صالوناتالنسـاء الألمانيات اليهوديات
Salons of German Jewish Women
«صالوناتالنساء اليهوديات» صالونات فكرية أقامتها بعض بنات أثرياء اليهود في فيينا وبرلينفي بداية القرن التاسع عشر، وأصبحت مركزاً يلتقي فيه أعضاء النخبة الثقافيةوالسياسية في أوربا مع بعضهم البعض، ومع البارزين من أعضاء الجماعة اليهودية. وظاهرة الصالونات ظاهرة مرتبطة تماماً بحركة التنوير اليهودية ثم بداية انفتاحالجماعة اليهودية على عالم غير اليهود وبداية علمنة أعضائها ودمجهم بل صهرهموأحياناً تنصيرهم.

ولعل قيام النساء بهذا الدور القيادي في عملية التقارببين الجماعة اليهودية وعالم غير اليهود يعود إلى مُركَّب من الأسباب الثقافيةوالاقتصادية. وأهم الأسباب بطبيعة الحال هو أن المجتمع الغربي بأسره كان قد بدأيتحول من مجتمع تقليدي مبني على الفصل بين الطبقات والجماعات إلى مجتمع حديث تديرهدولة قومية علمانية مركزية. ولم يكن هناك مفر من القضاء على كل الجيوب الإثنيةوالدينية والجماعات الوظيفية بحيث يتم دمجها في بنية المجتمع ككل. والجماعةاليهودية كانت إحدى هذه الجماعات، كما أن الصالونات كانت آلية من آليات الدمج إذ أناحتكاك أعضاء القيادة اليهودية بالثقافة غير اليهودية كان يسهم ولا شك في زيادةاقترابهم منها واستيعابهم لها ومن ثم وصولها إلى كل أعضاء الجماعة، ذلك أنه، معتحوُّل النخبة، يَسهُل تحوُّل الجماهير. وقبل أعضاء الأرستقراطية الألمانية، رغم ماعرف عنهم من عنصرية، ارتياد هذه الصالونات لأنها كانت تتسم بقدر كبير من الحريةوالانفتاح، ومن ثم كانت مجالاً لتبادل الأفكار غير متاح في المجتمع. ولابد أن نتذكرأن الفكر العقلاني وجد طريقه إلى أعضاء الأرستقراطية الغربية وعبَّر عن نفسه فيظاهرة الحكومات المطلقة المستنيرة التي كانت تبغي إصلاح المجتمع من أعلى، ومن خلالتشريعات حكومية. كما أن انتشار الرؤية النفعية والمركنتالية في المجتمع، جعلبالإمكان تقبُّل اليهودي أو أي شخص آخر ما دام أثبت نفعه.

أما من الناحيةالاقتصادية المباشرة، فيعود ظهور الصالونات إلى حرب الأعوام السبعة (1756 ـ 1763)،إذ أعطى فريدريك الأكبر مجموعة من العقود للمتعهدين العسكريين اليهود، الذين أثبتواكفاءتهم في سد حاجاته من السلع والمواد المختلفة ونفعهم لبروسيا. وتمكَّن هؤلاءالمتعهدون من مراكمة الثروات إبَّان هذه الحرب، وكثير من المزايا التي منحها إياهمالإمبراطور مكافأة لهم على الخدمات التي أدوها لوطنهم بروسيا. وقد اضطر كثير منأعضاء الأرستقراطية الألمانية إلى اقتراض المال من المموِّلين اليهود في هذهالفترة. ولكل هذا، ازداد اختلاط أعضاء الأرستقراطية الألمانية بأثرياء اليهود.

وفي إطار هذا، يمكن القول بأن الصالونات كانت تمثل مرحلة انتقالية في تاريخالجماعات اليهودية، فهي مرحلة كانت الجماعات اليهودية لا تزال تلعب فيها دورالجماعة الوظيفية، ولكن قوة الدولة المركزية كانت آخذة في التزايد، ومن ثم بدأتعملية الاستغناء عن الجماعات الوظيفية. كما أن الجماعة الوظيفية اليهودية ذاتهاكانت قد بدأت تراكم الثروات وهو ما جعلها مستعدة لارتياد قطاعات اقتصادية جديدةداخل الاقتصاد الوطني وفي صلبه. وعلى المستوى الثقافي، نجد الوضع نفسه، فأعضاءالنخبة في الجماعة اليهودية كانوا لا يزالون (يهوداً) يتَّسمون بشيء من الخصوصيةالتي يتمتع بها أعضاء الجماعات الوظيفية. ولكنهم كانوا في الوقت نفسه قد بدأوايتحركون في عالم الألمان، ويتشربون شيئاً من ثقافتهم، ويتطلعون إلى فقدان ما تبقىلديهم من خصوصية، ويندمجون تماماً في عالم ثقافة الأغلبية.

ويظل سؤال أخير: لماذا النساء اليهوديات دون الرجال؟ وللإجابة على هذا السؤال، لابد من الإشارة إلىمفارقة غريبة وهي أن التراث الديني اليهودي كان يحرم على المرأة المشاركة في الحياةالعامة (الدينية) والدراسة الدينية، وكان هذا يعني أن كثيراً من الفتيات اليهودياتمن أبناء الأسر الثرية بدأن يتلقين تعليماً غربياً علمانياً، فأصبحن أكثر إلماماًبالعلوم والثقافة الغربية وأكثر كفاءة في التعامل مع العالم الغربي وأكثر تملكاًلناصية خطابه الحضاري. ولذا، كان بمقدورهم أن يلعبن دور الوسيط بين أعضاء الجماعةاليهودية والنخبة الألمانية. كما أن ثراء أسرهن حررهن من الدور التقليدي للمرأة،فأصبح لديهن الوقت والثقافة والثراء الكافي لمثل هذه الصالونات.

وبدأمندلسون تقليد الصالونات هذا حين خصص ليلة يلتقي فيها المثقفون اليهود مع غيراليهود ليتبادلوا الأفكار. وكان أول صالون تفتحه مثقفة يهودية هو صالون هنريتا هرتز (1764 ـ 1847) وهي زوجة ماركوس هرتز أحد تلاميذ مندلسون، الذي كان يكبرها سناً،فتولى إكمال عملية تعليمها. وكانت تجيد عشر لغات من بينها العبرية، وكان صالونهاملتقى لمعظم المفكرين والأدباء مثل جوته وميرابو وأعضاء الأرستقراطية الألمانية. وتزوجت هنريتا هرتز من أحد رواد الصالون بعد موت زوجها، وتنصَّرت. ومن أهمالصالونات الأخرى صالون دوروثيا فايت (1763 ـ 1879) وهي ابنة مندلسون التي تزوجتمصرفياً يهودياً، ولكنها طلقت زوجها وتزوجت من الكاتب الألماني فريدريك فون شليجيلواعتنقت المسيحية البروتستانتية، ثم تكثلكا معاً. وكان صالون راحيل ليفين فارنهاجن (1771 ـ 1833) أهم الصالونات جميعاً، وكان ملتقى النخبة. وبعد زيجتين فاشلتين،التقت بضابط يهودي يصغرها سناً بأربعة عشر عاماً فتزوجا. وحينما استقرت في فيينا،فتحـت صالونها هـناك، فكان مندوبو بروسيا لمؤتمر فيينا يلتـقون فيه. وكانتالصالونات نقطة تجمُّع للحركة الرومانتيكية ولحركة ألمانيا الفتاة.

وكانتظاهرة صالون النساء اليهوديات ظاهرة مؤقتة، فمع نمو عدد أعضاء النخبة الثقافيةوالسياسية في المجتمع، ومع تنوُّع حاجاتها الفكرية، بدأت تظهر مؤسسات متخصصة للوفاءبهذه الحاجات، مثل الجماعات المهنية والنادي الثقافي والمجلات والصحف. كما أنتزايُد النزعة القومية الألمانية، وما صاحبها من معاداة اليهود، ساهم في تشجيعأعضاء النخبة على الانصراف عن هذه الصالونات. ولعل تنصُّر كثير من القائمات على مثلهذه الصالونات ساهم أيضاً في القضاء عليها إذ أن ذلك يعني أنها عجزت عن مد أية جسوربين الجماعة اليهـودية وحضـارة الأغيار. وأخـيراً، مع تزايد معـدلات الاندماجوالعلمنة، بدأت أعداد أكبر من الرجال تمتلك ناصية الخطاب الحضاري الغربي وتتحركبكفاءة أكبر في المجتمع وتعقد صلات مع المجتمع المضيف دون حاجة إلى صالونات النساءاليهوديات.