عظيمٌ أمره الحقُّ، فهو منتهى الشرف في الطلب، فأيُّ شرف أعظم من البحث عن الحقّ، وأيُّ مكرمة خير من الظفر بالحقِّ، ولِيَ الحقُّ في القول: ومن أحسنُ عملا ممن بحث عن الحقِّ، فظفر به ودعا إليه، والحقُّ من وراء القصد.
بَيْدَ أنَّه لا بدَّ من معرفة (العقل) أو (الفكر) أو (الإدراك) أو (الوعي) قبل الولوج في طلب الحق؛ ذلك أنَّ العقل هو صمام الأمان من الزيغ والضلال، وهو أداة التنقيب والمفارقة؛ فبسببه انماز الإنسان وامتاز، وارتفع عن سائر الكائنات، وتربع على عرش الكون في السيادة والريادة، فلا بدَّ من الوقوف عليه_ أي العقل _؛ لنضمن السير في المركب، مركبِ التنقيب عن الحقيقة مطمئنين إلى الوصول لبَرِّ الأمان.
الأجيال المتعاقبة تعاقبت على تعريف (الفكر) ما هو، سواء أكانوا مؤمنين أم ملحدين؛ أمَّا في العصر القديم، فلم ترقَ محاولاتهم للذكر، وأمَّا في العصر الحديث، فقد أجاد الشيوعيون في محاولة تعريف العقل، فكانت محاولتهم تستحق المناقشة، فقد ارتفعت إلى مستوى النظر: فهم بدأوا البحث في الواقع والفكر فقالوا: آلفكر وجد قبل الواقع أم أن الواقع وجد قبل الفكر، وكان الفكر نتيجة للواقع؟ وقد اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: إن الفكر وجد قبل الواقع، ومنهم من قال: إن الواقع وجد قبل الفكر، واستقر رأيهم النهائي على أن الواقع وجد قبل الفكر.
وعليه، وصلوا إلى تعريف الفكر، فقالوا:" إن الفكر هو انعكاس الواقع على الدماغ". فتكون معرفتهم لواقع الفكر (العقل) هو أنه: واقع، ودماغ، وعملية انعكاس لهذا الواقع على الدماغ. فالفكر هو نتيجة لانعكاس الواقع على الدماغ. هذا هو رأيهم، وهو رأي يدل على بحث صحيح، ويدل على محاولة جادة، وعلى قرب من الحقيقة.
المأخذ الأول: هل ثمَّة انعكاس؟
يرى الشيوعيون أنَّ ثمَّة انعكاسًا ينتج عنه الوعي, وهذا الانعكاس يحصل في الدماغ, وهم يرون الدماغ يعكس المادة فيه, وبالتالي ينتج الوعي. والحقُّ الذي نجزم به أنَّه ليس ثمَّة انعكاس بين المادة والدماغ ينتج عنه وعي, بل الذي يحصل هو إحساس, وشتَّان بين الحس والانعكاس.
مسألة الانعكاس لا تحصل؛ فلا الدماغ ينعكس على المادة، ولا المادة تنعكس على الدماغ؛ لأن الانعكاس يحتاج إلى وجود قابلية الانعكاس في الشيء الذي يعكس الأشياء كالمرآة، فإنها تحتاج إلى قابلية الانعكاس عليها، وهذا غير موجود، لا في الدماغ، ولا في الواقع المادي. ولذلك لا يوجد انعكاس بين المادة والدماغ مطلقاً، لأن المادة لا تنعكس على الدماغ، ولا تنتقل إليه كما يزعم ماركس: (بعد أن انتقلت إلى دماغ الإنسان). بل الذي ينتقل هو الإحساس بالمادة إلى الدماغ بواسطة الحواس, أي إن الحواس هي التي تحس المادة، بأية حاسة من الحواس، فينقل هذا الحس إلى الدماغ فينتج الوعي.
والحواس الخمس هي: اللمس, والذوق, والشم, والسمع, والرؤية. ونقل الإحساس بالمادة إلى الدماغ ليس انعكاساً للمادة على الدماغ، ولا انعكاساً للدماغ على المادة، وإنما هو حس بالمادة، ولا فرق في ذلك بين العين وغيرها من الحواس، فيحصل من اللمس، والشم، والذوق، والسمع، إحساس كما يحصل من الإبصار. إذن, فما تقوم به الحواس من نقل الحس للدماغ ليس انعكاسا, فالإنسان يحس بالأشياء بواسطة حواسه الخمس، ولا تعكس على دماغه الأشياء.
المأخذ الثاني: إهمال المعلومات السابقة التي تفسر الواقع (المادة).
يرى الشيوعيون أنَّ (الوعي ما هو إلا انعكاس للفضاء المادّي المحيط بالإنسان), وتعريفهم للوعي صريح في أن إنتاج الوعي ليس بحاجة إلى أكثر من انعكاس للمادة, وهذا مخالف للواقع والحقيقة, وبيان هذا في أسطر تلي هذا:
إن كان الوعي يحصل بمعزل عن المعلومات السابقة, فكيف يمكننا تفسير هذا: لا يستطيع الإنسان فهم لغة ما قبل أن تحصل لديه معلومات عنها. إن كان الوعي هو حصول الانعكاس للمادة, فلماذا لا نفهم اللغات من فرنسية وصينية وفارسية...إلخ, وقد حصل الانعكاس حسب رأيهم؟! ولو جئنا بفتى أدغال, وقلنا له: ما هذه العناصر, ومما تتكون؟ فإنه لا إجابة لديه قبل أن يشرح له ذلك الكيميائيون.
وعليه, فقد ظهر جليًّا لكلِّ ذي لبٍّ فساد هذا التعريف للوعي عندما ترك وراءه المعلومات التي تفسر الواقع المحسوس, فما هور تعريف الفكر الذي ينطبق على الواقع؟
الفكر: هو حكم على واقع. والحكم على واقع ما ما هو لا يحصل قبل تحقق أربعة أركان: اثنان من الإنسان نفسه, واثنان من غيره. فأمَّا اللذان من الإنسان, فهما: دماغ صالح للربط فيه خاصية العقل, والحواس الخمس. وأمَّا اللذان من غيره, فهما: الواقع (المادة), ومعلومات تفسر هذا الواقع.
أمَّا الدماغ, فلا بدَّ من أن يكون صالحًا للربط, أي فيه خاصية العقل؛ لأنَّه أداة التفكير, فإن كان غير ذلك, فلا فرق بينه وبين دماغ الأنعام. وأمَّا الحواس, فهي التي تنقل الحس بالمادة للدماغ, ومن دون الحواس لا يحصل الوعي؛ فمثلا: لا يستطيع الأعمى أن يعقل ما حوله من حيث الألوان والأشكال, أي عندما فقد حاسة الإبصار, لم يعد قادرًا على إنتاج الوعي, أي لا يستطيع الحكم على سيارة ما ما لونها وما شكلها؟ والأطرش لا يستطيع أن يعقل الأصوات ودلالاتها؛ لأنَّ الصورة الصوتية لم تنتقل للدماغ بفقد حاسة السمع, وهكذا هلمَّ جرا. وأمَّا الواقع (المادة), فإنَّه لا يمكن أن يحصل من دونها وعي؛ فالوعي مرتبط به ارتباطًا وثيقًا, وهذه نتفق عليها. والواقع هو كلُّ شيء تدركه حاسة أو أكثر. وأمَّا المعلومات التي تفسر الواقع, فلا بدَّ منها لإصدار الحكم, أي حتى ينتج الوعي. ومن الإستحالة حصول الوعي من دون معلومات سابقة, وأرجو الفصل بين الوعي وبين الاهتداء الغريزي؛ فالأمور الغريزية مفطورة في الإنسان والحيوان على حدٍّ سواء؛ فلا الطفل بحاجة لمعلومات حتى يرضع, ولا الأنعام بحاجة إلى معلومات حتى تعلم ضرورة الأكل أو تدرك العلاقة الجنسية, فهذه كلها أمور تصدر عن الغريزة, ولا تمتُّ إلى الوعي بصلة.
وعليه, فالفكر هو الحكم على واقع, وهو ينتج عن عملية عقلية تقوم من خلالها الحواس بنقل الحس بالواقع إلى الدماغ الصالح للربط مع وجود معلومات سابقة تفسر هذا الواقع, أي تصدر عليه حكما.
والآن، آن الأوان لنغذَّ السير في طلب الحق والحقيقة، الحقيقة التي طالما اعترتها مرورة لا يحصل الشفاء إلا بها، وقد قيل: إنَّ الحقَّ لم يجعل لعمر صاحبا. ولله درُّ الحسن:
الْحق أَبْلَج لا تزيغُ سَبيله ... وَالْحق يعرفهُ ذَوُو الْأَلْبَابوبما أنَّ الحق أبلج، وطريق الصدق منهج، ومسلك الباطل أعوج، فلا بدَّ من أسس قويمة يأتم الهداة بها ليطمئنُّوا إلى الظفر بالحقيقة كاملة بيضاء نقية، لا منقوصة ولا مذمومة، وأهمُّ هذه الأسس التي يقرُّها العقلاء، ويرتضيها ذوو الألباب هي:
1. الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع، وليست هي ما نفترضه أو نتوهمه. فمن قال: إنَّ الحق هو وجود خالق، قلنا له: أيؤيد ذلك الواقعُ أم يرفضه، أي: ما هي أدلتك على قولك؟
2. الالتزام بالطريقة الصحيحة في التفكير، وهي الطريقة العقلية، أي: نقل الحس بالواقع عن طريق حاسة أو أكثر إلى الدماغ مع وجود معلومات سابقة تفسر هذا الواقع. وعليه، فلا نبحث إلا فيما يقع عليه حِسُّنا المتمثل بالحواس الخمس، وهي: اللمس، والشم، والذوق، والرؤية، والسمع.
3. التخلي عن كلِّ رأي سابق أو إيمان سابق؛ لأنَّ هذه الآراء أو تلك العقائد تفسد البحث، وتحرف البوصلة.
4. الوصول للحقائق عن طريق التفكير، لا أن نفترض فرضية ثم نبحث عما يؤيدها. فمن الخطأ أن نفترض أن الوجود لا يخرج عن خالق ومخلوق، ومن الخطأ أن نفترض أن المادة أزلية، لكن لا ضير من الوصول إلى إحداهما عن طريق التفكير؛ لأنَّ الفرضية من عوامل التغشية وإلباس الحقِّ بالباطل.
5. الانطلاق من الأصول لا الفروع؛ لأنَّ الفرع مبني على الأصل. فمثلا، يكفي هدم عقيدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) لهدم الإسلام، ويكفي هدم عقيدة (لا إله والحياة مادة) لنسف المبدأ الاشتراكي، ولا يجب الغوص في التفاصيل. فمن الخطأ أن نبحث في أفعال نبي الإسلام محمد_ صلى الله عليه وسلم _لنهدم نبوته، بل يكفي أن نبطل إعجاز القرآن لنبطل نبوته؛ لأنَّ أفعال النبي تفهم في ضوء الإيمان به غير الفهم في ضوء الكفر به. ومن الخطأ أن نبحث في إعجاز القرآن قبل البحث في وجود خالق من عدمه. وهكذا دواليك.hgsfdg Ygn hgpr
المفضلات