خامسآ : الإحســــــــــــــــــــــــــــــان

مرَّ عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- على غلام يرعى أغنامًا لسيده، فأراد ابن عمر أن يختبر الغلام، فقال له: بع لي شاة. فقال الصبي: إنها ليست لي، ولكنها ملك لسيدي، وأنا عبد مملوك له. فقال ابن عمر: إننا بموضع لا يرانا فيه سيدك، فبعني واحدة منها، وقل لسيدك: أكلها الذئب. فاستشعر الصبي مراقبة الله، وصاح: إذا كان سيدي لا يرانا، فأين الله؟! فسُرَّ منه عبد الله بن عمر ، ثم ذهب إلى سيده، فاشتراه منه وأعتقه.

ما هو الإحسان؟
الإحسان هو مراقبة الله في السر والعلن، وفي القول والعمل، وهو فعل الخيرات على أكمل وجه، وابتغاء مرضات الله.
أنواع الإحسان:
الإحسان مطلوب من المسلم في كل عمل يقوم به ويؤديه. وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ولْيحد أحدكم شَفْرته، فلْيُرِح ذبيحته) [مسلم].
ومن أنواع الإحسان:
الإحسان مع الله: وهو أن يستشعر الإنسان وجود الله معه في كل لحظة، وفي كل حال، خاصة عند عبادته لله -عز وجل-، فيستحضره كأنه يراه وينظر إليه.
قال صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) [متفق عليه].
الإحسان إلى الوالدين: المسلم دائم الإحسان والبر لوالديه، يطيعهما، ويقوم بحقهما، ويبتعد عن الإساءة إليهما،     : {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا} [الإسراء: 23].
الإحسان إلى الأقارب: المسلم رحيم في معاملته لأقاربه، وبخاصة إخوانه وأهل بيته وأقارب والديه، يزورهم ويصلهم، ويحسن إليهم. قال الله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} [النساء: 1].
وقال صلى الله عليه وسلم: (من سرَّه أن يُبْسَطَ له في رزقه (يُوَسَّع له فيه)، وأن يُنْسأ له أثره (يُبارك له في عمره)، فليصل رحمه) [متفق عليه]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فَلْيَصِل رحمه) [البخاري].
كما أن المسلم يتصدق على ذوي رحمه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان: صدقة، وصلة)
[الترمذي].
الإحسان إلى الجار: المسلم يحسن إلى جيرانه، ويكرمهم امتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيورِّثه).
[متفق عليه].
ومن كمال الإيمان عدم إيذاء الجار، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُؤْذِ جاره) [متفق عليه]. والمسلم يقابل إساءة جاره بالإحسان، فقد جاء رجل إلى ابن مسعود -رضي الله عنه- فقال له: إن لي جارًا يؤذيني، ويشتمني، ويُضَيِّقُ علي. فقال له ابن مسعود: اذهب فإن هو عصى الله فيك، فأطع الله فيه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن حق الجار: (إذا استعان بك أعنتَه، وإذا استقرضك أقرضتَه، وإذا افتقر عُدْتَ عليه (ساعدته)، وإذا مرض عُدْتَه (زُرْتَه)، وإذا أصابه خير هنأتَه، وإذا أصابته مصيبة عزَّيته، وإذا مات اتبعتَ جنازته، ولا تستطلْ عليه بالبناء، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذِه بقتار قِدْرِك (رائحة الطعام) إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهدِ له منها، فإن لم تفعل، فأدخلها سرًّا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده) [الطبراني].
الإحسان إلى الفقراء: المسلم يحسن إلى الفقراء، ويتصدق عليهم، ولا يبخل بماله عليهم، وعلى الغني الذي يبخل بماله على الفقراء ألا ينسى أن الفقير سوف يتعلق برقبته يوم القيامة وهو يقول: رب، سل هذا -مشيرًا للغني- لِمَ منعني معروفه، وسدَّ بابه دوني؟
ولابد للمؤمن أن يُنَزِّه إحسانه عن النفاق والمراءاة، كما يجب عليه ألا يمن بإحسانه على أصحاب الحاجة من الضعفاء والفقراء؛ ليكون عمله خالصًا لوجه الله.     : {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم} [البقرة: 263].
الإحسان إلى اليتامى والمساكين: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأيتام، وبشَّر من يكرم اليتيم، ويحسن إليه بالجنة، فقال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا) وأشار بأصبعيه: السبابة، والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًا.
[متفق عليه].
وقال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله) [متفق عليه].
الإحسان إلى النفس: المسلم يحسن إلى نفسه؛ فيبعدها عن الحرام، ولا يفعل إلا ما يرضي الله، وهو بذلك يطهِّر نفسه ويزكيها، ويريحها من الضلال والحيرة في الدنيا، ومن الشقاء والعذاب في الآخرة،     : {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} [الإسراء: 7].
الإحسان في القول: الإحسان مطلوب من المسلم في القول، فلا يخرج منه إلا الكلام الطيب الحسن، يقول تعالى: {وهدوا إلى الطيب من القول}
[الحج: 24]، و    : {وقولوا للناس حسنًا} [البقرة: 83].
الإحسان في التحية: والإحسان مطلوب من المسلم في التحية، فعلى المسلم أن يلتزم بتحية الإسلام، ويرد على إخوانه تحيتهم. قال الله -تعالى-: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} [النساء: 86].
الإحسان في العمل: والمسلم يحسن في أداء عمله حتى يتقبله الله منه، ويجزيه عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) [البيهقي].
الإحسان في الزينة والملبس:     : {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31].
جزاء الإحسان:
المحسنون لهم أجر عظيم عند الله،     : {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60]. وقال: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} [الكهف: 30]. وقال: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195].





سادسآ : الأمــــــــــــــــــــانة


فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ودخل المسجد الحرام فطاف حول الكعبة، وبعد أن انتهى من طوافه دعا عثمان بن طلحة -حامل مفتاح الكعبة- فأخذ منه المفتاح، وتم فتح الكعبة، فدخلها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام على باب الكعبة فقال: (لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده...).
ثم جلس في المسجد فقام على بن أبي طالب وقال: يا رسول الله، اجعل لنا الحجابة مع السقاية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أين عثمان بن طلحة؟) فجاءوا به، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم برٍّ ووفاء) [سيرة ابن هشام]. ونزل في هذا قول الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58]. وهكذا رفض النبي صلى الله عليه وسلم إعطاء المفتاح لعلي ليقوم بخدمة الحجيج وسقايتهم، وأعطاه
عثمان بن طلحة امتثالا لأمر الله بردِّ الأمانات إلى أهلها.
ما هي الأمانة؟
الأمانة هي أداء الحقوق، والمحافظة عليها، فالمسلم يعطي كل ذي حق حقه؛ يؤدي حق الله في العبادة، ويحفظ جوارحه عن الحرام، ويرد الودائع... إلخ.
وهي خلق جليل من أخلاق الإسلام، وأساس من أسسه، فهي فريضة عظيمة حملها الإنسان، بينما رفضت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها لعظمها وثقلها، يقول تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنا وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً}
[الأحزاب: 72].
وقد أمرنا الله بأداء الأمانات، ف    : {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58].
وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الأمانة دليلا على إيمان المرء وحسن خلقه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)
[أحمد].
أنواع الأمانة:
الأمانة لها أنواع كثيرة،منها:
الأمانة في العبادة: فمن الأمانة أن يلتزم المسلم بالتكاليف، فيؤدي فروض الدين كما ينبغي، ويحافظ على الصلاة والصيام وبر الوالدين، وغير ذلك من الفروض التي يجب علينا أن نؤديها بأمانة لله رب العالمين.
الأمانة في حفظ الجوارح: وعلى المسلم أن يعلم أن الجوارح والأعضاء كلها أمانات، يجب عليه أن يحافظ عليها، ولا يستعملها فيما يغضب الله -سبحانه-؛ فالعين أمانة يجب عليه أن يغضها عن الحرام، والأذن أمانة يجب عليه أن يجنِّبَها سماع الحرام، واليد أمانة، والرجل أمانة...وهكذا.
الأمانة في الودائع: ومن الأمانة حفظ الودائع وأداؤها لأصحابها عندما يطلبونها كما هي، مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين، فقد كانوا يتركون ودائعهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم ليحفظها لهم؛ فقد عُرِفَ الرسول صلى الله عليه وسلم بصدقه وأمانته بين أهل مكة، فكانوا يلقبونه قبل البعثة بالصادق الأمين، وحينما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ترك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ليعطي المشركين الودائع والأمانات التي تركوها عنده.
الأمانة في العمل: ومن الأمانة أن يؤدي المرء ما عليه على خير وجه، فالعامل يتقن عمله ويؤديه بإجادة وأمانة، والطالب يؤدي ما عليه من واجبات، ويجتهد في تحصيل علومه ودراسته، ويخفف عن والديه الأعباء، وهكذا يؤدي كل امرئٍ واجبه بجد واجتهاد.
الأمانة في الكلام: ومن الأمانة أن يلتزم المسلم بالكلمة الجادة، فيعرف قدر الكلمة وأهميتها؛ فالكلمة قد تُدخل صاحبها الجنة وتجعله من أهل التقوى، كما قال الله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء} [إبراهيم: 24].
وقد ينطق الإنسان بكلمة الكفر فيصير من أهل النار، وضرب الله -سبحانه- مثلا لهذه الكلمة بالشجرة الخبيثة، فقال: {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} [إبراهيم: 26].
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية الكلمة وأثرها، فقال: (إن الرجل لَيتَكَلَّمُ بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغتْ، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغتْ، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) [مالك]. والمسلم يتخير الكلام الطيب ويتقرب به إلى الله -سبحانه-، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة) [مسلم].
المسئولية أمانة: كل إنسان مسئول عن شيء يعتبر أمانة في عنقه، سواء أكان حاكمًا أم والدًا أم ابنًا، وسواء أكان رجلا أم امرأة فهو راعٍ ومسئول عن رعيته، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها (زوجها) وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) [متفق عليه].
الأمانة في حفظ الأسرار: فالمسلم يحفظ سر أخيه ولا يخونه ولا يفشي أسراره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدَّث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة) [أبو داود والترمذي].
الأمانة في البيع: المسلم لا يغِشُّ أحدًا، ولا يغدر به ولا يخونه، وقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يبيع طعامًا فأدخل يده في كومة الطعام، فوجده مبلولا، فقال له: (ما هذا يا صاحب الطعام؟). فقال الرجل: أصابته السماء (المطر) يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلا جعلتَه فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غَشَّ فليس مني) [مسلم].
فضل الأمانة:
عندما يلتزم الناس بالأمانة يتحقق لهم الخير، ويعمهم الحب، وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بحفظهم للأمانة، ف    : {والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون} [المعارج: 32]. وفي الآخرة يفوز الأمناء برضا ربهم، وبجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
الخيانة:
كل إنسان لا يؤدي ما يجب عليه من أمانة فهو خائن، والله -سبحانه- لا يحب الخائنين،     : {إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيمًا} [النساء: 107].
وقد أمرنا الله -عز وجل- بعدم الخيانة، ف    : {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال: 27]. وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأداء الأمانة مع جميع الناس، وألا نخون من خاننا، فقال صلى الله عليه وسلم: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ من خانك)
[أبو داود والترمذي وأحمد].
جزاء الخيانة:
بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن خائن الأمانة سوف يعذب بسببها في النار، وسوف تكون عليه خزيا وندامة يوم القيامة، وسوف يأتي خائن الأمانة يوم القيامة مذلولا عليه الخزي والندامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة) [متفق عليه].. ويا لها من فضيحة وسط الخلائق‍!! تجعل المسلم يحرص دائمًا على الأمانة، فلا يغدر بأحد، ولا يخون أحدًا، ولا يغش أحدًا، ولا يفرط في حق الله عليه.
الخائن منافق:
الأمانة علامة من علامات الإيمان، والخيانة إحدى علامات النفاق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائْتُمِنَ خان) [متفق عليه]. فلا يضيع الأمانة ولا يخون إلا كل منافق، أما المسلم فهو بعيد عن ذلك.