لم أقرأ لأحد قولا شافيا في فلسفة الصوم وحكمته، أما منفعته للجسم، وأنه نوع من الطب له، وباب من السياسة في تدبيره؛ فقد فرغ الأطباء من تحقيق القول في ذلك؛ وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبة تؤخذ في كل سنة مرة لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم؛ ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملة على استمرار لفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدل النفس على تغير الحوادث وتبدلها، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق.
من معجزات القرآن الكريم أنه يدخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن، حقائق غير معروفة لكل زمن، فيجليها لوقتها حين يضج الزمان العلمي في متاهته وحيرته، فيشغب على التاريخ وأهله مستخفا بالأديان، ويذهب يتتبع الحقائق، ويستقصي في فنون المعرفة، ليستخلص من بين كفر وإيمان دينا طبيعيا سائغًا، يتناول الحياة أول ما يتناول فيضبطها بأسرار العلم، ويوجهها بالعلم إلى غايتها الصحيحة، ويضاعف قواها بأساليبه الطبيعية، ليحقق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمها المذاهب الاجتماعية ولم يهتد إليها مذهب منها ولا قاربها؛ فما برحت سعادة الاجتماع كالتجربة العلمية بين يدي علمائها؛ لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهب كعقارب الساعة في دورتها؛ تبدأ من حيث تبدأ ثم لا تنتهي إلا إلى حيث تبدأ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ

* كتبها في شهر رمضان سنة 1353 هـ ، وانظر " عود على بدء " من كتابنا " حياة الرافعي " .
قلت [ أبو عبد الله ] : هذا من كلام محمد سعيد العريان رحمه الله محقق الكتاب ، فما يأتي في الحاشية مميزاً بهذه العلامة ( * ) فهو من كلام العريان ، أم ما يأتي مرقماً فهو من كلام الرافعي نفسه رحمه الله .


tgstm hgwdhl >> ggvhtud >