وفي مَقرِّ أعمالنا، وفي مساجدنا، ومما لا يُختَلَف فيه أنَّ سَيَّد المُرَبِّين، وإمامَ المصلحين محمد بن عبدالله،
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم
في تصحيح الأخطاء
الشيخ أحمد الزومان
لا يَخلو أفراد المجتمع منَ الأخطاء، فالخَطَأ والتقصير يَحْصُل في بُيُوتنا، وفي شوارعنا، وفي مدارسنا،
قد بَعَثَهُ الله لإصلاح الدِّين والدُّنيا، فباتِّباعِ هَدْيِه يسعَدُ الناس في مَعَاشِهم ومَعَادِهم، وَلَعَلِّي أذْكُر طَرَفًا مِنمواقف النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلم - في تصحيح بعض الأخطاء، ودَفْع الناس إلى التَّرَقِّي في صفاتِ
الكمال.فهذا مظنَّة الانتفاع أكثر، فلا يقع في نفس الشخص المُراد توجيهه شيءٌ، أو حَرَج، ولا يَتَعَرَّض لِقَدْح مِن
فمِنْ هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم -: تصحيحُ الأخطاء، والتَّنبيه عليها، مِن غير ذِكْر مَن وَقَعَ فيها،
بعضِ الناس، وكذلك الخِطاب يكون عامًّا لكُلِّ مَن وَقَع في الخَطَأ، فيظنُّ أنَّه المقصود بالخطاب، بِخِلافلو حدد الشخص؛ فعنْ أنس: أنَّ نَفَرًا مِن أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم- سَأَلوا أزواج النَّبِي- صلى
الله عليه وسلم - عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أَتَزَوَّج النِّساءَ، وقال بعضهم: لا آكُل اللَّحْم، وقالبعضهم: لا أنام على فِراش، فحَمِدَ الله، وأَثْنى عليه، وقال:
((ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا؛ لكني أُصَلِّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأَتَزَوَّج النساء؛ فَمَنْ رَغِب عنْ سُنَّتِيفليْسَ مني))؛ رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401).
وهذا في كتاب ربِّنا كثيرٌ،
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58]،
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75].
ومِن هَدْي النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في تصحيح الأخطاء الاكتفاءُ بالتلميح، دون التَّصريح أحيانًا؛فعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطانِي، ثم سألتُه
فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم قال:يبارَكْ له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليدُ العليا خيرٌ منَ اليد السُّفلَى))،
((يا حكيم، إنَّ هذا المال خضرة حلوة، فمَن أخذه بِسَخَاوَة نفس بورِكَ له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفس لَمْ
قال حكيم: فقلتُ: يا رسول الله، والذي بعثَكَ بالحق، لا أرزأ أحدًا بعدكَ شيئًا حتى أفارقَ الدنيا، فكانأبو بكر - رضيَ الله عنه - يدعو حكيمًا إلى العَطَاء، فيأبَى أن يقبَلَه منه، ثم إنَّ عمر - رضي الله عنه
- دعاهُ لِيُعْطِيَه، فأبى أن يقبلَ منه شيئًا، فقال عمر: إنِّي أُشْهِدكم - يا معشر المسلمين - على حكيم، أنِّيأعْرضُ عليه حَقَّه مِن هذا الفَيء، فيأبَى أن يأخذَه، فلم يرزأ حكيم أحدًا منَ الناس بعد رسول الله-صلى
الله عليه وسلم - حتى توفِّي؛ رواه البخاري (1472)، ومسلم (1035).النبي - صلى الله عليه وسلم - بِكَراهة ذلك؛ بل رأى أنَّ التلميحَ كافٍ، فَلَمْ يَجْرح مشاعر حكيم بكلمة،
فحينما كَرَّرَ حكيم المسألةَ، كَرِه له النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، لا سِيَّما مع غِناه، فلَمْ يُصَرِّح له
وأَوْصَل ما يُريد إيصاله إليه؛ فلذا الْتَزَم حكيم بهذا التوجيه، ولم يأخُذْ حتى حَقَّه مِنَ العطاء.
الصغير تبدر منه الأخطاء مِن غير قصدِ الإساءَة، وتعمُّد إيذاء الآخرين، فلا ينبغي أن يُكْثَرَ معه العتبوالتوبيخ، فضلاً عنِ العقاب،
فَأَنَس بن مالك كان صغيرًا، وخَدَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدِمَالمدينة حتى لحقَ بالرفيق الأعلى، وكان يَتَوَانَى بالحاجة أحيانًا، ويقع منه ما يقع منَ الصبيان، ولم يَكُن
يعتب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يُوَبِّخه؛ فعَنْه قال: خدمْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم-عشر سنين، واللهِ ما قال لي: أفٍّ قط، ولا قال لي لشيءٍ فعلتُه: لم فعلتَ كذا، وهلاَّ فعلتَ كذا؛
رواه البخاري (6038)، ومسلم (2309).التَّنبيه بكلماتٍ يسيراتٍ؛ ليتمَّ حِفْظها، وَوَعْيها مع اللُّطْف في العبارة، والرِّفْق بالتَّوجيه؛
وحينما يُخْطئ الصغير، ويحتاج الأمرُ إلى تَنْبيهٍ وتوجيهٍ، كان مِن هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم -
فعن عمر بن أبي سلمة، قال: كنتُ غلامًا في حجْرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وكانتْ يدي تطيش فيالصَّحفة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((يا غلامُ، سَمِّ الله، وكُل بيمينكَ، وكُل ممَّا يليك))،لكنه ينقصه كذا وكذا، بِخِلاف تناسِي الحسنات، والتَّركيز على الأخطاء، فهذا مظنَّة عدم الاستجابة، فالمُوَجَّه
فما زالتْ تلك طعمتي بعدُ؛ رواه البخاري (5376)، ومسلم (2022).
حين التوجيه وإصلاح الأخطاء تُذْكَرُ محاسن الشخص، وصفات الكمال التي فيه، وأنه قريبٌ منَ الكمال؛
يقع في نفسه أنه لا خير فيه، فلا يَحْرص على تصحيح الأخطاء، والتَّرَقِّي في درجات الكمال؛ فعن عبداللهبن عمر، قال: كنتُ غلامًا شابًّا، وكنتُ أنام في المسجد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فَرَأَيْتُ
في النَّوم كأنَّ مَلَكَينِ أَخَذَانِي، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطويَّة كَطَيِّ البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناسقد عرفتهم، فجعلتُ أقول: أعوذ بالله منَ النار،قال:فَلَقِيَنا مَلَكٌ آخر؛فقال لي:لم ترع، فَقَصَصْتها على حفصة،
فَقَصَّتْها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: نِعْم الرَّجل عبدالله، لو كان يُصَلِّي منَ الليل،فكان بعدُ لا ينام منَ اللَّيل إلاَّ قليلاً؛ رواه البخاري (1122)، ومسلم (2479).
حينما يُخْطِئ الشَّخص لا ينظر هذا الخطأ بمعزل عن صاحبه، وبذله، وسابقته في الإسلام؛ بل ينظُر
في حسناته، وهل له منَ الأشياء التي تشفع له،
فحينما نَقَلَ حاطِب بن أبي بَلْتَعَة أخبارَ المسلمين إلى كُفَّار قريش،قال عمر بن الخطاب: إنَّه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فَدَعنِي أَضْرب عُنُقه،
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:لسابقته في الإسلام، وشهود بَدْر.
(يا عمر، وما يُدريكَ؟ لعلَّ اللهَ قدِ اطَّلَع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبتْ لكم الجنة)،
قال: فدمعتْ عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم؛ رواه البخاري (6259)، ومسلم (2494).
فعذره النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخطأ، الذي هو في اصطلاح المتأخرين الخيانة العظمى؛
أكثر المواقف تحتاج إلى قوَّة في ضبط النَّفس، وكَتْم الغيظ، وعدم العمل وَفْق ما يدعو إليه الغَضَب؛خصوصًا ما يَحْصُل منَ التَّصَرُّفات التي لا تُرْضَى منَ الأهل،
وأكثر مسائل الطلاق، سببُها اختلافٌعلى مشاكل يَسِيرة في الغالب، يُؤَجِّجُها الغَضَب؛ فلذا يُطَلِّق المُطَلِّق، ومِن ساعته يبحث عَنْ مخرجٍ؛
لترجعَ إليه زوجه، فمِن مواقف النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تُبَيِّن حسن تعامُله في مُعالَجة أخطاءالأهل، ما رواهُ أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- عند بعض نِسائِه، فأرسلتْ
إحدى أمهات المؤمنين بصَحْفَة،فيها طعام، فضربتِ التي النبي-صلى الله عليه وسلم- في بيتها يدَ الخادم،فسقطتِ الصَحْفَة، فانفَلَقَتْ، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فِلَق الصَحْفَة، ثم جعل يجمع فيها الطعام
الذي كان في الصَحْفَة، ويقول: ((غارت أمُّكم))، ثم حبس الخادم حتى أَتَى بصَحْفَة مِن عند التي هو فيبيتها، فدفع الصَّحْفَة الصحيحة إلى التي كُسِرَت صحفتُها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرَتْ؛ رواه
البخاري (5225).عالَجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الموقفَ بالعدل، بعيدًا عَن الانفعالات والهَيَجَان، فلم يُحابِ عائشة
حينما كسرتِ الصَّحفة، فضمَّنها الصَّحفة، وأعطى المرأة المكسورة صحفتُها صحفةَ عائشة السليمة، ولميُؤاخِذ عائشة بما صدر منها؛ لأنَّ الغيراء في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا بشدَّة الغضب الذي أثارَتْه
الغَيْرة؛ بلِ الْتَمَسَ لها العُذر، وأشارَ بِقَوْله: ((غارت أمُّكم)) إلى أصحابه، ألاَّ يُؤَثِّر هذا الموقف في قدرهاعندكم،فهي وإن كسرتِ القصعة فهي أمُّكم،لها قَدْرُها ومنزلتُها،التي بَوَّأَها الله فلا تَبْخَسُوها قدرها
والله أعلم.
لو أنَّ هذا الموقف حَصَلَ لأحدنا، ماذا تظنون أنَّا نفعل؟
ما أحوجنا إلى مجاهَدَة أنفسنا ومغالبتها؛ حتى نَتَمَكَّنَ منها، فلا تبدر منا تصرفات في حال الغضب نندمعليها، ونحتاج إلى الاعتذار منها، فليستِ القوة بالعضلات المفتولة؛ بلِ القوة الحقيقيَّة قوة النفس
والإرادة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
رواه البخاري (6114)، ومسلم (2609).
((ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغَضَب))؛
البعض لا يخلو مِن أحد يناصِبُه العداء، ويَتَرَبَّص به، ويَتَتَبَّع عثراته وزلاته بِسَببٍ؛ وربما بِغَيْر سبب،والسلامة مِن هؤلاء بِمُصانعتهم، والعفو عن تَجَاوزاتهم، ومقابلة السيئة بالحسنة، فيقابل العبوس
بالابتسامة، ويقابل الإعراض بالسلام، ويقابل التَّنَقُّص بالاحترام، ويقابل الغيبة بالعفو والثناء، وهكذا؛فبعد حين تنقطع الإساءة؛ بل تَتَبَدَّل محبة وإحسانًا، وهذا مشاهَدٌ في واقع الناس، وجُلُّ الناس ربما هم
بِمُصانعة عدوه، وتَحَمُّل زلاته؛ لكن الأمر يحتاج إلى صبرٍ، وطول نَفَس؛ فلذا الأكثر ينقطع عنِ الدفعبالتي هي أحسن؛ بل ربما دَفَعَ السَّيئةَ بالسيئة؛ ظنًّا منه أنَّ هذا الشخص لا يصلُح معه إلاَّ هذا الأسلوب
في المُعامَلة، وهنا تزداد العداوة في القلوب، وتَسْتَفْحل المشكلة، وهذا ما يريده الشيطان، أمَّا ربنا – عزوجل - فَيُوَجِّهنا في حال وُجُود عداوةٍ بين أفراد المسلمين بقوله - تعالى -:
{وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: 34]،
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
منقول بتصرفi]d hgvs,g td jwpdp hgHo'hx
المفضلات