أقول بحول الملك الوهاب :هل المسلم يحب الاخر ؟
ان نظرة الإسلام إلى البشرية ملؤها الرحمة والعطف ، ولا يمكن أن يكون غير هذا ؛ لأن شريعة الاسلام هي آخر الشرائع التي شرعها الله تعالى ، وأمر الناس كافة بالدخول فيه ، كما أنه تعالى أوحى بهذا الدين ، وأنزله على قلب أرحم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى قوله عز وجل : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء :107] .
وفي ذلك جاءت الأوامر في القرآن والسنَّة للمسلمين بدعوة الناس إلى توحيد الله ، وبذل الأموال ، والأوقات ، والأنفس في سبيل ذلك ؛ وما ذلك إلا رحمة بالعالَمين ؛ لإنقاذهم من عبادة العبَاد إلى عبادة رب العبَاد ، ولإخراجهم من ضيق الدنيا ، إلى سعة الدنيا والآخرة .
تستطيع أن تلمس هذا كله في النصوص الشرعية وأقوال العلماء :
1- إباحة التعامل معهم بالبيع والشراء : واستثنى العلماء بيع آلة الحرب وما يتقووا به علينا ، ولا يخفى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته كانوا يبيعون ويشترون من اليهود، بل ومات عليه السلام ، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير كما روى ذلك أحمد وغيره .
2- إباحة الزواج من أهل الكتاب ، وأكل ذبائحهم وطعامهم المباح :: ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [المائدة : 5] .
3- اللين في معاملتهم ولا سيما عند عرض الدعوة عليهم : فندعوهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ،: ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) [النحل :125] ، وهكذا أمر الله نبيه موسى – عليه السلام - أن يصنع مع فرعون،
: ( فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) [طه : 44]
ونجادلهم بالتي هي أحسن ،:( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن) [النحل:125] ، و
: ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [العنكبوت:46]
ونصبر على أذاهم ،:(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل:10]، و
: ( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان:17] ، و
: ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران : 186]
4- العدل معهم وعدم ظلمهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم :: ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )[الممتحنة: 8] ، والقسط هو العدل والانصاف .
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما " [1]
وعن صفوان بن سليم ، عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم دنية , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " ألا من ظلم معاهدا ، أو انتقصه ، أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه ، فأنا حجيجه يوم القيامة "[2]
5- الإهداء لهم وقبول الهدية منهم : فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها . [3] ، وهذا عام في المسلم وغير المسلم .
وقد بوب البخاري في صحيحه ، كتاب الهبة ، فقال: باب قبول هدية المشركين ، ثم قال بعدها : " وأهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم ، وقال أبو حميد : أهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء ، وكساه بردا ، وكتب له ببحرهم " .
وعن عبد الرحمن بن عبد القاري رضي الله عنه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية يعني بكتابه معه إليه " , فقبل كتابه ، وأكرم حاطبا وأحسن نزله ، ثم سرحه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " وأهدى له مع حاطب كسوة وبغلة بسرجها وجاريتين ، إحداهما أم إبراهيم ، وأما الأخرى فوهبها لجهم بن قيس العبدري ، فهي أم زكريا بن جهم الذي كان خليفة لعمرو بن العاص على مصر " .[4]
6- عيادة مرضاهم : فعن أنس بن مالك رضي الله عنه , قال : كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده ، فقعد عند رأسه فقال له : " أسلم " ، فنظر إلى أبيه , وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " الحمد لله الذي أنقذه من النار " [5]
وقد عاد عمه المشرك أبو طالب ، فعن سعيد بن المسيب ، عن أبيه أنه أخبره : أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم .... "[6]
7- الاحسان اليهم وصلة الرحم وبر الوالدين المشركين :
ف: ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) [لقمان : 15] ، وهذا في الوالدين المشركين أو أحدهما .
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم مع أبيها، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: " نعم صليها " [7]
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول : " إن آل أبي - يعني فلانا - ليسوا بأوليائي ، إنما وليي الله وصالح المؤمنين ، ولكن لهم رحم أبلها ببلاها " يعني أصلها بصلتها .[8]
ويثاب المسلم على إحسانه إلى غير المسلم ومساعدته ، وله على ذلك أجر ، فقد ذكر الله تعالى من صفات الأبرار الذين هم أهل الجنة : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا ) [الانسان : 8 – 9] .
وقال النووي رحمه الله : "فلو تصدق على فاسق أو على كافر من يهودي أو نصراني أو مجوسي جاز , وكان فيه أجر في الجملة . قال صاحب البيان : قال الصيمري : وكذلك الحربي , ودليل المسألة : قول الله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) ومعلوم أن الأسير حربي"[9]
8- الوصية بالجيران ، ولو كانوا غير مسلمين :
فعن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما زال يوصيني جبريل بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه " [10]
فعن مجاهد ، أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ذُبحت له شاة في أهله ، فلما جاء قال : أهديتم لجارنا اليهودي ؟ أهديتم لجارنا اليهودي ؟ ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " [11]
قال الترمذي : "وفي الباب عن عائشة ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وأنس ، والمقداد بن الأسود ، وعقبة بن عامر ، وأبي شريح ، وأبي أمامة " رضوان الله عليهم جميعا .
وعن أبي شريح رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه" [12] حديث صحيح : أخرجه البخاري في "صحيحه" (6016) ] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا يدخل الجنة ، من لا يأمن جاره بوائقه " [13] حديث صحيح : أخرجه مسلم في "صحيحه" (46) .
قال القرطبي رحمه الله : قلت : وعلى هذا : فالوصية بالجار مأمور بها ، مندوب إليها ، مسلماً كان ، أو كافراً ، وهو الصحيح ، والإحسان قد يكون بمعنى المواساة ، وقد يكون بمعنى حسن العشرة ، وكف الأذى والمحاماة دونه " ، ثم قال بعد أن سرد حديثين مما سبق : " وهذا عام في كل جار ، وقد أكَّد عليه السلام ترك إذايته بقسمه ثلاث مرات ، وأنه لا يؤمن الإيمان الكامل من آذَى جارَه ، فينبغي للمؤمن أن يحذر أذى جاره ، وينتهي عما نهى الله ورسوله عنه ، ويرغب فيما رضياه ، وحضَّا العباد عليه"[14]
9- الدعاء لهم بالهداية إلى الإسلام : فعن أبو هريرة رضي الله عنه قال : قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله إن دوسا عصت وأبت فادع الله عليها ، فقيل هلكت دوس ، فقال صلى الله عليه وسلم : " اللهم اهد دوسا وائت بهم " [15]
10 – لا يكرهون على الدخول في الاسلام : وقد سبق ذكر الآيات في ذلك في المشاركة رقم (5)
11- عدم سب أمواتهم واحترام جنائزهم : فعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا الأموات ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " [16]
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء" [17] وهذا عام في كل الأموات ، المسلم وغير المسلم .
وعن ابن أبي ليلى، أن قيس بن سعد، وسهل بن حنيف، كانا بالقادسية فمرت بهما جنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة، فقام ، فقيل: إنه يهودي، فقال: «أليست نفسا» [18]
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: مر بنا جنازة، فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا به، فقلنا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي، قال: « إذا رأيتم الجنازة ، فقوموا » [19]
وهذا على سبيل المثال ، وليس على سبيل الحصر .
الخلاصة :
الاسلام دين المحبة والعطف والرحمة والعدل ، ولكن ليس معنى هذا أن المحبة تكون للأشياء والمعتقدات الباطلة المبغوضة لله تعالى ، فمثلا أهل العصيان الذين يرتكبون المعاصي من شرب خمر وسرقة وقتل وزنى وظلم وطغيان ، فلا يقول عاقل بأنه يجب على المسلمين محبتهم ، ومحبة أفعالهم لأن الاسلام دين محبة ؟ بالطبع لا ، بل أن نقول أننا يجب أن نحب لهم الهداية وأن ننصحهم بأن يكونوا أناسا صالحين في المجتمع ، ويجب أن يعرفوا ويُعلن لهم أنهم على خطأ وباطل وضلال .
لذا المسلم يكره الكفر والشرك الذي في الآخرين ، ويتبرأ منه لأنه سبب ضلالهم ، واستحقاقهم لعذاب النار ، ويعلن لهم صراحة أنهم على باطل ولا يرضى بكفرهم ، حتى لا يظنوا أنهم على حق ، وأن عقيدتهم سليمة لا فرق بينهم وبين المسلمين ، فالاسلام واضح ولا يقبل المجاملات ، وليس معنى هذا أن يعتدي عليهم أو يظلمهم أو يكرههم على الدخول في الاسلام أو أكل حقوقهم بالباطل أو معاملتهم بسوء خلق ، بل يكون العدل معهم مع البراءة من شركهم ، ويعمل على دعوتهم الى الاسلام ارشادا لهم ، والسعي في تخليصهم من عذاب النار شفقة عليهم ، وهذا واجب شرعي أمر الله عزوجل ، ورسوله صلى الله عليه وسلم به حتى ينجوا في الدنيا والآخرة .
فهذه هي المحبة الحقيقية بمفهومها الصحيح الذي رسخه الاسلام وأقامه ، وهي محبة الهداية لأهل الملل الكافرة ومحبة اخراجهم من الظلمات الى النور والخوف عليهم من خسران الدنيا والآخرة ان ماتوا على كفرهم ، والتي من متطلباتها بغض ما هم عليه من كفر بالله ورسوله .
فكما ترى من النقاط التي فصلتها أن الاسلام لم يعامل غير المسلم كما عاملهم غيره ، ونكتفى بطرح مثالين :
1- سلب حلي الغير بالاستعارة :
كما فعل اليهود حينما سلبوا حلي جيرانهم المصريين تحت مسمى الاستعارة :
الخروج 3
22 بَلْ تَطْلُبُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْ جَارَتِهَا وَمِنْ نَزِيلَةِ بَيْتِهَا أَمْتِعَةَ فِضَّةٍ وَأَمْتِعَةَ ذَهَبٍ وَثِيَابًا، وَتَضَعُونَهَا عَلَى بَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ. فَتسْلِبُونَ الْمِصْرِيِّينَ .
الخروج 12 :
35 وَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِحَسَبِ قَوْلِ مُوسَى. طَلَبُوا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ أَمْتِعَةَ فِضَّةٍ وَأَمْتِعَةَ ذَهَبٍ وَثِيَابًا.
وقد علق الأستاذ محمد عزة دروزة على كلام سفر الخروج قائلا : " ويلفت النظر خاصة الى خبر سلب رجال ونساء بني اسرائيل أمتعة جيرانهم الذهبية والفضية بحالة الاستعارة ونسبة ذلك الى الله تعالى وتنزه ، ومهما كان من أمر فان تسجيل هذا الخبر بهذا الأسلوب يدل على ما كان وظل يتحكم في نفوس بني اسرائيل من فكرة استحلال أموال الغير وسلبها بأية وسيلة ولو لم تكن حالة حرب ودفاع عن النفس كما أنه كان ذا أثر شديد بدون ريب في رسوخ هذا الخلق العجيب في ذراريهم ثم من دخل في دينهم من غير جنسهم " [20]
2- عدم دفن الأب المشرك :
متى 8 :
21 وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: " يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي " .
22 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: " اتْبَعْنِي ، وَدَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ " .
ومثله في لوقا 9 :
59 وَقَالَ لآخَرَ: «اتْبَعْنِي». فَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي" .
60 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ" .
وسأسرد لك كلام المفسرين لكي لا تقول أنني أقول من عندياتي :
يقول القس أنطونيوس فكري : ( الثاني:- هذا الشخص كان يفكر في أن يتبع المسيح لكنه مرتبك ببعض الأمور فلربما كان له والد شيخ وكان ينتظر موته ليدفنه ثم يتبع المسيح . فهو حسن النية مشتاق للتلمذة، لكن عاقته الواجبات العائلية. مثل هذا يشجعه المسيح ليتخذ قراره، لذلك نسمع السيد يقول له اتبعني وهنا يصرح بمشكلته ، فيقول له السيد دع الموتى يدفنون موتاهم = أي دع الموتى روحيًا (الذين يرفضون أن يتبعونني وينتظرون تقسيم الميراث ويتصارعوا عليه) يدفنون الموتى جسديًا . (أي يدفنوا أباك حين يموت بالجسد طبيعيًا). والمسيح هنا لا يدعو للقسوة مع الوالدين، بل معنى قوله أن هناك كثيرين سيقومون بهذا الواجب ولكن اتبعني أنت . ومن شفى حماة بطرس قادر أن يدبر كما قلنا كل احتياجات تلاميذه بما فيها دفن موتاهم . ولربما لو بقى لدفن والده تنطفأ الأشواق المباركة للتلمذة التي كانت داخله ويعوقه العالم. كثيرًا ما منعت العواطف البشرية كثيرين من تبعية المسيح. دعوة المسيح لهذا الشخص تعني أنا أريدك لأعمال أعظم من دفن الموتى. من يريد أن يصير تلميذًا للرب عليه أن يترك أهل العالم يعيشون حياتهم العادية ، أما هو فيكرس نفسه لخدمة الملكوت . فتلميذ المسيح كرس حياته لخدمة الأحياء، ليس لخدمة الموتى، هو بخدمته يقود الناس للحياة وهذا أهم . قطعًا السيد لن يمنعه من دفن والده إذا مات، لكن المقصود عدم التعطل عن الخدمة بسبب التعلقات العاطفية الزائدة، والانشغال بميراث الميت وتقسيمه.. الخ. ومراسيم العزاء اليهودية تمتد لشهور ) .
قلت :فهو يفترض أولا أن والد هذا الشخص لم يمت !!! [ولا أعرف ما دليله والنص واضح]
ويقول بأن هذا الشخص ينتظر موت والده [وهذا في نظري عذر أقبح من الذنب]
ثم يعود ويقول : قطعًا السيد لن يمنعه من دفن والده إذا مات . [وهذا مناقض للنص ، وبناءا على افتراضه الأول ، فجزمه هنا لا أساس له] .
أما القمص تادرس يعقوب ملطي فيخالفه قائلا :
( لعلّ هذا الكاتب كان مشتاقًا أن يتبع السيّد، وكأن العائق هو أباه الذي في سن الشيخوخة، فطلب السيّد منه أن يأذن له أن يبقى مع والده حتى يموت وعندئذ يكرِّس حياته له. طلب السيّد منه أن يترك الأموات حسب الروح أن يدفنوا من يموت حسب الجسد، أمّا هو فيتفرّغ للخدمة. وكأن السيّد أراد أن يميّز بين الأموات حسب الجسد والأموات حسب الروح. خدمة دفن الأموات حسب الجسد أمر سهل يمكن للجميع أن يقوموا به، أمّا ما هو أهم، فهو دفن الأموات حسب الروح مع السيّد المسيح ليقوموا معه، أي خدمة الكرازة بالمسيح المصلوب القائم من الأموات حتى ينعم الأموات بالروح بالقيامة الروحيّة. بمعنى آخر يسأله السيّد ألا يبكي على الميّت حسب الجسد، حتى وإن كان والده، إنّما يبكي على الميّت حسب الروح، وإن كان ليس قريبًا له حسب الدم أو الجنس! ) .
فيعلل الأمر بأن دفن الأب الميت أمر سهل يمكن للجميع أن يقوموا به ، لذا عليه أن يتركه لما هو أهم .
وهنا نسأل : أليس اكرام الميت دفنه ?!! .
فما بال الميت هو الأب (وان كان مشركا) ، وأين وصية العهد القديم والجديد على السواء : "أكرم أباك وأمك" [21] ، أم انها مجرد شعار .
--------------------------
الهوامش :
[1] حديث صحيح : أخرجه البخاري في "صحيحه" (3166) و (6914) .
[2] حديث حسن لذاته : أخرجه أبو داود في "السنن" (3052) ، وابن زنجويه في "الأموال" (621) باسناد حسن ، لأجل أبي صخر المدني وهو صدوق لا بأس به ، وابهام الصحابة لا يضر لأن كلهم عدول ، وابهام ابنائهم يجبره كثرة عددهم .
[3] حديث صحيح : أخرجه البخاري (2585) .
[4] حديث صحيح : أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (2570) ، وقال : " وإنما أدخلنا هذا الحديث في هذا الباب ؛ لأن عبد الرحمن بن عبد القاري ممن ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إنه قد رآه، فدخل بذلك في صحابته صلى الله عليه وسلم " ، ومرسل الصحابي مقبول ] .
[5] حديث صحيح : أخرجه البخاري في "صحيحه" (1356) و (5657) .
[6] متفق عليه : أخرجه البخاري (1360) و (4772) ، ومسلم (24) .
[7] متفق عليه : أخرجه البخاري (3183) و (2620) و (5978) ، ومسلم (1003) .
[8] متفق عليه : أخرجه البخاري في "صحيحه" (5990) ، ومسلم في "صحيحه" (215) .
[9] "المجموع شرح المهذب" (6/237) .
[10] متفق عليه : أخرجه البخاري (6014) ، ومسلم في "صحيحه" (2624) .
[11] حديث صحيح : أخرجه أحمد في "مسنده" (2/160) ، وأبو داود في "السنن" (5152) ، والترمذي في "جامعه" (1943) ] .
[12] حديث صحيح : أخرجه البخاري في "صحيحه" (6016) ] .
[13] حديث صحيح : أخرجه مسلم في "صحيحه" (46) .
[14] "الجامع لأحكام القرآن" (5/184) للقرطبي .
[15] متفق عليه : أخرجه البخاري في "صحيحه" (2937) و (4392) و (6397) ، ومسلم في "صحيحه" (2524) .
[16] حديث صحيح : أخرجه أحمد في "مسنده" (6/180) ، والبخاري (1393) و (6516) ، وابن حبان في "صحيحه" (3021) .
[17] حديث صحيح : أخرجه أحمد في "مسنده" (4/252) ، والترمذي في "جامعه" (1982) ، وابن حبان في "صحيحه" (3022) .
[18] متفق عليه : أخرجه أحمد في "مسنده" (6/6) ، والبخاري في "صحيحه" (1312) ،ومسلم في "صحيحه" (961) .
[19] متفق عليه : أخرجه البخاري في "صحيحه" (1311) ، ومسلم في "صحيحه" (960) .
[20] "تاريخ بني اسرائيل من أسفارهم" ، الجزء الأول ، ص 78 و 79 .
[21] الخروج 20 :12 ، التثنية 5 : 16 ، يشوع بن سيراخ 3 :9 و 7 :29 ، وتأكيدها من العهد الجديد .
المفضلات