ماذا بعد أحداث الإسكندرية؟
بقلم: شريف عبدالعزيز

في مثل هذه الأجواء المحتقنة والأوضاع الملتهبة، يسهل جدا توجيه الاتهامات، وصب اللعنات، وحشد المظاهرات، وإلهاب المشاعر، وتأجيج العواطف، وإثارة الغاضبين وشحن الموتورين، تماماً مثلما يسهل تقديم التنازلات، والمسارعة بالاعتذارات، وتدبيج المقالات، في مثل هذه الأجواء يسهل الكلام ويمتلك الكثيرون من المسئولين وغيرهم توجيه الكثير من عبارات التهدئة والمواساة والإنكار والشجب والإدانة، ويسهل تقاطر الوفود المعزية والمواسية، كما تسهل الحلول الكلامية، والإجراءات الاستعراضية، والمبادرات الشكلية، والفرضيات النظرية، ويبقي دائماً الجزء الأصعب والإجراء الأهم، وهي الحلول العملية والتي عادة ما تكون غائبة عن كل نازلة تنزل بأرض مصرنا الغالية.

نحن قد سأمنا وسأم الشعب كله مسلميه وأقباطه من هذه الردود الباهتة والإجراءات السطحية واللقاءات التليفزيونية التي تستدعي من ذاكرة الأحداث المتخمة بأشباه هذه المواقف مع كل أزمة طائفية أو مشكلة عامة تنزل ببر مصر، وهذه المرة تحديداً وبالأخص لا ينفع فيها أمثال هذه المسكنات السطحية والحلول الباردة، كما لا ينفع أيضا سياسة الترضيات وتقديم التنازلات، فالقضية ليست بناء عشرة أو عشرين كنيسة، أو تعيين قبطي في عمادة كلية أو رئاسة جامعة أو في منصب أمني أو سيادي، إلي آخر هذه اللائحة المحفوظة من خطوات تعتزم الحكومة القيام بها من أجل امتصاص غضب الأقباط ومن ورائهم، فمصر اليوم أمام اختبار لم تشهده من قبل، أمام حادثة دلالاتها وآثارها أكبر من تفجير كنيسة أو مصرع وإصابة العشرات، وهذا لا يعني أننا نقلل من حجم الكارثة أو فداحتها، بل هي نازلة بكل معني الكلمة، فهي ليست تفجير كنيسة بل تفجير وطن، وكان لازماً علي مصر أن تتخذ عدة إجراءات حاسمة وعملية علي طريق مواجهة أمثال هذه النوازل التي تقصم الظهر وتصب النار علي الزيت، بدون أمثال هذه الخطوات والإجراءات ستظل مصر هدفاً سهلاً للعديد من هذه الكوارث والحوادث، لذلك يتوجب علي مصر في المرحلة القادمة ما يلي:




أولاً: معرفة أسباب الكارثة:
التركيز علي معرفة الجاني أمر هام جداً، ولكن الأهم منه معرفة دواعي الجناة للإقدام علي مثل هذا العمل الشنيع الإجرامي، فمن اليسير جداً إلقاء اللوم علي جهة ما، والهروب من كل مشكلة بنفس الطريقة، وأولي خطوات علاج الدواء، معرفة أسباب الداء، وأهم استحقاقات تلك الكارثة، دعوة كل الأطراف المعنية بأمن وسلامة واستقرار البلاد للجلوس علي مائدة واحدة في حوار مفتوح يكون الحديث فيه صريحاً وواضحاً، توضع فيه النقاط علي الحروف، بمنتهى الحيادية والإنصاف والشفافية، دون استصحاب محاذير وخطوط حمراء مسبقة تعيق الحوار الوطني الذي يصل بالبلاد لبر الأمان، بعيداً عن أمواج الفتن العاتية التي تكاد أن يغرق فيها الجميع، لأننا أمام مخطط تقسيم يعاد تصنيعه واستنساخه، مستورد من جنوب السودان، ولا يخفي علي أحد الأثر الواسع الذي ستحدثه نتائج استفتاء التاسع من يناير، وخصوصاً نحو إحياء آمال الحالمين بدولة مستقلة للأقباط في الجنوب علي غرار شقيقتها السودانية.


ومن أهم الأسباب المسكوت عنها في تلك الكارثة إحساس كثير من المصريين بأن الكنيسة المصرية في ظل زعامة شنودة قد أصبحت دولة مستقلة داخل الدولة، دولة بكل ما تعنيه الكلمة من نفوذ وسيادة، لا ينقصها سوى رفع العلم ونظم النشيد، وتبادل السفراء، فالكنيسة ورأسها شنودة في هذا العام تحديداً قد تبنت العديد من المواقف التي كرست مفهوم الاستقلال، من رفض أحكام القضاء، وتحدي الأحكام الصادرة منه، واحتجاز المسلمات الجدد، والاعتكاف المتكرر من البابا للضغط علي الحكومة، ومن تخزين السلاح في الكنائس، ونشاط أقباط المهجر المريب وعلاقته بأقباط الداخل، والمصادمات شبه الدورية بين الأقباط والمسلمين وقوات الأمن، وأخطرها بروز فكرة المليشيات القبطية المسلحة والتي تجلت بصورة نظامية مذهلة في أحداث كنيسة العمرانية، كل هذه الأحداث المتلاحقة أوجدت في الشعور الجمعي للمصريين حالة من الكراهية الشديدة لتلك الممارسات، ونوعاً متقدماً من الاحتقان الطائفي المكتوم، تولدت عنه عشرات التجليات، التي أسهمت في رفع وتيرة الأزمة، مما سهل مهمة المتربصين بأمن وسلامة مصر، وسهل علي الإرهابيين مهمة سكب النار علي الزيت وإشعال فتيل الفتنة الطائفية، وهو فتيل إذا اشتعل سيكون إطفاءه غاية في الصعوبة، ولا ينتزع إلا بأرواح ودماء الكثيرين.

ثانياً: الرد القوي:

مصر اليوم وقبل كل شيء في أشد ما تكون للرد القوي الذي يحفظ لها هيبتها وتستعيد به سيادتها وسيطرتها الداخلية ومكانتها الخارجية، فالبلاد تعيش من فترة ليست بالقصيرة تراجعات ظاهرة علي شتى الأصعدة، أبرزها علي المستوي السياسي والاجتماعي، ناهيك عن المستوي الاقتصادي المتدهور منذ سنوات طويلة، مصر صاحبة الثقل التاريخي والاستراتيجي والديمغرافي أصبحت في الآونة الأخيرة، مثل قطعة الجبن الرومي المليئة بالثقوب والاختراقات والمشاكل، فشبكات تجسس إسرائيلية وأخرى غربية ترتع في بلادنا منذ سنين دون حساب ولا عقاب، وعملاء للحرس الثوري ينشرون التشيع ويروجون له في المدن الجديدة، وهواتف كبار المسئولين ومحادثاتهم الخطيرة والهامة علي أجهزة التصنت الأجنبية، والأزمات الواحدة تلو الأخرى، من أزمة بدو سيناء لأزمة مياه نهر النيل، ومن أزمة بيع الغاز، لأزمة كرة القدم مع الجزائر، ومن أزمة أقباط المهجر لأزمة أقباط الداخل.

مصر تحتاج أن ترد علي الأطراف التي تعبث بأمنها وتستهتر بمكانتها وقيمتها، ترد علي كل أعدائها بإجراءات حاسمة وقوية تضع بها كل طرف في حجمه الطبيعي، في حاجة لأن تلزم الجميع بقوة القانون، فلا أحد فوق هيبة الدولة وسيادتها، في حاجة لأن توقف كل المتطاولين والعابثين والمفسدين، في حاجة لأن تشعر الجميع بمعني سيادة الدولة وقوة سيطرتها، في حاجة للقضاء علي بؤر التوتر والأصوات الناعقة في ظلام الفتنة مهما كانت أسماءهم ومناصبهم، في حاجة لردع الموساد الإسرائيلي بخطوات عملية، أدناها فتح المعابر وتخفيف قبضة الحصار، وفي حاجة لردع أقباط المهجر بسحب الجنسية عنهم لخطورتهم وتهديدهم لأمن البلاد، مثلما فعلت الكويت مع الخبيث شاتم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، في حاجة لتشديد العقوبات الجنائية في حق اللاعبين بنار الفتنة ومزدري الأديان من المتطرفين والحاقدين من أي طرف كان ،في حاجة لمصالحة سياسية يتجاوز بها أزمة الانتخابات الهزيلة التي أجريت في الأيام الفائتة والتي أساءت كثيرا لسمعة البلاد، وتركتها فريسة لسهام النقد من هنا وهناك، في حاجة لردع المزايدين علي المواقف المصرية، والنافخين في أور أزماتها، خصوصاً بابا الفاتيكان حامي مغتصبي الأطفال والمستر علي الشواذ والمنحرفين من قساوسته ورهبانه، والذي أصبح يمارس دوراً تحريضياً مفضوحاً في كل أزمة من أجل هدف واحد وهو استعداء القوي الخارجية علي التدخل في شؤون مصر وربما احتلالها لو تطلب الأمر، تماماً مثلما فعل جده وسلفه الغابر البابا أوربان الثاني سنة 1085 عندما أطلق شرارة الحروب الصليبية بدعوي إنقاذ المسيحيين في الشام من اضطهاد المسلمين لهم، مصر في حاجة لرد قوي وسريع علي كل هؤلاء كي لا يطول الأمر، ونري أمثال تلك الكوارث مرة أخرى.

ثالثاً: إعادة صياغة مفهوم الأمن القومي:

لا شك أن هذه الأزمة قد نالت من هيبة قوى الأمن المصرية وهزت مكانتها وضربت كفاءتها في مقتل، وهي القوى التي تفخر بما أنجزته خلال الـ 14 سنة من تفكيك الجماعات المسلحة فكرياً وتنظيماً وعسكرياً، ولكنها اليوم تنال ضربة شديدة تشبه لحد كبير نفس الضربة التي أطاحت بوزير الداخلية السابق حسن الألفي سنة 1996، وهي حادثة قتل السياح بالأقصر، فكل البوادر كانت تشير أن ثمة عمل كبير سيقع في مصر والإسكندرية تحديداً في هذا التوقيت، فتهديد القاعدة قبل عدة أسابيع باستهداف الكنائس في مصر والعراق، وبيان علي المواقع التابعة للقاعدة منذ أسبوعين بتحديد الهدف في الإسكندرية، ورصيد تجربة بما وقع في احتفالات عيد الميلاد بنجع حمادي قبل عام، كلها أمور كانت لابد من أن ترفع وتيرة التأهب الأمني لأقصي مستوياته في هذه الأيام، ولكن العكس تماماً هو الذي حصل، استرخاء عجيب كان عاقبته في غاية الخطورة.

كثير من المحللين يرى أن مفهوم الأمن القومي قد انحصر في الفترة الأخيرة في أمن النظام وحماية الكرسي وتأمين أدوات الحفاظ علي مقاليد الحكومة، فقد تقلص مفهوم أمن الوطن في إطار ضيق للغاية، هو أمن الرئاسة فقط لا غير، واهتم القائمون علي أمن البلاد بملاحقة قوى المعارضة ووضعهم تحت الرقابة المشددة وعرقلة جهودهم التنظيمية الانتخابية، وقد استتبع هذا الانحصار الضيق لمفهوم الأمن القومي تراخياً كبيراً في العديد من الملفات الأمنية الخطيرة، وانتشرت الآثار السيئة لهذا المفهوم الضيق والخاطئ للأمن القومي، وظهرت العديد من الظواهر السلبية والمفزعة في الشارع المصري، أبرزها ظاهرة التحرش الجماعي خصوصاً في الأعياد والأماكن العامة، وظاهرة البلطجة وحل الخلافات الشخصية والجانبية بالقوة والسلاح بعيداً عن سلطة الدولة وقوة القانون، وكثرة شبكات التجسس في الآونة الأخيرة خير شاهد علي حالة الاسترخاء الأمني وآثارها الخطيرة، ولعل الحادث الأخير قد جاء بمثابة الصدمة التي لابد معها من إعادة النظر بصورة شاملة في السياسة الأمنية بالبلاد، وتحديد نطاق الأمن القومي وأولوياته وأدواته والمستهدف منه، ولن تجدي المعاملة الحانية من جانب قوات الأمن مع الاستفزازات القبطية المتصاعدة في العام الماضي في تغيير نظرة المتطرفين والموتورين منهم، ولعل تعالي الصيحات الهادرة من كنيسة العباسية بالأمس وهي تنادي بعزل وزير الداخلية دليل علي الضريبة الباهظة لضيق وانحصار مفهوم الأمن القومي.

هذه خطوات رئيسية لابد علي مصر والقائمين عليها من أخذها والشروع في تنفيذها من أجل إنقاذ ما تبقي من سمعة البلاد وهيبتها ومكانتها، وأيضاً وحدتها وأمنها الداخلي والقومي والإقليمي.

lh`h fu] Hp]he hgYs;k]vdm?