الأوضاع المالية


يقول الدكتور ألفرد. ج. بتلر عن الحكم الروماني في مصر: "إن حكومة مصر الرومية لم يكن لها إلا غرض واحد، وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين، ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم توفير الرفاهية للرعية، أو ترقية حال الناس والعلو بهم في الحياة، أو تهذيب نفوسهم، أو إصلاح أمور أرزاقهم، فكان الحكم على ذلك حكم الغرباء لا يعتمد إلا على القوة، ولا يحس بشيء من العطف على الشعب المحكوم".
هذه هي أوضاع مصر المالية في ظل الحكم الروماني، ولكن ماذا عن وضع مصر المالي في عهد عمرو بن العاص t؟

نحب أن نقرر -بادئ الأمر- أن المسلمين لم يأتوا إلى مصر لابتزاز أموال أهلها، ولا لاستنزاف ثرواتهم، وقد اتضح منذ المفاوضات المبكرة مع المقوقس أنهم ليسوا طلاب دنيا، ولا راغبي مال، وإنما هم أهل دعوة ورسالة سامية، وقد كانت هذه المعاني سياسة ثابتة في عهد عمر بن الخطاب t الذي كان يميل إلى فتح البلدان صلحًا إذا أمكن تجنب فتحها عنوة، فقد ذكَّر عمرو جنده بما أوصى به عمر من التريث وقبول الصلح، وتقديم ذلك على القتل والفتح العمد، وكذلك بعد أن تسور الزبير حصن بابليون، وفتح بابه بالقوة، قال لعمرو: اقسم مصر، فقد فتحت بغير عهد. فرفض عمرو، فلما ألح الزبير على عمرو أن يقسمها كما قسم الرسولخيبر، سأل عَمْرو عُمَر، فقال: أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة.

بل إنه عَامَلَ الإسكندرية -على الرغم من أنها فتحت عنوة- معاملة ما فتح صلحًا، وقد اتضح من خلال بنود الاتفاقات المعاهدات التي عقدها المسلمون مع أهل البلاد أنهم يَعِدُون بانتهاج سياسة عادلة، ويحفظون ممتلكات الناس، ويرعون حرمتهم، ولذلك فإنه لا غرو أن يسأل عمرو -بناء على طلب عمر- بنيامين النصيحة الخالصة لمعرفة أحسن السبل التي تدار بها شئون مصر الاقتصادية ويحقق الرخاء والاستقرار لأهلها، فقد كتب عمرو متسائلاً: من أين تأتي عمارة مصر وخرابها؟

فقال بنيامين: "تأتي عمارتها وخرابها من وجوه خمسة: أن يستخرج خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من زروعهم، ويرفع خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من عصر كرومهم، وتحفر في كل سنة خُلُجها، وتسد ترعها وجسورها، ولا يُقْبَلُ مَحْلُ أهلها (يريد البغي)، فإذا فعل هذا عمرت، وإن عمل فيها بخلافه خربت".
ولعل ما ورد في نص الصلح الرسمي الذي عقد بين المسلمين والمقوقس بعد فتح الحصن، ما يبين لنا بوضوح ملامح السياسة المالية للمسلمين في مصر.


الأوضاع الاقتصادية

- الزراعة

تعتمد مصر منذ القدم على حرفة الزراعة اعتمادًا أساسيًّا، وقد كان المسلمون يعرفون خيرات مصر الوفيرة، فقد أُثِرَ عن عمرو بن العاص (رضي الله عنه) قوله: "ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة". وأثر عن ابنه عبد الله قوله: "من أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثله، فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها، وتخرج ثمارها".
وقد اشتهرت مصر بزراعة الكثير من المحاصيل الزراعية مثل: القمح والخضروات والفاكهة والكتان، وإلى جانب الاهتمام بالزراعة كان
الاهتمام بنظم الري، فقد أقام المصريون والمسلمون السدود والجسور، وحفروا الترع والخلجان، وقاسوا مياه فيضان النيل وبنوا القناطر.

ومعلوم أن المسلمين مُنِعُوا في عهد عمر بن الخطاب t من مزاولة الأنشطة الاقتصادية عامة، خاصة الزراعة حتى لا ينشغل الجند عن واجبهم الأول الجهاد في سبيل الله، وكان في مقابل ذلك يكفل لهم عمر (رضي الله عنه) معاشهم ومعاش أولادهم وذويهم، إلى جانب ما يحصلون عليه من غنائم حربية، وكان لا يسمح لهم بالخروج إلى الريف ومخالطة الناس إلا في وقت الربيع يرعون خيولهم ودوابهم، ثم يعودون إلى أماكن سُكناهم ثانية.

وقد ذكر ابن عبد الحكم: أن شريك بن سُمَيّ الغطفي عمل بالزراعة رغم نهي الخليفة عمر عن ذلك، فأرسله عمرو إلى المدينة
فتعهد أمامه ألا يعود مرة أخرى؛ فعفا عنه عمرو t، ورده إلى مصر ثانية.

ومما يشهد بالخير للمسلمين من فاتحي مصر أنهم لم يصادروا أراضي القبط الزراعية، ولم يستولوا عليها لأنفسهم، وكان من أكبر مظاهر اهتمام المسلمين بالزراعة حرصهم على قياس مياه النيل، ومعرفة مدى ارتفاع الفيضان أو انخفاضه في كل عام؛ لما لذلك من أثر كبير في الزراعة وأسعار المحاصيل وحياة الناس، فبنى عمرو بن العاص t مقياسًا للنيل بأسوان، وآخر في دَنْدَرة في ولايته الأولى، وسينشئ مقياسًا ثالثًا في أَنْصِنا في ولايته الثانية والأخيرة على مصر.


- الصناعة

مما لا جدال فيه أن اشتهار مصر بزراعة القطن والكتان ساعد على ازدهار صناعة المنسوجات القطنية والكتانية بها، وحذق صناعها في عمل الثياب، كما كانت كسوة الكعبة المشرفة الثمينة تجلب من قباطي مصر المشهورة، وهناك عدة مدن مصرية بالدلتا مشهورة بالغزل والنسيج مثل تِنِّيس ودمياط والإسكندرية.

وعرفت مصر بصناعة الورق عند الفتح الإسلامي، وكان ورق البردي معروفًا بمصر، ومستخدمًا في الكتابة، وموجودًا بكثرة في الدلتا والفيوم، ويغلب على الظن أن المسلمين استخدموه، وطوعوه لمتطلبات حياتهم.



- التجارة

من الطبيعي أن تزدهر التجارة المصرية تبعًا لانتعاش الزراعة والصناعة، ولا شك أن موقع مصر الممتاز بين الشرق والغرب ووجود نهر النيل وإسهامه في نقل السلع والبضائع جعل لمصر أهمية تجارية، بالإضافة إلى سواحلها الممتدة على البحرين الأحمر والأبيض، وقد حظيت الفسطاط العاصمة والإسكندرية بأهمية تجارية كبرى، وساعد حفر خليج أمير المؤمنين في الربط بين بحر القلزم (الأحمر) ونهر النيل، فربط مصر بشبه الجزيرة العربية، ووصل القمح بسهولة إلى الحجاز عند القحط ووقوع المجاعات، كما قدمت تجارة وسلع آسيا، وشرق أفريقيا من توابل ودهون وعطور ولؤلؤ وجواهر غيرها، وعن طريق خليج الإسكندرية تأتي تجارة البحر الأبيض من أخشاب ومعادن كالحديد والنحاس وغيرها، وأخيرًا فقد وجدت في مصر أسواق كثيرة لتصريف السلع ومختلف الحرف.


- الوضع الثقافي

دخل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصر على رأس الجيش الذي فتحها، وكان على رأس الجيش كما نعلم عمرو بن العاص، وابنه عبد الله، والزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعقبة بن عامر الجهني، وغيرهم كثير ممن لا يتسع المجال لذكرهم وحصرهم.

ولا شك أن هؤلاء الصحابة البررة كانوا لا يتطلعون إلى التنعم بغنى مصر وثرائها، والتقلب في نعائمها، وإنما كانت لهم أهداف أغلى وأسمى من ذلك كله، ألا وهي تبليغ دعوة الإسلام نقية خالصة إلى العالمين، ومن هنا ندرك عظم الدور الحضاري الذي لعبوه، والذي يتمثل في تعليم المصريين الكتاب والسنة.

فقد اهتم عمرو بن العاص t بإنشاء المسجد الجامع في الفسطاط، وقد ضَمَّتْ أَرْوِقَتُهُ هؤلاء الصحابة الأعلام يتلون كتاب الله، ويُقرِئُونه الناس، ويروون حديث رسول اللهويشرحونه، ويبصرون الناس بفقه الإسلام وأحكامه.

لقد استوطن كثير من الصحابة أرض مصر الطيبة، وانقطعوا لتعليم الناس أمور دينهم، يخالطون الناس ويخالطونهم؛ ليضربوا لهم أروع الأمثلة على أخلاق الإسلام وحسن معاملاته، وحقيقة تعاليمه ومبادئه، فيرى الناس عمليًّا ما يسمعونه من مواعظ وتوجيهات نظرية، فيكون لذلك أكبر الأثر في نشر الإسلام ولغته عن طريق العلم الصحيح، والقدوة الحقة.

وممن أسهم بدور فعال في إثراء الحركة العلمية في مصر في تلك الفترة الصحابي الجليل الفقيه المقرئ المفسر المجاهد عقبة بن عامر الجهني (ت 58هـ/ 677م) الذي أثرى الحياة الفكرية في مصر، وروى عنه المصريون كثيرًا من أحاديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تغلب عليها المسحة الفقهية مما جعلهم يعدونه مفتي مصر آنذاك.

لم تزدهر الحركة العلمية في مصر في عهد عمرو بن العاص فحسب، وإنما استمر ازدهارها وإيناعها، وآتت أكلها كذلك في عهد عبد الله بن سعد بن أبي سرح، الذي كثرت فيه الفتوحات الخارجية، ووفد إلى مصر الكثير من الصحابة والتابعين، الذين مروا بها، وهم في طريقهم إلى المغرب للجهاد في سبيل الله، وكانوا ينتهزون الفرصة فيروون على مسامع الناس في مصر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك أثناء رباطهم بالإسكندرية وأثناء الفتوح بالمغرب، وكذلك عند عودتهم منها إلى مصر، ومنها إلى الجزيرة العربية، ويذكر السيوطي أن حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما دخل مصر في خلافة عثمان بن عفان t، وروى المصريون عنه أحاديث بها، كما أنه شارك في فتح المغرب.


إبطال العادات السيئة بمصر في عهد عمرو بن العاص

لما فتحت مصر أتى أهلُها إلى عمرو بن العاص حين دخل بَئُونة من أشهر القبط، فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سُنَّةً لا يجري إلا بها.
فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا دخلت ثنتا عشرة ليلة من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أباها، وحملنا عليها من
الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل.

قال لهم: إن هذا لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما كان قبله.
فأقام أهل مصر شهر بَئُونة، وأَبِيب، ومِسْرَى لا يجري قليلاً ولا كثيرًا حتى همَّوا بالجلاء عنها، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر
بذلك، فكتب إليه عمر: "إنك قد أصبت؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله".
وكتب بطاقة داخل كتابه، وكتب إلى عمرو: "إني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل".

فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص، أخذ البطاقة فإذا فيها: "من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري من قِبَلَََك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك"، فألقى البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج؛ لأنه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل، فلما ألقى البطاقة أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة، فقطع الله تلك السُّنَّةَ السُّوء عن أهل مصر إلى اليوم.