قال الإمام الشافعي –رحمه الله - : ( إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث فكأنما ، رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم – جزاهم الله خيراً حفظوا لنا الأصل فلهم علينا الفضل ) .

كلُ العلومِ سوى القُرآنِ مشغلـةُُُُ *** ُ إلا الحديثَ وعلمَ الفقهِ في الدينِ
العلمُ ما كان فيه قال حدَّثنــا *** وما سوى ذاك وَسْوَاسُ الشياطينِ ([1])


وإذا مَنّ الله على عبده بموهبة الحفظ والفهم فلا تقف همته على حفظ ودراسة ما تقدم . فأقبح شيء في طالب العلم قدرته على بلوغ أسنى المقامات وأكمل الحالات فيتخلف عن ذلك .

قال المتنبي :
عجبتُ لمن لـه قـدُُّ وحَدُُّ *** وينبو نَبْوَةَ القَضِـمِ الكَهَامِ
ومَن يجدُ الطريقَ إلى المعالي *** فـلا يَذرُ المطيَّ بِـلاَ سَنَامِ
ولم أَرَ في عُيوبِ الناس شيئاً *** كنقصِ القَادرينَ على التَمامِ ([2])


فأرى بعد حفظ الكتب المتقدمة البدء بحفظ الصحيحين والسنن الأربعة بأسانيدها إلا أن يعسر ذلك عليه فيجردها من الأسانيد ، فإن شق عليه حفظها كلها فيحفظ بعضها مقدماً الأهم فالأهم ، فالبخاري أولى من مسلم ، ومسلم أولى من كتب السنن والمسانيد . ولا يقتصر الطالب على علم الرواية دون الدراية ([3]) ، فالتفقه في معاني الحديث نصف العلم كما قاله علي بن المديني فيما رواه عنه الخطيب ([4]) ، وعليه بالحرص التام في معرفة الصحيح من الضعيف والتمييز بينهما ، و هذا يحتاج إلى طول زمن وملازمة أهل المعرفة والتحقيق من العلماء . والأولى قبل ذلك أن يحفظ الطالب أحد المصطلحات الحديثية المختصرة كي تعينه على فهم قواعد المحدثين .

وأحسن المتون في هذا الباب نخبة الفكر للحافظ ابن حجر فمع اختصاره ففيه فوائد ولا غنى لطالب العلم عن دراسة الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ، واختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير ، والموقظة للذهبي ، والنكت على كتاب إبن الصلاح لابن حجر . رحم الله الجميع .


وأما في علم الفقه ([5]): فيحفظ الدرر البهية في المسائل الفقهية ، وهو متن فقهي للعلامة الشوكاني صاحب نيل الأوطار . ويطالع شرح هذا المتن لكل من الشوكاني ، وابنه ، وصديق خان في كتابه المفيد الروضة الندية .


وإن قـوي على حفظ آداب المشي بجزئيه لـشيخ الإسلام محمـد بن عبدالوهاب - رحمه الله – فلا بأس . ولا بأس أيضـاً بحفـظ زاد المستقنع([6]) أو عمدة الفقه في الفقه الحنبلي ، أومتن أبي شجاع في الفقه الشافعي ، أو أحد المتون الفقهية في المذاهب الأخرى إذا خلا الطالب من التعصب المذهبي وتجرد من رقه ، إنما قصده حفظ أصول المسائل والتفريع عليها وتصورها في الذهن ، وما وافق الدليل قبله وما خالفه رده .
وأما إذا كانت همة الطالب حفظ المتون الفقهية المجردة عن الدليل للتمذهب ومعرفة قيل وقال والعمل بذلك فلا نرى ذلك وننهى من يفعله ، لأن الله تعالى لم يتعبدنا بقيل وقال ولا أقوال الرجال ، إنما تعبدنا بالكتاب والسنة فهما مصدر التشريع فمن جاءنا بقول يوافقهما قبل قوله ولزم العمل به ومن جاءنا يخالف كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم رد عليه قوله وإن كان القائل معظماً في نفوسنا ، فلم يكتب الله العصمة لأحد من البشر غير أنبيائه ورسله .




-------------------------------------------------------------------
([1]) الديوان (88) .

([2]) ديوان المتنبي بشرح البرقوقي ]4/275 [

([3]) علم الدراية هو فهم معنى الحديث واستنباط المعاني منه .

([4]) الجامع (2/211) .

([5]) وحقيقة الفقه هو حفظ النص وفهمـه وتـقديمه عـلى الرأي والقدرة على إلحاق النظير بنظيره ، وفهم مقاصد الشريعة وتنـزيلها على الوقائع . وأما التقليد والجمود على كتب الآراء فليس من الفقه بشيء .
([6]) وفي هذا الكتاب مسائل كثيرة تخالف الصحيح من المذهب الحنبلي ، والراجح من الدليل " فراجع حين قراءته حاشية شيخنا الفقيه صالح البليهي في كتابـه المشهور السلسبيل في معرفة الدليل " فقد اعتنى بذكر الدليل والتعليل ونقل مذاهب الأئمة المشهورين وترجيحات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهم الله تعالى .