بسم الله الرحمن الرحيم

إن من أبغض أخلاق المرء وصفاته أن يكون ذا وجهين أو ذا لسانين، حيث يقابلك بوجه طليق ويعطيك لساناً حلواً ثم تدبر عنه فيطعنك في ظهرك ويتكلم عليك كلاماً قبيحاً سيئاً، وفيه يقول الشاعر:

لا خير في ود امرىء متلـــون
حلو اللسان وقلبه يتلهـــــب

يلقاك يقسم أنه بك واثـــــق
وإذا توارى عنك فهو العقــرب

يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلـب

من صفات ذي الوجهين أن يلعب على جميع الحبال، فهو كالحرباء يتلون في معاملته مع الآخرين، فيخاطب هؤلاء بلغة، وهؤلاء بلغة أخرى، ولا يكون صادقاً ولا مخلصاً ولا نقي السريرة في معاملته هذه، وإنما هدفه المصلحة الذاتية، لذا يلجأ إلى النفاق والكذب والخداع والمراوغة.

عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة ". (1)

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " تجد من شر الناس يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث وهؤلاء بحديث " (متفق عليه).

وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: " لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً عند الله ".

إن الرجل إذا دخل على متعاديين، وجامل كل واحد منهما وكان صادقاً لم يكن منافقاً ولا ذا لسانين، فإن الواحد قد يصادق متعاديين.

ولكن لو نقل كلام كل واحد منهما إلى الآخر فهو ذو لسانين، وهو شر من النميمة، إذ يصير نماماً بأن ينقل من أحد الجانبين فقط، فإذا نقل من الجانبين فهو شر من النمام.

وإن لم ينقل كلاماً، ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه فهذا ذو لسانين، وكذلك إذا وعد كل واحد منهما بأن ينصره، أو أثنى على أحدهما فإذا خرج من عنده ذمه فهو ذو لسانين. إنه ينبغي على المسلم أن يسكت أو يثني على المحق من المتعاديين في غيبته وفي حضوره.

قيل لابن عمر - رضي الله عنه -: " إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره، فقال: " كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رواه الطبراني).

فلو استغنى الإنسان عن الدخول على الظلمة، ولكن إذا دخل يخاف إن لم يمدح بغير الحق أن يلحقه أذى فمدح بغير الحق فهو نفاق، لأنه هو الذي أحوج نفسه إلى ذلك. وإن كان مستغنياً عن الدخول لو قنع بالقليل، وترك المال والجاه، فدخل لضرورة الجاه والغنى،، أثنى عليه بما لا يستحق فهو ذو وجهين.

وأما إذا ابتلي بالدخول على الظالمين لضرورة، وخاف إن لم يثن فهو معذور، فإن اتقان الشر جائز. قال أبو الدرداء، - رضي الله عنه -: " إنا لنكشر(2) في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم".

وقالت عائشة - رضي الله عنها -: استأذن رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " ائذبوا له، فبئس رجل العشيرة، هو "، ثم دخل أَلان له القول " فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت فيه ما قلت ثم ألنت له القول، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " يا عائشة إن شر الناس الذي يكرم أتقاء شره " (متفق عليه).

إن الحديث السالف الذكر ورد في الإقبال والتبسم، أما الثناء بغير الحق فهو كذب ولا يجوز إلا لضرورة أو إكراه، بل لا يجوز الثناء ولا التصديق ولا تحريك الرأس في معرض التقرير على كل كلام باطل، بل ينبغي أن ينكر بلسانه فإن لم يستطع ينكر بقلبه. (3)

إن صاحب اللسانين مذموم عند الناس، وسرعان ما يكتشف أمره ويفتضح بينهم، وقد قالوا في الأمثال: " حبل الكذب قصير " وقديماً قال الشاعر:

ومهما تكن عند امرىء من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم

إن الإنسان العاقل هو الذي يخطط للمستقبل، وينظر إلى الأمام، ويعلم أنه لا يصح إلا الصحيح، وأنه إن كسب محبة الآخرين بالنفاق والمراوغة والتعامل بلسانين، فإن هذه المحبة لا يمكن أن تدوم لأنها لم تبن على أساس سليم. وصدق الله - تعالى - حينما قال: " أفمن أسّس بُنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين " (التوبة: الآية 109).

وأخيراً نود أن نؤكد على أن التعامل بوجهين أو بلسانين يختلف عن القاعدة السالفة الذكر وهو التكيف والمرونة ومخاطبة الناس كل وفق ما يحب، فالتعامل بوجهين فيه كذب ونفاق ومكر وخديعة، في حين أن تلك الصفات السيئة لا توجد في قاعدة التكيف والمرونة.

_________________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود بسند حسن.
(2) لنكشر: أي نبتسم ونضحك.
(3) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 3، دار قتيبة، بيروت، 1992، ص 232-233.

d;td; ,[ihW ,hp]hW