فضاءات حرية المرأة
بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ
وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ
مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾
[آل عمران: 35 - 38].
لله درُّ التي أعلنتْ يومًا أنه "ليس الذَّكَر كالأنثى"؛ إذ لا مقارَنة ولا مفاضَلة ولا مساواة،
بل لكلٍّ منهما كيانٌ خاصٌّ، جدير بالاحترام والتقدير، وقد كانتِ امرأةُ عمران الصالحة من السعداء
الذين اصطفاهم الله سبحانه، وأثناء حملها "نَذَرَتْ ما في بطنِها محرَّرًا" - كما قال الله سبحانه - أي:
وَهَبَت الذي يَتَحَرَّك في أحْشائها لخِدْمة بيت الله، وكانتْ ترْجو أن يكون ذكَرًا، فلمَّا رأتْها أنثى، قالت:
لَيْس الذكَر كالأنثى؛ أي: ليس الذكَر الذي تَمَنَّتْ كالأنثى التي وُهِبَتْ - كما قال صاحب "تنوير الأذهان"
في تفسير الآية الكريمة - لقد كان للحرية في ذهْنِها الطاهر شأنٌ كريم عظيم؛ لذا جعلتْه نذرًا كريمًا
لجنينٍ كريمٍ عظيم، فحرَّرَتْه قبل أن تراه، وكانت ترجو أن يكونَ ذاك الجنين ذكرًا،
فلمَّا وَضَعَتْها أنثى، خَشيَتْ ألاَّ يُقبَل نذْرُها، لكنَّ السميع العليم سبحانه
تَقَبَّل النذْر بقَبُول حَسَن.
أَوَكَانَ ذاك النذرُ تعبيرًا عن شُكْرها للمُنعم، الذي وَهَبَها ذُرِّيَّة بعد إياسٍ مجهد؟
أم أن نذْر الحرية هذه كان أجمل ما في دنياها، فقدَّمتْه كأجمل هدية لِمَنْ لَم يرَ دنياها؟
وكانتِ المفاجأة التي قدَّرَها العظيمُ سبحانه، أن توهَب هذه الحرية لأنثى لا لِذَكَر،
فكانتْ مريمُ البتول - رضي الله عنها - أول امرأة تتقلد وسام الحرية، وتَتَنَعَّم بفضائها العذب،
تلك كانت حرية العابدة؛ كما يقول صاحب "المعجم الوافي لكلمات القرآن الكريم"، السيد محمد عتريس،
بأن "التعبير عن الخلوص المطلَق - لله طبعًا - تعبيرٌ موحٍ، فما يَتَحَرَّر حقًّا إلا مَن يفِر لله بجملته،
وينجو من العبودية لكلِّ أحد ولكل شيء، فلا تكون عبوديتُه إلا لله وحده.
ومن الواضح أن العبودية ليستْ مرادفة لإقامة الشعائر التعبُّدية،
وقد قدمتْ مريم العذراء - رضي الله عنها - صورةً عمليَّة للعُبُودية الخالصة،
فقد كانت زاهدةً وعابدةً، راكعةً وساجدةً، كانتْ تُعرَف بالطاهرة البتول؛
إذ لم تكْتَفِ بحجْب جسمها الشريف عن أعْيُن الناس؛ بل اعتزلتْهُم،
وحجبتْ ذاتها الطاهرة عنهم، فقضَتْ جُلَّ عمرها في مِحْراب عبوديتها،
ترْتَقي رُوحُها الفضاءَ، وتجوب الآفاقَ.
وللمتأمِّل للآية الكريمة هذه يَجْزم بأن المرأة منحتْ حريتها كحق أبَدِيٍّ سرْمدي،
منحها إياها الخالقُ - سبحانه وتعالى - والمتَفَكِّر في معنى الحرية التي تَمَتَّعَت السيدة مريم ابنة عمران
بِرِياضِها هي حتمًا غير الحرية التي تقلق نسوة زماننا الباحثات عن حقوق المرأة؛ فهُنَّ - في الغالِب - يتَحَدَّثْن
عن حرِّيَّة الجسَد، التي تُعقَد من أَجْلها المؤتَمَرات والندَوات، ولو وافقت جدلاً بعض المسلمات على مِثْل هذه
الأُطرُوحات، فلماذا تحشر المتحدِّثات أنفسهن في جحر حرِّيَّة التعَرِّي والتلوِّي، متجاهلات حرية الستْر
والحجاب، بل ترى بعضهن معاديات لهذه القِيَم؟!
ولوِ افْتَرَضْنا أنَّ التحدُّث عن حرية المرأة هو نوع من العُلُوم الاجتماعيَّة المهمة،
التي لا تتحقق النهضة إلا باستيعاب مفاهيمها، فهل يا تُرى كان موضوعُ حرية المرأة غائبًا
عن أفْذاذ مفَكِّري العصور الزاهرة، وانتفض ماردُ هذه الأفكار اليوم؟!
لماذا ازداد الهرج والمرج والتباكي على حُقُوق المرأة المضَيَّعة في زمان الضياع،
حتى شغلنا بالتباكي عن مقاتلة قوم يبكون بجوار حائط موهوم؟!
أم أن فحيح أفاعيهم نفح سُمُومًا في صفوف كسالى استَمْسَكوا بخَدْرٍ لذيذٍ طالَ،
فغابوا عن الوعي، وغيبوا خلف شمس الحضارة؟!
ولئن كانتْ هذه صورة الحرِّيَّة الشَّوْهاء العرْجاء العمياء هي منتهى آمال
مَن لا يعرف سيدة الحرائر مريم البتول - رضي الله عنها - فإنَّ تلميذاتها يسألْن الله
أن يمدهن بقوة منه وعون للتحرُّر من القيود قاطبة، والاستسلام التام لأمر الواحد القهار،
فهذا هو درْب الحرية الأَوْحَد، ومَن لا يعرف هذا الدرب، فلا داعي لأن يرهق نفسه
والآخرين بالتلويح بشعار (حرية المرأة).
منقولtqhxhj pvdm hglvHm
المفضلات