الأحيان، على الاسم بما يشبه الجملة الفعلية عندنا، وتسميان هذا اللون من التركيب: "inversion"، وإن كانت الإنجليزية تتوسع فيه أكثر من الفرنسية.

ويعيب الأستاذ المؤلف كذلك لسان العرب بما يسميه "النقص الغريب في حروف العلة"(ص 168). يقصد أننا لا نعرف إلا الفتحة والكسرة والضمة الصافية ومدّاتها، بخلاف الفرنسية مثلا، التي تعرف حروف علة أخرى بالإضافة إلى ما تعرفه العربية من مثل e, u, y, ai, eu, eau, ou"، إلى جانب الــ"accent"، الذي يوضع على بعض هذه الحروف بأشكاله الثلاثة المعروفة. وهو عيب موهوم، إذ من ذا الذي يشعر أن ذلك يقيده في التعبير عما يشاء؟ ثم إن هذه الحركات كثيرا ما تختلط وتتداخل من كلمة لأخرى، وأحيانا ما يكون وجودها صوريا. ونفس الملاحظة تصدق على الإنجليزية، التي ينبغي عليك أن تحفظ نطق كل كلمة من كلماتها تقريبا بالسماع رغم ذلك، إذ الكتابة في كثير جدا من الحالات شيء، والنطق شيء آخر. وبالمثل فتانك اللغتان ينقصهما من حروف لغتنا "الثاء والحاء والخاء والعين والغين والقاف والهاء"، ومع ذلك فإننا لا نشغل أنفسنا كثيرا بمثل هذا الأمر ما دام أصحابهما لا يشعرون بأنه يشكل عبئا عليهم في الإفصاح عما يريدون. وما دمنا قد دخلنا في هذا الموضوع، فما رأى كاتبنا في وجود الـ"ph" مع الـ"f" في الفرنسية والإنجليزية؟ هل يرى له أي لزوم؟ وهل هو راض عن تبدل طريقة النطق للـ"d" والـ"t" والـ"s" فيهما من موضع إلى موضع ما بين ترقيق وتغليظ، فضلا عن عدم نطق بعض الحروف المكتوبة ؟ وهل يرى داعيا لوجود تركيبة الـ"th" في الفرنسية ما دامت الــ"t" وحدها تكفى؟ وذلك علاوة على اختلاف نطق الــ"c" والــ"g" فيها وفي الإنجليزية حسب الحرف الذي يأتي بعدهما... إلخ. وبالمناسبة فقد أخطأ المؤلف هنا حين أراد أن يعلل السبب في تسمية اللغة العربية بــ"لغة الضاد"، إذ حسب أن ذلك راجع إلى أنها هي اللغة الوحيدة في العالم التي تفخّم "الدال" وتضخّمها فتقلبها "ضادا"(ص 149). فأما أنها، على الأقل في نطاق علمنا، هي اللغة الوحيدة في العالم التي تعرف نطق "الضاد" فهذا صحيح، لكن بمعنى غير المعنى الذي شرحه سيادته، لأن "الضاد"، كما جاء في كلامه، ليست هي "الضاد" العربية الأصيلة بل "الضاد" حسبما ننطقها هنا في مصر، وهذه موجودة في الفرنسية والإنجليزية متمثلة في تفخيم حرف الــ"d" في كثير من الكلمات على ما هو معلوم، مثل "dogue" في الأولى، و"double" في الثانية. أما "الضاد" العربية فهي شيء بين "الضاد" المصرية و"الظاء". كذلك يعيب الأستاذ شريف لغة العرب بأن غالبية الكلمات والأفعال فيها تتكون من حروف ساكنة فقط، على عكس كل لغات العالم الحديثة (ص 169)، وهى دعوى غير صحيحة، إذ الغلبة فيها إنما هي للحروف المتحركة لا الساكنة كما يعرف كل من له أدنى إلمام بلغتنا. أما إن كان يقصد الإملاء وأننا عادة ما نهمل تشكيل الكلمات فملاحظته تكون عندئذ في محلها. ولكن لا بد مع هذا من المسارعة إلى القول بأن السياق والتعود والإلمام بقواعد اللغة يعوّض عن هذا إلى حد كبير، علاوة على أن كثيرا من المؤلفين يحرصون على تشكيل ما يَرَوْن أنه بحاجة لذلك. بل إن القارئ في كثير من الأحيان لا يحتاج إلى التشكيل على الإطلاق، وهاهو ذا كتاب المؤلف بين أيدي القراء، وهو غير مشكَّل، فهل وجد أحدهم صعوبة في قراءة أية كلمة فيه؟ لقد أورد سيادته مثالا على الالتباس الذي يجده القارئ في هذه الحالة كلمةَ "قتلت" إذا لم يتم تشكيلها، لأنها يمكن أن تُنْطَق بعَشْر طُرُق. وأنا معه في أن الكلمة المذكورة تقبل النطق فعلا بكل هذه الصُّوَر، لكنْ على المستوى النظري فقط، أما على أرض الواقع العملي فالسياق والتعود والخبرة والإلمام بالقواعد يسهّل الأمر، كما قلت، إلى حد كبير، بل يعوّض كذلك عن غياب التشكيل تمام التعويض في كثير من الأحيان، وإلا فكيف كان يقرأ الناس ما يقرأون كل لحظة من نهار منذ أن انتشرت الكتابة في حياة العرب حتى هذه الساعة؟ أكانوا يتهتهون قليلا ثم يتركون ما يقرأونه وينصرفون عنه إلى شيء آخر أم ماذا؟ ثم إنه إذا كانت الكلمة المذكورة تحتمل عشر طرق في النطق فإن معظم الكلمات لا تحتمل إلا طريقة أو اثنتين لا غير كما هو معروف. وعلى أية حال فإن التشكيل، كما وضّحْتُ، يُعَدّ ركنا أساسيا في إملائنا، بَيْدَ أن عبقرية لغة القرآن وانتظامها الشديد في قواعد صرفها ونحوها يغنيان عن هذا التشكيل في كثير جدا جدا جدا من الحالات، وبخاصة إذا كان القراء على شاكلتي أنا وأمثالي ممن يعرفون تلك القواعد جيدا. هذا، ولا يفوتني أن أنبِّه إلى الخطإ الذي وقع فيه الكاتب حين قال إن "غالبية الكلمات والأفعال في العربية تتكون من حروف ساكنة فقط"، إذ جعل "الكلمات" قسيمة لـ"الأفعال"، وهذا غير صحيح، فالأفعال قسم من أقسام "الكلمة". وعلى هذا فالصواب أن نقول: "الأسماء والأفعال والحروف"، أو أن نكتفي بذكر "الكلمات" فحسب، لأن الكلمات في لغتنا تنقسم إلى "اسم وفعل وحرف" حسبما هو معروف.

وقد نال المترادفاتِ أيضا من هجوم الكاتب وزرايته نصيبٌ كافٍ، فأخذ يتألم من اتساع هذه الظاهرة في لغتنا داعيا إلى الاكتفاء منها بالقليل. وأنا في الواقع لا أدرى كيف يمكن أن تكون هذه السِّمَة مَسَبَّةً في لغة القرآن. ترى هل يمكن أن نجيء إلى رجل شديد الثراء بجِدّه وعمله ودأبه وذكائه وحيويته وطموحه فنقول له موبّخين: لماذا كل هذا الغنى والنعمة التي أنت فيها؟ لم لا تكون فقيرا؟ أم هل يمكن أن نذهب إلى إحدى الجميلات الفاتنات ونبكّتها قائلين: لماذا كل هذا الجمال الذي وَهَبَكِيه الله؟ لم لا تكونين قبيحة؟ وبالنسبة للمترادفات، فليقل لنا الأستاذ الفاضل كيف يمكن أن نتخلص من هذا الفائض اللغوي؟ هل نعمل له محرقة؟ لكن أيضمن ألا يطلع علينا أحد المستشرقين فيتهم العرب والمسلمين بالتخلف والوحشية وحرق الكتب، وبخاصة أننا لم نستطع بعد أن نخلص من التهمة الظالمة السخيفة بحرق مكتبة الإسكندرية رغم تفنيد عدد من الكتاب الغرب أنفسهم لها بأدلة علمية لا يخرّ منها الماء؟ وهبْ أننا دمَّرنا الكتب، ولا أدرى كيف، لأن هذه المترادفات ليست موجودةً في مكان واحد بحيث يمكن أن نرسل طائرة فتدك المكان فوق رؤوس هذه الكلمات اللعينة التي هي علة كل تخلفنا وذلنا، وتريحنا إلى الأبد منها ومما جلبته لنا من عار وشنار، فما الذي سنستفيده من هذا؟ إن تلك الألفاظ موجودة في بطون القواميس ولا تسبب لنا أية مشكلة، فلماذا نشغل أنفسنا بها؟ أهي مجرد الرغبة في إثارة عاصفة في فنجان؟ أما من يريد أن يستعملها فلسنا نملك له شيئا! أم ترى المؤلف الكريم يقترح إصدار تشريع بإعدامه أو سجنه مثلا؟ لكن المشكلة أن مثل هذا القانون سوف يكون فرصة رائعة لأنصار حقوق الإنسان في الغرب كي يؤلّبوا علينا أمريكا (دستور يا أسيادي الأمريكان، دستور! اللهم اجعل كلامي خفيفا على الأسياد!) فتحتلنا رغم أنهم يكرهون لغتنا ويعملون على القضاء عليها، وذلك على طريقتهم الشيطانية في الإفادة من الشيء ونقيضه، كما فعلوا مع صدام حسين وبه، إذ استفادوا منه في ضرب إيران، وشجعوه على غزو الكويت، ثم انقلبوا عليه واتهموه بالعدوان على هذين البلدين وبحيازة الأسلحة النووية التي اشترى معداتها من أوربا تحت سمعهم وبصرهم وهم ساكتون ما دامت النتيجة هي نزح ثروات العراق إلى بلاد الغرب! إن كثرة المترادفات لهى دليل على الدقة الهائلة التي تتمتع بها لغة العرب، فتراها تسمِّى الشيء أسماء مختلفة حسب الزاوية التي تنظر منه إليها، فالسيوف مثلا تسمى: "هندوانية" للدلالة على أنها صناعة هندية، وكانت الهند وقتها مشهورة بصناعة السيوف، فهذه التسمية لون من الافتخار، كما يقول الواحد منا الآن إن حاسوبه مثلا صناعة يابانية لا صينية. وقد تسمَّى أيضا بـــ"البِيض" للإشارة إلى ناصع لونها، وقد يسمَّى الواحد منها: "جُرَازا" للإيحاء بمقدرته الرهيبة في القطع من ضربة واحدة لا غير...وهكذا. على أن هناك سببا ثانيا وراء كثرة المترادفات عندنا، ألا وهو اختلاف القبائل قبل الإسلام في تسمية بعض الأشياء، مثلما نقول في مصر الآن: "كرنب"، على حين يقول الشوام: "ملفوف"، ومثلما نقول: "طماطم"، ويقولون هم: "بندورة"...إلخ، علاوة على أن كثيرا من هذه المترادفات ليست في الحقيقة تسميات مختلفة للشيء بل نُعُوتًا له استعملها الشعراء والكتاب دون موصوفاتها فظن المتعجلون أنها إسراف في الترادف. لكن ذلك كله لا يمثل لنا أية مشكلة، فهذه التسميات الكثيرة لا تتعدى بطون المعاجم كما قلنا، أما عند الكتابة فلا أحد منا يستطيع أن يتذكر عادةً إلا اسمين أو ثلاثة أو أربعة مثلا لأي معنى كان في يوم من الأيام يحظى بوفرة في التسميات. ويظل الباقي هناك مخزونا إستراتيجيا نستعمله عند اللزوم: إما لمسمّاه الأول، وإما في معنى مجازى جديد، وإما لشيء مستحدَث لم يكن للعرب به عهد من قبل...إلخ. ويشيد د.عثمان أمين بهذه الخصيصة من خصائص لغة الضاد قائلا إنها تتفوق بها على لغات العالم، إذ لا توجد في أي من هذه اللغات مثل تلك الوفرة من الألفاظ الدالة على الشيء منظورا إليه في مختلف درجاته وأحواله، ومتفاوت صوره وألوانه. ثم ينقل عن حسن الشريف المثال التالي: "فالظمأ والصَّدَى والأُوَام والهُيَام كلمات تدل على العطش، إلا أن كلا منها يصور درجة من درجاته: فأنت تعطش إذا أحسست بحاجة إلى الماء، ثم يشتد بك العطش فتظمأ، ثم يشتد بك الظمأ فتَصْدَى، ويشتد بك الصَّدَى فتَؤُوم، ويشتد بك الأُوَام فتَهِيم... وواضح أن هذه الخاصية العربية...تغنينا باللفظ الواحد عن عبارة مطوَّلة تحدد المعنى المقصود، وتجعلنا نقول عن المشرف على الموت عطشا إنه "هائم"، حين لا يستطيع الفرنسى مثلا أن يؤدى هذا المعنى إلا في ثلاث كلمات، إذ يقول : "مائتٌ من الظمإ: mourant de soif"، أو في سبع كلمات ليكون المعنى أوضح فيقول: "على وشك أن يموت من الظمإ: sur le point de mourir de soif"، ثم يعقّب على هذا النقل قائلا إن "هذا المثال المتقدم يشير إلى خصيصة عربية أخرى لا نكاد نجد لها نظيرا في غيرها من اللغات التي نعرفها، وهى الإيجاز في اللفظ والتركيز في المعنى دون الإخلال بما درجت عليه من الوضوح والتمييز"(فلسفة اللغة العربية/ المكتبة الثقافية/ أول نوفمبر 1965م/ 58ــ 59). كذلك أثنى والد المؤلف على هذه الخصيصة في اللغة الفصحى قائلا إن أية لغة غير العربية لا تعرف إلا كلمة واحدة للتعبير عن المشي للرجل والمرأة على السواء، أما لغتنا فتقول عن المرأة: "تتَأوَّد" و"تتبختر" و"تَرْفُل" وغير ذلك من الكلمات التي تصور تأنق المرأة في مشيتها وتنطق بما كان لذلك من أهمية (العرب والحضارة الأوربية/ المكتبة الثقافية/ 15 أغسطس 1961م/ 62). ومرة أخرى نقول: لم يجدوا في الورد عيبا، فقالوا له: يا أحمر الخدين! على كل حال لا ينبغي أن تضيق منا الصدور، فمصيرها أن تروق وتحلو! والمهم أن يفيق "أولاد الإيه" العرب من هذا الخُمَار الذي هم فيه، وعندئذٍ، لا قبلئذٍ، لن نسمع مثل هذه التصايحات التي تحاول التشكيك في كل شيء من تراثنا العظيم! لكن متى؟ "تلك هي المسألة" كما يقول سيدنا شكسبير! أما الآن فواضح أنه "لا حياة لمن تنادى"!

وبهذا نكون قد انتهينا من مناقشة فكرة المؤلف الرئيسية بتفصيلاتها المختلفة، وتبقى بعض النقاط الفرعية التي تحتاج إلى شيء من التريث إزاءها. ومن ذلك قوله إن اللغة العربية "هي اللغة الوحيدة في العالم التي لم تتغير قواعدها الأساسية منذ 1500 سنة كاملة. قد يرى البعض في ذلك رسوخًا واستمراريةً ودليلاً على رصانة اللغة، لكنى أرى فيه جمودًا وتحجرًا ينعكس سلبيًّا على العقل العربي"(ص 13). وهذا كلام لا نوافق المؤلف عليه بعدما بيّنّا كيف أن كل ما قاله عن عيوب هذه اللغة هو مجرد دعاوَى قائمةٍ على الشبهات المتعجلة، ولا أزيد. والواقع أن من الصعب الاقتناع بأن طول عمر العربية دليل على التحجر، وبخاصة بعدما رأينا أنها لم تكفّ يوما عن التطور كما وضّحْتُ في هذا البحث، وأن التأليف بها في شتى المجالات والعلوم والفنون مستمر على الدوام. إن طول عمر لغة القرآن إنما هو برهان جلىّ على أصالتها التي لم تستطع لغة أخرى أن تجاريها فيها. ولقد دفعت هذه الأصالة العجيبة كبار الأدباء العرب النصارى المتمكنين من لغتهم والغيورين عليها والعارفين بفضلها وعبقريتها إلى الإشادة بذلك السر الذي حمى تلك اللغة من الاندثار أو التغير الجذرى الذي من شأنه أن يقيم حاجزا صَلْدا ما بين ماضيها وحاضرها أو التحلل وإفساح المجال للهجاتها المختلفة مثلما حدث لغيرها من اللغات، ولم يمنعهم عدم إيمانهم بدين محمد من القول بأن ذلك السر هو القرآن. ومن هؤلاء سليمان البستاني مترجم الإلياذة الذي كان يعرف عددا من اللغات الأجنبية، ومنها اليونانية القديمة (إلياذة هوميروس/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت/ 1/ 113ــ 115)، وجرجى زيدان (مختارات جرجى زيدان/ مطبعة الهلال/ القاهرة/ 1937/ 187ــ 189). وإلى القرآن الكريم أيضا تعزو مىّ زيادة النصرانيةُ اللبنانيةُ المتمصِّرةُ فصاحةَ المسلمين العربِ واستقامةَ لفظهم وجمالَ نطقهم وفخامةَ أسلوب الكاتبين منهم (باحثة البادية وعائشة التيمورية/ كتاب الهلال/ يونيه 1999م/ 60). وبالمناسبة لقد أحدث الأتراك في لغتهم تغييرات كثيرة وعنيفة عامدين متعمدين كى يبتعدوا عن مدار العربية ظنا منهم أن ذلك هو المفتاح الذي سيلحقهم بأوربا في التفوق والتحضر والتقدم الاقتصادي والعسكري، بَيْدَ أن تركيا ما زالت دولة من دول العالم الثالث، وتعانى من كل ما تعانى منه دول ذلك العالم، ولم يشفع لها ما فعلته بلغتها أو بدينها في هذا السبيل بشيء! بل إن أوربا لا تزال تقف منها موقف المتربص الكاره، وتأبى عليها أن تلتحق بالاتحاد الأوربي بسبب أنها دولة مسلمة! بعد كل الذي فعلته؟ إي وربى بعد كل الذي فعلته! فما رأى مؤلفنا الفاضل؟ وعلى الناحية الأخرى هاهي ذي دول النمور الآسيوية قد أحرزت في الفترة الأخيرة نهضة اقتصادية عظيمة من دون أن تحدث في لغاتها أو دينها هذا الذي فعلته تركيا الكمالية! فما رأى مؤلفنا الفاضل في هذه أيضا؟ كذلك يقول سيادته إن "ظاهرة رفض المساس باللغة العربية هي جزء من ظاهرة أعم أصبحت مسيطرة على المجتمعات العربية، فقد استشرى منذ الثلث الأخير من القرن العشرين تيار جارف يعتبر كل بدعة مكروهة، ويرى في أي فكر حرّ متطور محاولةً شيطانية لتقليد الغرب ونَبْذًا للدين والثقافة العربية الأصيلة"(ص/ 58). ويؤسفني أنني لا أستطيع أن أتفق معه في هذا التعليل، وإلا فأين مكان والده والشدياق وبطرس وسليمان البستاني وناصيف وإبراهيم اليازجي وجرجى زيدان وخليل مطران وابن باديس وشكيب أرسلان ومحمد كرد على والبشير الإبراهيمي والطاهر والفاضل ابني عاشور والرافعي والعقاد وطه حسين والزيات وعثمان أمين وحسن الشريف ومحمد محمد حسين ومحمود شاكر وبنت الشاطئ وشوقي ضيف ومحمد شوقي أمين ومحمد خليفة التونسي وعلي الطنطاوي ومحمد الغزالي وحسين نصار ونجيب محفوظ وعبد الصبور شاهين وفاروق شوشة وغيرهم من الكتاب والأدباء العرب الفطاحل من هذه النزعة، وهم قد جاؤوا قبل ظهورها بزمن طويل، ولهم رؤية للدين وللحياة تختلف عن رؤية أصحابها؟ وأين مكان واحد مثلى لا تربطه أية رابطة بالجماعات الدينية التي يرمى المؤلف بكلامه ناحيتها، وأرى أنهم كثيرا ما يسيئون لدين محمد عليه السلام، وإن ظنوا بحسن نية أنهم يحسنون صنعا، إذ هم يحبون هذا الدين العظيم حُبًّا جمًّا لكنهم قد يخطئون السبيل لخدمته؟ بل أين منهم أيضا مكان أحمد لطفي السيد، الذي كان، رغم كل ما هو معروف عنه من أفكار لا تعجب كثيرا منا، يحمل على العامية حملة شعواء واسِمًا إياها بأنها ممسوخة الألفاظ، منحطة التراكيب، ملحونة الإعراب؟ (المنتخبات/ طبعة المقتطف/ 1945م/ 123). ثم من قال إن الجماعات الدينية المشار إليها تهتم أصلا بمسألة كهذه؟ إن كل ما تهتم به لا يكاد يخرج عن قضية الحلال والحرام بالمعنى الضيق لهذين المفهومين، أما اللغة فخارج دائرة اهتمام أفرادها. إن المسألة في وضعها الصحيح هي أن سيادته يتبنى قضية خاسرة، فضلا على أنه لم يستطع أن يربحنا، ولو بالباطل، إلى صفّه. لكنه للأسف لا يريد أن يعترف بهذا، فما العمل؟ نحن مقتنعون مثله، بل أشد منه، أننا متخلفون، وأن الغرب أقوى منا، وأن لديه أشياء كثيرة في العلوم والصناعات والفنون والنظام والتخطيط والتنسيق والتعاون والجَلَد على العمل والصبر على مشقات الحياة...إلخ لا بد لنا من الاستفادة منها والتتلمذ عليه فيها، وبخاصة أن كثيرا من القيم التي عنده هي مما يدعو إليه الإسلام أيضا، مع تفوقها في الإسلام وخلوها من الشوائب والأوضار التي تمازجها لديه. لكن هناك شيئين لا نفكر في التخلي عنهما ولا في مطاوعة الغرب في التفريط فيهما أبدا: اللغة والدين! فإن وافقَنا الكاتبُ على هذا فنحن أحباب، وإلا فهو في طريق، ونحن في طريق، ومعنا والده أو بالأحرى روح والده ترفرف علينا وتشجعنا على مخالفة ابنه وتنكر عليه هذا الموقف تمام الإنكار!