هذا ما قاله الكاتب، ولكن ما طبيعة التطوير الذي يريد من خلاله التقريب بين الفصحى والعامية يا ترى؟ إنه يرى أن المفعول به يمثل عقبة كأداء في سبيل إتقان العربية، ومن ثم نراه ينادى بألا يكون منوَّنا، بل يُكْتَفَى فيه بالسكون (ص172). وهو يريد بهذا إلغاء الإعراب، لكن كلامه تُعْوِزه الدقة ووضوح التعبير كما هو بيّن جلىّ. كذلك نراه ينادى أيضا بالتخلص من التأنيث في الأرقام وفى الجمع معا، فنقول مثلا: "تسع رجال، وتسع نساء" على السواء، كما نقول: "النساء كلهم أكلوا" بدلا من "النساء كلهن أكلن"... وهكذا، وهو ما ينسحب على الأسماء الموصولة التي تكتفي العامية فيها بكلمة "اللى" في كل الحالات(ص171ــ 172، 175)، على حين تستعمل الفصحى مجموعة كاملة منها هي "الذي والتي واللذان واللتان والذين واللاتي". وبالمثل نجده ينادى بالتخلص من صيغة المثنى فلا يكون لدينا بعدها إلا المفرد والجمع فقط مثلما هو الأمر في اللهجة العامية واللغات الأوربية. وعلى نفس الوتيرة يهاجم الجملة الفعلية زاعما أنها تؤدى إلى التباس المعنى بخلاف الاسمية التي تعبر عن المراد بكل وضوح ودقة(ص168). وفوق ذلك فهو يهاجم العربية لكثرة ما فيها من مترادفات(ص177ـ 180)، كما يتهمها بأن فيها نقصا معيبا في حروف العلة وأن غالبية حروفها ساكنة(ص168ـ 170). والمتأمل في هذه الاقتراحات والاتهامات يلحظ من فوره أنها تكاد تقلب الفصحى عامية بما يباعد بيننا وبين اللغة التي ظل آباؤنا وأجدادنا يستعملونها في الكتابة والقراءة والتفكير العلمي والإبداع الأدبي لما ينوف على خمسة عشر قرنا، ومن ثم يقيم بيننا وبين التراث العظيم الذي خلفوه جدارا عاليا سوف يزداد مع الأيام والسنين ارتفاعا وسُمْكا وصلادة، فضلا عن أنه سوف يجعلنا نشعر مع القرآن الكريم بغربة مزعجة لا نجدها الآن، وهو ما يتناقض مع ما أكده في أكثر من موضع في الكتاب من أنه لا يهدف أبدا إلى القضاء على الفصحى وإحلال العامية مكانها!

ولست أريد أن أدخل في مناقشة نيته من وراء ما كتبه في هذه القضية، فقد يكون حسن القصد فيما يدعو إليه ومؤمنا بأن ما يقوله من شأنه أن يخدم لغته القومية فعلا، وقد يكون أقدم على هذا الذي كتبه هنا وهو يدرك أنه سوف ينجلي عن نتائج غاية في الوخامة، فعلم ذلك كله عند الله. ثم إني أعترف بأن انتسابه إلى الأستاذ محمد مفيد الشوباشي، القصاص والشاعر والناقد والمترجم المعروف صاحب الأسلوب المحكم الجميل، والمدافع بمنتهى الشراسة والحق عن أصالة الحضارة الإسلامية والعقلية العربية وجمال لغة الضاد أسلوبا وإبداعا أدبيا رغم أنه كان يساريا، والذي قرأت له عددا من المؤلفات والمترجمات واستمتعت بها غاية الاستمتاع منها "القصة العربية القديمة" و"رحلة الأدب العربي إلى أوربا" و"الأدب الثوري عبر التاريخ" و"آسيا وجداول الربيع" لترجنيف و"نافخ البوق" لتوماس هاردي، أقول إن انتسابه لمحمد مفيد الشوباشي يَغُلّ يدي عن أن أتناول ما كتبه في موضوعنا بنفس الشدة التي أرد بها على من يهاجمون العربية أو الإسلام. ولقد بلغ من اعتزاز الشوباشي الكبير بلغتنا العبقرية أنه كان ينحى باللائمة على كاتبنا في شبابه حين يراه يجرى على منوال اللغات الأوربية في كثير من الأحيان بإيثاره الجملة الاسمية على الفعلية حسبما حدثنا الكاتب نفسه(ص168)، وإن لم ألاحظ في الكتاب الذي بين يديّ الآن والذي أرسله لي كاتبنا مشكورا ولا في كتابه الآخر "الداء العربي" الذي أرسله معه أن للجملة الاسمية الغلبة على غريمتها الفعلية. كما أن الأديب الراحل كان يرفض أشد الرفض استعمال العامية في الكتابة حتى ولا في الحوار القصصي. والطريف أنه كان يستند، ضمن ما يستند إليه في ذلك الرفض، على التحليلات الماركسية في الفكر والأدب. ويستطيع القارئ أن يجد شيئا مما كتبه في هذا المجال في مقال له بمجلة "العالم العربى" القاهرية في عدد مارس 1958م. وهناك سبب آخر يمنعني أن أكون شديدا في نقد ما كتبه أ.شريف الشوباشي، فقد بدا لي، أثناء مناقشتي أنا ود.عبد الله التطاوى له ولآرائه الواردة في كتابه المذكور في الحلقة التي سجلتها معنا قناة "التنوير" المصرية من برنامج "لِلــْوُدّ قضيـّة" منذ أيام، أنه رجل دمث الخلق متواضع، وليست فيه لجاجة بعض الكتاب ممن يعملون على التنقص من تراثنا في الدين أو الفكر أو الأدب. بل إنه في الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا لم يحدث أن تعرض بكلمة سوء لأي من رموزنا التاريخية، وكذلك لم يقع أن ذكر الرسول إلا بمنتهى التبجيل والاحترام، كما كان دائم الصلاة عليه إلا فيما ندر. وكان أدبا جميلا منه أن نجده يقول عن هذا الصحابي أو ذاك: "سيدنا فلان". وفوق هذا كله فقد رأيناه يبتدئ كلامه في تلك الحلقة بالقول بأن ما كتبه في كتابه ذاك إنما هو مجرد رأى قد يكون صوابا، وقد يكون خطأ. على أن هذا كله لم يمنعني في الحلقة التلفازية المذكورة ولن يمنعنى الآن من أن أختلف معه غاية الاختلاف إذا رأيت أن كلامه غير منطقى أو أن من شأن الأخذ به أن يقودنا إلى ما لا تحمد عقباه من نتائج.

وينطلق كاتبنا في دعوته إلى تطوير اللغة وقواعدها من منطلقين: الأول أن كثيرا من الكتاب والخطباء العرب يخطئون في لغتهم، وأن التلاميذ والطلاب يشكون مُرَّ الشكوى من حصة اللغة العربية ولا يرون فيها شيئا أكثر من كونها عبئا ثقيلا لا بد أن يتحملوه كي ينجحوا في امتحانات آخر العام، والسلام، غير واجدين أية لذة في دراستها. ثم إنها ليست وسيلة طبيعية في التعبير عن أفكار من يستعملها ومشاعره، بل عليه أن يتكلفها تكلفا. والثاني أنها لم تعد تساير العصر أو تفي بمتطلبات التعبير عنه بعد أن طال بها الزمن دون أن يطرأ عليها ما تحتاجه من تطور على عكس اللغات العالمية الأخرى التي لا يكتفي أصحابها بما يعتريها من تطور طبيعي، بل يحدثون فيها ضربا آخر منه يقصدونه قصدا.