الفصل الثاني


منشأ محكمة التفتيش أو التحقيق
لقد سن كتاب العهد القديم قانوناً بسيطا لمعاملة المارقين من الدين ، يقضى بأن يفحص عنهم فحصاً دقيقاً، فإذا شهد ثلاثة شهود عدول بأنهم: "ذهبوا وراء آلهة أخرى" أخرج المارقون من المدينة و "رجموا بالحجارة حتى يموتوا" (تثينة التشريع 13: 10) .
إذا قام في وسطك نبي أو حالم وأعطاك آية أو أعجوبة ، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها ، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم ، لأن الرب إلهكم يمتحنهم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم... وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يقتل لأنه يتكلم بالزيغ من وراء الرب إلهكم... فتنزعون الشر من بينكم. وإذا أغواك سراً أخوك بن أمك , أو أبنك أو أبنتك، امرأة حضنك، أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلا نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك... فلا ترض منه ولا تسمع له، ولا تشفق عينك عليه، ولا تستره بل قتلاً تقتله. (تثينة التشريع 13: 1-9). لا تدع ساحرة تعيش (الخروج 22 : 18).
وقد ورد إنجيل يوحنا (15: 6) أن عيسى عليه السلام ارتضى هذا القول: "إن كان أحد لا يثبت في يطرح خارجاً كالغصن فيجف ، ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق" وحافظت الجماعات اليهودية في العصور الوسطى من الوجهة النظرية على الشريعة الكتاب المقدس الخاصة بالمروق من الدين، ولكنها قلما عملت بها. واستمسك بها ابن ميمون بلا تحفظ(36).
وكانت قوانين اليونان ترى المروق من الدين - أي الامتناع عن عبادة الآلهة اليونانية جريمة كبرى يعاقب عليها بالإعدام، وهذا هو القانون الذي حكم به على سقراط بالموت، وفي روما القديمة، حيث كان الآلهة حلفاء الدولة وأصدقاءها الاوفياء، كان الخروج عليهم أو التجديف في حقهم من جرائم الخيانة العظمى التي يعاقب عليها بالإعدام. فإذا لم يوجد من يتقدم باتهام المذنب، استدعى القاضي الروماني نفسه هذا المتهم وقام بتحقيق القضية (inquisition)، ومن هذا الإجراء أخذت محكمة التفتيش أو التحقيق العصور الوسطى شكلها وأسمها. وطبق أباطرة الروم القوانين الرومانية في العالم البيزنطي فحكموا بالإعدام على المانويين وغيرهم من المارقين. ثم كثر التسامح في البلاد الغربية خلال العصور المظلمة وهي التي قلما كان أبناؤها يتحدون الكنيسة، وقال ليو التاسع أن الحرمان من الدين يجب أن يكون هو العقاب الوحيد الذي يوقع على المارقين(37). ولما انتشر الإلحاد في القرن الثاني عشر قال بعض رجال الكنيسة إن حرمان الملحدين يجب أن يعقبه نفي الدولة إياهم أو سجنهم(38). ولما عادت بولونيا في القرن الثاني عشر إلى اتباع القوانين الرومانية جاءت في قانونها نصوص وأساليب، ودوافع، لإنشاء محكمة تحقيق، ونقل قانون الإلحاد الكنسي كلمة من القانون الخامس المعنون Dehereticls (الضلال) في كتاب جستنيان(39). وكان آخر ما فعلته الكنيسة أن أخذت في القرن الثالث عشر قانون ألد أعدائها، فردريك الثاني، وهو أن يكون الإعدام عقوبة الضلال. (ص5680,5681)