من المؤكد أنه ليس في الفتوحات الإسلامية مطلب دنيوي على الإطلاق، بل على العكس، ينفق المسلمون أرواحهم وأموالهم ليصلوا بدعوة الله إلى الناس. والدليل على أنه لا مطلب دنيوي أنه إذا آمن قوم احتفظوا بكل ما يملكون.
بل انظر إلى جواب زهرة بن الحوية عندما عرض عليه رستم الذهب والكساء قبيل القادسية، قائلا له: "انصرف وقومك ولكم منا جُعْل"؟ فقال زهرة: "إنا لم نأتكم بطلب الدنيا، إنما طِلْبتُنا وهمتنا الآخرة". وانظر أيضًا إلى جواب المغيرة بن شعبة لرستم حين قال: "قد علمت أنه لم يحملكم على ما أنتم عليه إلا ضيق المعاش، وشدة الجهد، ونحن نعطيكم ما تشبعون به، ونصرفكم ببعض ما تحبون"، فما كان من المغيرة إلا أن سَخِرَ منه ومن رأيه ومن ماله، حيث صاح به بألا مناص من واحدة من ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو القتال.

فلو أراد الفاتحون مالا دون نشر الدعوة والعقيدة، لرضوا بالمال دون دماء، ولحفظوا أرواحهم وعادوا بأموال تكفيهم بلا تعب ولا إرهاق، أو تيتيم أو ترمُّل. فمن ذا الذي يحمل رأسه على يده ويقاتل بها أقوى جيوش الدمار والفتك لينال من بذخ العيش؟!!

وإذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامي نجد أنه مملوء بقصص البطولات التي لا يمكن أن يسطرها إلا صاحب عقيدة مُثلَى رسخت في فكره وقلبه، وملأت حياته، ولا تصدر هذه البطولات إلا من إنسان صار كالمَلَك، وصار يعلم لماذا يبذل الروح، وماذا يطلب بها، وهيهات أن تجد في أمة من أمم الأرض مثل هذه البطولات [وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {الحشر: 21}.

ففي القادسية: خرج رجل فارسي من أهل فارس ينادي من يبارز؟ فبرز له علباء بن جحش العجلي، فضربه علباء فأصاب رئته، وضرب الفارسي علباء فأصاب أمعاءه، مات الفارسي من ساعته، أما علباء فخَّر على الأرض فلم يستطع القيام، فعالج إدخال أمعائه فلم يتأتَّ له، حتى مَرَّ به رجلٌ من المسلمين فقال: يا هذا، أعني على بطني، فأدخله له، فأخذ علباء جلد بطنه ثم زحف باتجاه عدوه من الفرس ما يلتفت إلى المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه إلى صف الفرس!!

وفي اليرموك: كم من منادٍ يصيح قائلاً: من يبايع على الموت؟! لا على الغنيمة، فتفكر.
وقال ورقة بن مهلهل التنوخي - وكان صاحب راية أبي عبيدة في اليرموك -: "كان من أوائل من افتتحوا الحرب غلام من الأزد، وكان حدثا كَيِّسا، قال لأبي عبيدة: أيها الأمير، إني أردت أن أشفي قلبي، وأجاهد عدوي وعدو الإسلام، وأبذل نفسي في سبيل الله تعالى لعلِّي أُرزَقُ الشهادة، فهل تأذن لي في ذلك؟ وإن كان لك حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرني بها"!!
هذا يمثل فتية الإسلام فكيف برجالاته ؟!! إنهم يبتغون نشر دعوة أو شهادة.

وفي نهاوند "فتح الفتوح": لِنَرَ ماذا قال النعمان بن مقرن المزني قبل بدء المعركة، لقد قال: "اللهم أعزز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم... اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتحٍ يكون فيه عز الإسلام، أَمِّنوا يرحمكم الله"!!

والبطولات في هذا الميدان أعظم من أن تحصى، ومع كل ذلك فنحن لا نُكرِه أحدًا أبدًا على الإسلام، ومحال أن تجد في التاريخ حادثة واحدة تدل على ذلك، بينما تجد العكس في كثير من دول العالم في القديم والحديث: روسيا والصين، وقبل ذلك في محاكم التفتيش.

في كل فتوحات الإسلام ما دُنِّسَ إنجيلٌ ولا توراةٌ، وما سُبَّ نبيٌّ، بل نرفع كل الأنبياء فوق كل البشر [لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ] {البقرة: 285}.


غير المسلمين في الدولة الإسلامية



على أن الذي يعيش على غير الإسلام في دولة إسلامية فإنها تحترم حقوقه تمام الاحترام، ولا يجوز ظلمه بأي حال من الأحوال، وأمثلة ذلك في التاريخ لا تحصى.
فمن حقهم الملكية، والعبادة الشخصية، وأَكْلُ ما يشتهون، وشُرْبُ ما يريدون، ومن حقهم العمل بالوظائف المختلفة، ولا يُظلَمون أبدا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوْ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

أما بالنسبة للجزية فنجد أنها أقل بكثير مما كانوا يدفعونه من ضرائب، سواء للرومان أو للفرس أو غيرهما؛ فالجزية لا تُؤخَذُ على النساء، ولا الأطفال، ولا الشيوخ، ولا المرضى، ولا المعتكفين للعبادة، وإنما تؤخذ فقط إلا من القادرين على القتال وحمل السلاح، وهي تؤخذ في مقابل الدفاع، وإذا عجز المسلمون عن الدفاع عنهم رُدَّتْ إليهم جزيتُهم، كما حدث مع أهل حمص، ولكن إذا قَارنَ بين الجزية والزكاة نجد أن الأرخص له أن لا يظل كافرا!!
والحقيقة أن الفارق عظيم وهائل بين المناهج السماوية والمناهج الأرضية.. فهل سمعتم بشعوب كاملة تدخل في دين المحتل إلا مع الإسلام؟
فلماذا يحدث ذلك؟ والجواب ببساطة: لأن المنهج مقنعٌ، ولا يقارن بالمرة!
وتراهم يقولون: الحل العسكري حل رجعي؟
والحقيقة أنه في كثيرٍ من الأحيان يكون الحل العسكري حلا واقعيا، فكم نتمنى أن تسمح الدول بالدعوة دون مقاومة، ولكنهم لا يفعلون.
ثم إن ما فعلته كل الدول الاستعمارية في الدول المحتلة، أليس ذلك حلا عسكريا، سواء في القديم أو الآن؟! أليس هناك دول إسلامية محتلة؟!
أَحَلالٌ على الدول المحتلة أن تنشر إباحيتها بالقوة، ويحرم على المسلمين أن ينشروا فضيلتهم؟! [إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] {ص: 5}.

أهمية الفتوح الإسلامية بقلم د. راغب السرجاني