النتائج 1 إلى 6 من 6
 

العرض المتطور

  1. #1
    مشرف
    الصورة الرمزية الرافعي
    الرافعي غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 522
    تاريخ التسجيل : 21 - 8 - 2008
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 2,507
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 12
    البلد : مصر
    الاهتمام : القراءة
    الوظيفة : طالب طب
    معدل تقييم المستوى : 19

    افتراضي




    من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ من الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق، في منع الغذاء شبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة؛ فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث؛ فهما طريقتان كما ترى: مبصرة وعمياء وخاصة وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة.
    ومتى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة؛ فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول: "أعطني" ثملا يسمع منه طلبا من الرجاء، بل طلبا من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يواسي المبتلى من كان في مثل بلائه.
    أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوما في كل سنة, ليحل في محله تاريخ النفس [1] ؟ وأنا مستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهرًا كاملًا من كل اثني عشر شهرًا، وأن هذه النسبة متحققة في أعمال النفس للجسم, وأعمال الجسم للنفس؛ كأنه الشهر الصحي الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لإحداث الترميم العصبي في الجسم, ولعل ذلك آت من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني وبين القمر منذ يكون هلالًا إلى أن يدخل في المحاق؛ إذ تنتفخ العروق وتربو في النصف الأول من الشهر، كأنها في "مد" من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة، ثم يراجعها "الجزر" في النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءة وظلاما، وإذا ثبت أن للقمر أثرا في الأمراض العصبية، وفي مد الدم وجزره [2] ، فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهرًا قمريا دون غيره.
    وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو -مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها- إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبر.
    وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي، الذي يدرب الصائم على أن يمنع باختياره من شهواته ولذة حيوانيته، مصرا على الامتناع، متهيئا له بعزيمته، صابرًا عليه بأخلاق الصبر, مزاولا في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.
    وإدراك هذه القوة من الإرادة العملية منزلة اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم، ففي هذين تعرض الفكرة مارة مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض لتستقر وتتحقق. فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم, تجد ثلاثين يوما من كل سنة قد فرضت فرضا لتربية إرادة الشعب ومزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها وملابساتها حتى تستقر وترسخ وتعود جزءا من عمل الإنسان، لا خيالًا يمر برأسه مرا.
    أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساسا في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ الإرادة فيما تبلغ، أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مزعنة لفكره، منقادة للوازع النفسي فيه، مصرفة بالحس الديني المسيطر على النفس ومشاعرها ؟

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ

    [1] أفسد ضعف النفوس هذا المعنى، فما يحقق الناس "تاريخ البطن" كما يحققونه في شهر رمضان، وهم يعرضون البطن في الليل ما منعوه في النهار، حتى جعلوا الصوم تغييرا لمواعيد الأكل... ولكن الصوم على ذلك لم يحرمهم فوائده.

    [2] قال الجاحظ في "الحيوان": " ولزيادة القمر حتى يصير بدرًا، أثر بين في زيادة الدماء والأدمغة وجميع الرطوبات ".






  2. #2
    مشرف
    الصورة الرمزية الرافعي
    الرافعي غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 522
    تاريخ التسجيل : 21 - 8 - 2008
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 2,507
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 12
    البلد : مصر
    الاهتمام : القراءة
    الوظيفة : طالب طب
    معدل تقييم المستوى : 19

    افتراضي


    كل ما ذكرته في هذا المقال من فلسفة الصوم؛ فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183]. وقد فهمها العلماء جميعا على أنها معنى "التقوى" أما أنا فأولتها من "الاتقاء" ؛ فبالصوم يتقى المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان, يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.
    وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذه الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر, ويعمل بالحاضر في الآتي [1] .
    وكل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر لجلب منفعة، واتقاء رذيلة لجلب فضيلة، وبهذا التأويل تتوجه الآية الكريمة جهة فلسفية عالية، لا يتأتى البيان ولا العلم ولا الفلسفة بأوجز ولا أكمل من لفظها؛ ويتوجه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة؛ يتقي بها الاجتماع شرور نفسه؛ ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم، ومعناه "قانون البطن".
    ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسماك: "مدرسة الثلاثين يومًا". اهـ

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ

    [1] يفسر القرآن بعضه بعضًا، ومن معجزاته في هذا التأويل الذي استخرجناه أن يؤيده بالآية الكريمة في سورة "يس": { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون ... }
    ويشير إلى هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الصوم جنة -بضم الجيم- فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم " .
    الجُنة: الوقاية يتقي بها الإنسان، والمراد أن يعتقد الصائم أنه قد صام ليتقي شر حيوانيته وحواسه، فقوله: "إني صائم، إني صائم"؛ أي إنني غائب عن الفحش والجهل والشر؛ إني في نفسيتي ولست في حيوانيتي.





    أما والله ما جعل الله ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، ولكنك يا قلبُ تفتأ تجعل لي
    من كل معنى من معاني الحزن في هذا الوجود قلباً ينبض به ، حتى لو قد قيل
    ما مثلك في القلوب ، لقلتَ: "قلب سوريّة" ..
    سورية ... آه يا سورية !


    _______________________________

    ( الحكم بغير ما أنزل الله من أعظم أسباب تغيير الدول، كما جرى مثل هذا مرة بعد مرة
    في زماننا وغير زماننا )
    - شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - الفتاوى 35/387


 

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. فلسفة التصديق والتكذيب
    بواسطة ابن النعمان في المنتدى الركن النصراني العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2011-02-09, 11:50 AM
  2. فلسفة ارث الخطيئة عند النصارى فلسفة مريضة من السهل نقضها والرد عليها
    بواسطة ابن النعمان في المنتدى الركن النصراني العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2011-02-03, 02:13 PM
  3. فلسفة النمل والقلم الرصاص
    بواسطة ابو الياسمين والفل في المنتدى العلم والثقافة العامة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 2010-12-14, 03:12 PM
  4. رأيي في الحضارة الغربية ، للرافعي
    بواسطة الرافعي في المنتدى الحوار العام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 2010-03-05, 11:58 AM
  5. فلسفة رجل
    بواسطة ذو الفقار في المنتدى قضايا الأسرة والمجتمع
    مشاركات: 23
    آخر مشاركة: 2009-12-07, 09:51 AM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML