البابا شنودة ومظاهراته الحاشدة! بقلم/

البابا شنودة ومظاهراته الحاشدة!

بقلم : سليم عزوز (كاتب وصحفي مصري ) ..منذ صدور حكم المحكمة الإدارية العليا بإلزام البابا شنودة الثالث بابا الكنيسة الأرثوذكسية بالزواج الثاني للمطلقين من أبناء ملته، والكنيسة تعيش حالة من التظاهر المستمر، رفضا للحكم، وتأييدا لموقف البابا، واختبارا لقوة الدولة، وفي كل أزمة يتم التعبير عنها بهذا الشكل، تخضع السلطة في مصر بالقول والفعل، إلى درجة أنها تعاملت مع البابا باعتباره رئيس دولة مجاورة، وسلمته وفاء قسطنطين، زوجة القس التي أعلنت إسلامها.

ليس لي في الأمر من شيء، فهذه واحدة من معارك " مصارين البطن"، وأن الداخل فيها كالداخل بين " البصلة وقشرتها"، وسوف ينتهي الأمر كما هي العادة بتعامل النظام مع مطالب البابا على أنها أوامر، فيرد البابا التحية بأفضل منها، بالتنبيه على رعاياه بانتخاب مرشحي الحزب الحاكم في الانتخابات العامة، وبتأييد الرئيس مبارك في الانتخابات الرئاسية، وهذا ما يحدث عادة، كما يحدث أيضا إعلان التأييد لجمال مبارك بدون طلب من احد، حتى وان كان البيت الرئاسي نفسه لم يحسم أمر قضية " التوريث"، لكنها المبالغة في إظهار الحب العذري!.

في أجواء الأزمة حرص البابا شنودة على أن يعقد مؤتمره الصحفي، وصورة الرئيس مبارك خلفه، في إشارة لا تخطئ العين دلالتها، بل انه أكد أكثر من مرة ثقته في الرئيس مبارك، فهو على يقين من انه سينتصر لمطالب المسيحيين في مواجهة حكم المحكمة الإدارية العليا، الذي جاء مخالفا للإنجيل!.

احد النشطاء المسيحيين شاهدته عبر الشاشة الصغيرة يؤكد على ان البابا شنودة لجأ الى الرئيس باعتباره حكما بين السلطات، وصاحبنا في الأصل والفصل رجل قانون، وسبق له ان عمل قاضيا بمجلس الدولة، وإذا كان الطرف الأول ممثلا في المحكمة الادارية العليا ينتمي الى السلطة القضائية، فما هي السلطة المواجهة لها في موضوع الخصومة، حتى يتم طلب التدخل من الرئيس ليفصل في النزاع، باعتباره حكما بين السلطات بحكم منصبه.

البابا شنودة استوعب الدرس من خصومته مع الرئيس السادات، والتي كانت نتيجتها صدور قراره القاسي بعزل البابا من منصبه، وتعيين لجنة باباوية مشكلة من خمسة من القساوسة لإدارة شؤون الكنيسة، والتحفظ عليه بأحد الأديرة.

ومن نافلة القول، إن محكمة القضاء الإداري رفضت في سنة 1983 دعوى البابا بإلغاء قرار عزله، وقد صدر قرار رئاسي بإعادة تعيينه في سنة 1984، ومن يومها والبابا يقوم بتحييد الرئيس، صحيح ان مبارك ليس هو السادات، لكن من " لسعته الشوربة" لا يلام إذا نفخ في الزبادي، ولاسيما وان قداسة البابا شنودة قد حقق بالتحييد ما لم يحققه بالعناد.. يكفي ان الدولة عاملته كما لو كان رئيس دولة الأقباط ، وأنزلته المنزلة التي يريدها بالتأكيد على انه زعيم سياسي، فهو لا يريد فقط ان يكون الزعيم الروحي للمسيحيين الأرثوذكس، ولكنه يقدم نفسه على انه زعيمهم السياسي أيضا، والرجل في حقيقة الأمر هو كائن سياسي، وفي تقديري انه اذا لم يكن التحق بسلك الرهبنة، لكنا أمام زعامة سياسية، على نفس درجة الزعيم السياسي المسيحي مكرم عبيد.
البابا معجب بمكرم عبيد ويحفظ بعض عباراته، ومن كثرة ترديدها يظن من يسمعونها أنها من إنتاج قداسته، مثل: " ان مصر ليست وطنا نعيش فيه ولكنها وطن يعيش فينا"

قلت ليس لي في الأمر من شيء، لكن ما شغلني في هذه الأزمة المحتدمة، هو اختفاء دعاة الدولة المدنية، ورافعو رايات الليبرالية والعلمانية، في ظروف غامضة، إزاء هذا التطاول على قيم دولة القانون، وإزاء ما يمثل انتهاكا لعرض الليبرالية على قارعة الطريق.. وفي التعريف البسيط للدولة المدنية أنها هي التي تحيل كل أمورها للقانون في حين ان الاخرى هي التي تحيل قضاياها للمفتي والبابا.

هذا غياب تعودنا عليه، وتمييز في المواقف بات معلوما للكافة، فيرفض احد الممثلين اعتراض الأزهر مثلا على عمل فني، باعتبار ان هذا ليس من اختصاصه، في وقت يهرع فيه الى البابا ليحصل على موافقته على فيلم له فيه مشاهد لمسيحي أو قس!.

ينفر القوم خفافا وثقالا، ويغدون خماصا وبطانا، عندما تتدخل قوى، او جهة إسلامية في أمر من أمور السياسة، ويعلنون ان هذا تعد على قيم الدولة المدنية، في الوقت الذي يضعون فيه ألسنتهم في أفواههم، في مواجهة التطاول على حكم قضائي، لم يخالف القانون، ولم يخترع هذا القانون الذي احتكم إليه، فضلا عما يمثله رفض الانصياع لهذا الحكم من الجور على حق من حقوق الإنسان.. يقول البعض ان مشكلة الزواج الثاني يشكو منها 4 آلاف مطلق في قول، و 20 ألفا في قول، و 50 ألفا حسب تصريحات الأنبا مكسيموس، ومهما يكن العدد فنحن أمام مشكلة يعاني مها الآلاف، ولسنا أمام حالة فردية نطالب صاحبها بالصبر على المكاره.

لقد اختفى الكتاب والأدباء، الذين يصدعون رؤوسنا بدفاعهم عن حرية الرأي، حتى وان وصلت الى حد التطاول على الذات الإلهية.. كما اختفت منظمات المجتمع المدني، واختفت الدولة المدنية، وظهرت دولة الكنيسة، لكن على ما يبدو ان هؤلاء الذين اختفوا ليبراليون عندما يكون الأمر في مواجهة دعاة الدولة الدينية من الإسلاميين، لكن عندما يظهر البابا شنودة تخرس الالسنة.

مع ان خضوع الدولة هنا لثورة الثائرين، من شأنه ان يكون على حساب هؤلاء المطلقين، وأيضا اذا قبلنا بأن يكون الموقف الديني هو السيد، فإننا سوف ننصف عقيدة في مواجهة عقائد أخرى، وكنيسة في مواجهة كنائس أخرى، فليس كل المسيحيين أرثوذكسا، وليس كل الكنائس تابعة للبابا شنودة، فإذا تمت الاستجابة لثورة أتباعه، فان هذا سيكون على حساب المعتقد الديني للكاثوليك والإنجيليين، وإذا كانت الشكوى من اضطهاد الأغلبية للأقليات، فنحن هنا سنشاهد اضطهادا من نوع آخر، هو اضطهاد الأقلية، لأقلية الأقلية.

المحكمة الإدارية العليا، ومن قبلها محكمة القضاء الإداري، هي جهة قضائية، يخضع لها كل المصريين، وهي ليست جهة تابعة للأزهر مثلا، ففصلت بعقيدته في شان من شؤون عقيدة أخرى، ولم تكن المحكمة الأولى والثانية قد حكمت بمقتضى قانون الأحوال الشخصية للمسلمين، ولكنها التزمت في حكمها بلائحة سنة 1938، الخاصة بالأحوال الشخصية للمسيحيين.. والتي يقال ان الذين وضعوها ينتمون الى المذهب الأرثوذكسي فقط، ولا شأن للمحكمة بان البابا شنودة له آراء مخالفة لهذه اللائحة التي وضعها المجلس الملي، الذي كانت له سلطة التشريع وقتها، والذي يرأسه البابا.

هذا فضلا عن ان المحكمة ( الأولى والثانية) كانت تنظر في دعوى رفعها احد المسيحيين المطلقين، والذي يعاني الأمرين، من جراء تعنت الكنيسة في مواجهة حقه الطبيعي في الزواج وتكوين أسرة.

لقد تم التطاول على حكم المحكمة الإدارية العليا، وتصرف البابا على انه اكبر من ان يواجه بحكم قضائي ( قد يصدر في مواجهة رئيس الدولة)، مع ان قداسته هو من طعن في حكم أول درجة الصادر من محكمة القضاء الإداري، بإلزامه بالسماح للمدعي بالزواج الثاني، وكانت المحكمة العليا تنظر في طعن البابا نفسه، لكن عندما صدر على غير ما تهوى الأنفس احتشد أتباعه يهتفون ضد الحكم على أساس ان البابا اكبر من أحكام القضاء.. وهتف القوم: لا أحكام ولا قانون الإنجيل هو الدستور. ومع هذا خرس دعاة دولة الدولة المدنية إزاء هذا التعدي على قيمها.

ليس هذا هو الحكم الوحيد الذي صدر بإلزام البابا بتزويج مطلق، والذي كان بامكانه ان يتجاهله ويا دار ما دخلك شر، فالحكومة نفسها لا تنفذ كثيرا من الأحكام التي تصدرها محاكم مجلس الدولة، وتتعامل معها على أنها مقالات رأي، وكأنها صدرت للاسترشاد، ولا أظن ان البابا قد انصاع للأحكام السابقة في هذا الأمر، فما الذي جعله الآن يمارس العصيان العلني، ويحشد أتباعه حوله، ويطلب تدخل الرئيس بصفته الحكم بين السلطات ؟!

المسألة وما فيها، ان البابا يعلم ان ما لا يؤخذ في هذه الأيام لن يؤخذ مستقبلا، فقد صدر الحكم في 29 مايو، قبل أيام من انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى، وفي شهر أكتوبر ستجرى انتخابات مجلس الشعب، وسيشهد العام القادم انتخابات الرئاسة فالمحليات، هي أيام مفترجة إذن، وبالتالي فالضغط، وإظهار العين الحمراء، من شأنه ان يعجل بقانون الأحوال الشخصية الموحد للمسيحيين، والذي سيمكن الكنيسة الأرثوذكسية من ان تنتصر على الكنائس الاخرى، وفي الواقع فان البابا مشكلته مع الكنائس الاخرى وليس مع الدولة.

هناك خلاف حول هذا القانون، ولكن بالضغط الأرثوذكسي، وفي غياب ضغط الآخرين، سيتم إقرار القانون الموحد، وقد قرر وزير العدل مؤخرا تشكيل لجنة لهذا الهدف حدد لها شهرا للانتهاء من أعمالها، ويكون ثمن هذا ان يواصل البابا إصدار تعليماته لأتباعه بأن يصوتوا لصالح مرشحي الحزب الحاكم، ولو كان منافسهم مسيحيا ترشح مستقلا او على قوائم حزب معارض.

في سنة 1995 أجريت حوارا مع البابا شنودة، نشرته جريدة " السفير" اللبنانية، قال فيه ان المشكلة التي تحول دون إقرار قانون الأحوال الشخصية الموحد يرجع الى خلاف بين الكنائس.. فالبروتستانت يقولون بعشرة أسباب موجبة للطلاق، والأرثوذكس لا يعترفون إلا بعلة الزنا، والكاثوليك يرفضون الطلاق ولو لعلة الزنا.

وتجدر الإشارة إلى ان البروتستانت ( الإنجيليين)، ينحازون للائحة 38 التي وضعها المجلس الملي للأقباط الأرثوذكس التي تبيح الطلاق لعشرة أسباب: أولها علة الزنا، وثانيها إذا خرج احد الزوجين عن الدين المسيحي، وثالثها إذا حكم على احد الزوجين بعقوبة الأشغال الشاقة أو السجن او الحبس لمدة سبع سنوات، ورابعها إذا جن احد الزوجين، وخامسها اذا أصيب الزوج بالعنة، وسادسها اذا غاب احد الزوجين خمس سنوات متوالية بحيث لا يعلم مقره ولا تعلم حياته من مماته، وسابعها إذا اعتدى احد الزوجين على حياة الآخر أو اعتاد إيذاءه، وثامنها إذا ساء سلوك احد الزوجين وفسدت أخلاقه وانغمس في حياة الرذيلة، وتاسعها اذا ترهبن احد الزوجين. كما يجوز طلب الطلاق إذا أساء احد الزوجين معاشرة الآخر أو اخل بواجباته إخلالا جسيما.
ان البابا لا يواجه دولة رخوة فحسب، ولكنه أيضا يواجه مجتمعا مدنيا أكثر رخاوة.. وسلامي الحار الى الدولة المدنية.. والسلام أمانة!.

http://www.raya.com/site/topics/arti...4&parent_id=23

hgfhfh ak,]m ,l/hivhji hgpha]m! frglL sgdl u.,.