الفوائد

فائدة 1 : قال ابن بطة : قال الشيخ عبيد الله بن محمد : فإن سأل سائل عن معنى هذا الحديث , وقال: لم خص القراء بالنفاق دون غيرهم؟ فالجواب عن ذلك : إن الرياء لا يكاد يوجد إلا في من نسب إلى التقوى , ولأن العامة والسوقة قد جهلوه , والمتحلين بحلية القراء قد حذقوه , والرياء هو النفاق , لأن المنافق هو الذي يسر خلاف ما يظهر , ويسر ضد ما يبطن , ويصف المحاسن بلسانه , ويخالفها بفعله , ويقول ما يعرف , ويأتي ما ينكر , ويترصد الغفلات لانتهاز الهفوات .
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: هم الزنادقة , لأن النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الزندقة من بعده " ["الابانة الكبرى" (2/703) لابن بطة العكبري]

فائدة 2 : قال البغوي : وقوله: «أكثر منافقي أمتي قراؤها» : فهو أن يعتاد ترك الإخلاص في العمل، كما جاء: «التاجر فاجر»، وأراد: إذا اعتاد التاجر الكذب في البيع والشراء، لا أن نفس التجارة فجور، بل هي أمر مأذون فيه، مباح في الشرع. ["شرح السنة" (1/77)]

فائدة 3 : قال ابن عبد البر : مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أن عبد الله بن مسعود ، قال لإنسان : إنك في زمان كثير فقهاؤه ، قليل قراؤه ، تحفظ فيه حدود القرآن ، وتضيع حروفه ، قليل من يسأل ، كثير من يعطي ، يطيلون فيه الصلاة ، ويقصرون الخطبة ، يبدون أعمالهم قبل أهوائهم ، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه ، كثير قراؤه ، يحفظ فيه حروف القرآن ، وتضيع حدوده ، كثير من يسأل ، قليل من يعطي ، يطيلون فيه الخطبة ، ويقصرون الصلاة يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم" .
فإن هذا الحديث قد روي عن بن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة .
وفيه من الفقه مدح زمانه لكثرة الفقهاء فيه وقلة القراء وزمانه هذا هو القرن الممدوح على لسان النبي صلى الله عليه وسلم
وفيه دليل على أن كثرة القراء للقرآن دليل على تغير الزمان وذمه لذلك .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منافقي أمتي قراؤها من حديث عقبة بن عامر وغيره .
وقال مالك رحمه الله قد يقرأ القرآن من لا خير فيه والعيان في هذا الزمان على صحة معنى هذا الحديث كالبرهان .
وفيه دليل أن تضييع حروف القرآن ليس به بأس لأنه قد مدح الزمان الذي تضيع فيه حروفه وذم الزمان الذي يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده " ["الاستذكار" (2/363)] .

فائدة 4 : قال البقاعي : "{الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري} [الكهف: 101] {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [البقرة: 130] {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً} [النحل: 120] . ولما كان متاع الخلق في الأرض إلى حين وشغل أكثرهم أكلهم وتمتعهم وألهاهم أملهم عن حظهم من الحنيفية بما أوتي العقل من التبليغ عن الله نظراً واعتباراً اصطفى الله سبحانه من الحنفاء منبهين على النظر الذي اشتغل عنه المعرضون وأنف منه واستكبر عنه المدبرون، وأكدوا تنبيههم بما أسمعوهم من نبأ ما وراء يوم الدنيا من أمر الله في اليوم الآخر وما تتمادى إليه أيام الله، وذكروهم بما مضى من أيام الله، وأنزل الله سبحانه معهم كتباً يتلونها عليهم ويبينونها لهم علماً وعملاً وحالاً، فقبل ما جاؤوا به وصدقه واستبشر به الحنيفيون وأنذر به المدبرون والمعرضون، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، آمن من تنبه للنظر والاعتبار وألقى السمع وهو شهيد، وكفر من آثر متاعه بالعاجلة التي تراها الأعين على وعد الله ووعيده في الآجلة التي إنما يعيها القلب وتسمعها الأذن، وكما شغل المدعوين إلى الإسلام كفرهم ودنياهم كذلك شغل المولّدين في الإسلام غفلتهم ودنياهم ولعبهم في صباهم ولهوهم في شبابهم وتكاثرهم في الأموال في اكتهالهم وتكاثرهم في الأولاد في شَياخهم، فاشترك المدعو إلى الإسلام والمولد فيه الغافل في عدم الإقبال والقبول في ترك الاهتمام في الآجلة واختصارهما على الاهتمام بالعاجلة، وكلاهما جعل القرآن وراء ظهره المدعو لفظاً وعلماً والمولد الغافل علماً وعملاً، فلم يسمعه المدعو ولم يفهمه الغافل فجعله بالحقيقة وراء ظهره، ومن جعل القرآن خلفه ساقه إلى النار، وإنما جعله أمامه من قرأه علماً وحالاً وعملاً، ومن جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة؛ ولما قامت الحجة عليهم بقراءته إذا لم يجاوز حناجرهم كانوا أشد من الكفار عذاباً في النار - أكثر منافقي أمتي قراؤها، {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] فإذاً لا بد في قراءة القرآن من تجديد إقبال وتهيُّؤ لقبول وتحقيق تقوى لأنه إنما هو هدى للمتقين، وإجماع على الاهتمام، وكما أن أمور الدنيا لا تحصل لأهلها إلا على قدر عزائمهم واهتمامهم فأحرى أن لا يحصل أمر الأخرى إلا بأشد عزيمة وأجمع اهتمام، فلا يقرأ القرآن من لم يقبل عليه بكلية ظاهره ويجمع اهتمامه له بكلية باطنه . ["نظم الدرر" (1/305 – 307)]

فائدة 5 : قال ابن مفلح الحنبلي : "ولأحمد من حديث عقبة وعبد الله بن عمرو "أكثر منافقي أمتي قراؤها" والمراد الرياء" ["الفروع" (10/189)]

فائدة 6 : قال عبد الرؤوف المناوي : "أي الذين يتأولونه على غير وجهه ، ويضعونه في غير مواضعه ، أو يحفظون القرآن تقية ، للتهمة عن أنفسهم ، وهم معتقدون خلافه ، فكان المنافقون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة . ذكره ابن الأثير.
وقال الزمخشري: أراد بالنفاق الرياء لأن كلا منهما إرادة ما في الظاهر خلاف ما في الباطن. اه.
وبسطه بعضهم فقال: أراد نفاق العمل لا الاعتقاد ، ولأن المنافق أظهر الإيمان بالله لله وأضمر عصمة دمه وماله. والمرائي أظهر بعلمه الآخرة ، وأضمر ثناء الناس وعرض الدنيا والقارئ أظهر أنه يريد الله وحده وأضمر حظ نفسه وهو الثواب ويرى نفسه أهلا له وينظر إلى عمله بعين الإجلال فأشبه المنافق واستويا في مخالفة الباطن .
(تنبيه) قال الغزالي : أحذر من خصال القراء الأربعة : الأمل والعجلة والكبر والحسد قال وهي علل تعتري سائر الناس عموما والقراء خصوصا ترى القارئ يطول الأمل فيوقعه في الكسل وتراه يستعجل على الخير فيقطع عنه وتراه يحسد نظراءه على ما أتاهم الله من فضله فربما يبلغ به مبلغا يحمله على فضائح وقبائح لا يقدم عليها فاسق ولا فاجر .
ولهذا قال النووي : ما أخاف على ذمي إلا القراء والعلماء ، فاستنكروا منه ذلك ، فقال : ما أنا قلته وإنما قاله إبراهيم النخعي .
وقال عطاء: احذروا القراء واحذروني معهم ، فلو خالفت أودهم لي في رمانة أقول : أنها حلوة ، ويقول : إنها حامضة ما أمنته أن يسعى بدمي إلى سلطان جائر.
وقال الفضيل لابنه: اشتروا دارا بعيدة عن القراء. ما لي والقوم إن ظهرت مني زلة قتلوني وإن ظهرت علي حسنة حسدوني .
ولذلك ترى الواحد منهم يتكبر على الناس ويستخف بهم معبسا وجهه كأنما يمن على الناس بما يصلي زيادة ركعتين أو كأنما جاءه من الله منشور بالجنة والبراءة من النار أو كأنه استيقن السعادة لنفسه والشقاوة لسائر الناس ثم مع ذلك يلبس لباس المتواضعين ويتماوت وهذا لا يليق بالتكبر والترفع ولا يلائمه بل ينافيه لكن الأعمى لا يبصر" ["فيض القدير" (2/80 و 81)] .

فائدة 7 : قال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله : "وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيأتي على أمتي زمان؛ يكثر فيه القراء، ويقل الفقهاء، ويقبض العلم، ويكثر الهرج ". قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: "القتل بينكم، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المشرك بالله المؤمن في مثل ما يقول» .
رواه: الطبراني في "الأوسط"، والحاكم في "مستدركه "، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا: فقل الفقهاء العارفون بما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكثر القراء في الكبار والصغار والرجال والنساء؛ بسبب كثرة المدارس وانتشارها، والمراد بالقراء - والله أعلم - الذين يجيدون القراءة ويقرؤون ما يكتب لهم، وليس في الحديث ما يدل على أن ذلك خاص بالذين يقرؤون القرآن دون الذين يقرؤون غيره من الكتب والصحف والمجلات وغيرها، مما قد كثر في زماننا، وانتشر غاية الانتشار، وشغف به الأكثرون من الكبار والصغار، وأكثر القراء في زماننا قد أعرضوا عن قراءة القرآن، وأقبلوا على قراءة الصحف والمجلات، وقصص الحب والغرام، وغيرها من القصص التي لا خير فيها، وكثير منها مفتعل مكذوب، ومع ذلك؛ فالأكثرون مكبون على القراءة فيما ذكرنا. ["إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة" (2/98)]


(الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات)

وكتبه
أبو عبد الله السكندري
ليلة 18 شوال 1434