الشبهة الرابعة
كتمانه لبعض ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الشبه التي أثارها بعض أهل الأهواء: أن كتم بعض ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعد كتماناً للوحي الذي أمر الله تعالى رسوله بتبليغه للناس، مستندين في ذلك إلى ما صح عنه أنه قال: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم". (1)
وفي رواية: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث ما حدثتكم بها، ولو حدثتكم بحديث منها لرجمتموني بالأحجار". (2)

هذا ويجاب على هذه البشهة بما يأتي:
1 لقد أراد أبو هريرة رضي الله عنه: بالوعاءين وما في معناهما، قسمين أو مجموعتين من الأحاديث: أحدهما وهو الأكثر ما رواه للناس ونشره بينهم، وهو ما يجب تبليغه لهم، ولا يجوز كتمانه عنهم، والثاني وهو الأقل، ولعله لا يتجاوز الحديث أو الحديثين كثيراً، هو الذي أخفاه ولم يروه للناس، وذلك مما لا يطلـب العمل به، أو مما قد يثير فتنة، أو
__________________
(1) البخاري 1/192-193، كتاب العلم.
(2) الحاكم: المستدرك 3/509، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي عليه.

يترتب عليه اتكال، أو يلحق منه أذى، أو تكذيب لمن يرويه، أو غير ذلك، قال الذهبي: هذا على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول أو الفروع، أو المدح أو الذم، أما حديث يتعلق بحل أو حرام، فإنه لا يحل كتمانه بوجه، فإنه من البينات والهدى. (1) أي يجب بيانه للناس، ولا يجوز كتمانه.
وقال ابن كثير: وهذا الوعاء الذي كان لا يظهره هو الفتن والملاحم وما وقع بين الناس من الحروب والقتال، وما سيقع، وهذه لو أخبر بها قبل كونها، لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه. (2)

2- لم يكن أبو هريرة رضي الله عنه الصحابي الوحيد الذي كتم بعض ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ثبت أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كتموا بعض ما رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث، وكان منهم: معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقد روى مسلم عنه قال: "كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، قال: فقال: "يا معاذ تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس، قال: لا تبشرهم فيتكلوا". (3)
ومنهم: عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فقد صح عنه أنه قال في مرض موته: ما من حديث سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسـلم
________________________
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/597.
(2) ابن كثير: البداية والنهاية 8/109.
(3) مسلم بشرح النووي 1/232.


لكم فيه خير إلا حدثتكموه، إلا حديثاً واحداً وسوف أحدثكموه اليوم، وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار".(1)
قال القاضي عياض:"ومثل هذا عن الصحابة رضي الله عنهم كثير في ترك الحديث بما ليس تحته عمل، ولا تدعو إليه ضرورة
أو ما تحتمله عقول العامة أو حشيت مضرته على قائله أو سامعه".(2)

3 دعوة كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى الإقلال من رواية الحديث، وحثهم على ذلك، لأسباب رأوها داعية للإقلال من روايته.
فقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما يعمل به.
قال ابن كثير: وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي قد تضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلون على ما فيها
من أحاديث الرخص، وأن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ، فيحملها الناس عنه. (3)
وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "حدثوا بما يعـرفون،
___________________________
(1) مسلم بشرح النووي 1/229، ومعنى: أحيط بنفسي، قربت من الموت.
(2) النووي شرح مسلم 1/229.
(3) ابن كثير: البداية والنهاية 8/110.

ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله". (1)
كما صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".(2)
وبهذا يبدو جلياً أن ما أخفاه أبو هريرة لا يخرج عن الأسباب التي أخفى من أجلها بعض الصحابة رضي الله عنهم ما أخفوه من روايات
وأنه لم يكن كتماناً لما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتبليغه للناسب كما توهم الواهمون.
_______________
(1) البخاري 1/199، كتاب العلم.
(2) مسلم: المقدمة بشرح النووي 1/76.