صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 11 إلى 19 من 19
 

العرض المتطور

  1. #1
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 32
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي





    تذكرة الشيخ


    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
    قال أبو العرفان : كانت الجارية ترتدي حلة وردية زاهية ، وقد تقدمها عطرها الفواح ، واكتملت زينتها ، ولكنها بدت حزينة أسيفة على غير عادتها .
    وألقت نظرة سريعة على الحاضرين ، فلما رأت يسارًا وجمت وتسمَّرت في مكانها .. وبدا عليها وكأنها فوجئت .. كـأنها لم تكن تعلم بمجيئه .. وحولت نظرها إلى حكيم .. فضحك هذا وقال :
    - إنه يسار .. ألا تعرفينه ؟
    وتقدَّمت على مهل ، فسلمت على يسار ، ومالت إليه ، ورحَّبت به ، ولكن بتحفظ واحترام كثير ..
    وجلست إلى جانبه .
    فلم يتحمل حبيب هذا ، فترك المجلس وخرج وهو ينفخ من شدة التأثر ، ولما رأى القلق الذي اعترى يسارًا ، بادر يقول :
    - لا عليك .. إنه سيعود .. وسيشرب الخمر حتى ينسى نفسه .
    وكان يسار يتمنى ألا يعود حبيب .. لأنه شعر بأشد الحرج في حضوره ، وهنا رفع حكيم كأسًا ، قدَّمه إلى يسار وهو يقول :
    - خذ .. اشرب ..
    وهزَّ هذا رأسه ، ونظر في عيني الجارية كأنَّه يستنجد بها ، فلم يجد لديها الرغبة في ذلك ، وأشارت بيدها تمنعه ..
    فالتفت يقول :
    - أنا لا أشرب الخمر ..
    وضحك أبو محمود وهو يمد يده بالكأس ويقول :
    - اشرب .. اشرب يا يسار ..
    إنها تزيل عنك الخجل ، وتذهب الهم ، وتنسيك الدنيا ، ولا تعيش إلا هذه اللحظات .
    وتردد يسار .. وقال مرة أخرى :
    - لا .. أنا لا أشرب الخمر .
    وخيل إليه في تلك الساعة ، أن الدنيا تدور به .. فقد نما إليه أن صاحبه أبا الحسين عندما سمع بما آل إليه أمره ، قال :
    - اتركوه .. فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه ، متمثلاً بالحديث .
    وطرق سمعه قول أبي أنس :
    - كنت والله أظن أن أساسه أقوى من هذا ..
    ولم يعلق ناقل الخبر .. وكأنه يؤيد ما قاله !
    والتفت يسار ينظر إلى هذا الواقف على الذي يحمل كأس الخمر بيده ، ويحثه على الشرب ..
    - اشرب .. اشرب .. خذه يا يسار .
    وطالعه وجه أمه الحزينة المتألمة ، وهي تنظر إليه ولا تستطيع شيئًا ، وأخته الصغيرة سناء ، وهل تحمل قطتها الكبيرة ، تنظر إليه بإشفاق ..
    وعاد صوت حكيم يقول بإلحاح :
    - أين أنت يا يسار .. خذ .
    وقرَّبه منه ، فتناوله يسار .. وبقي الكأس في يده ..
    وهنا أطلق أبو محمود ضحكة عالية ، وكأنه قد نال غاية ما كان يتمناه .. وصرخ وقد استبد به الفرح :
    - عليَّ بحبيب بن مسعود .. أين هو .. ألم أقل له .. سأسقيه الخمر بيدي ؟
    ولم يفهم يسار معنى لما قال حكيم ، وظلَّ يدور في دوَّامة من الأفكار ، وأخذت صور أصحابه الفتية الذين كان قد قضى شطر حياته معهم في المسجد وكان الشيخ يحدثهم ..
    أخذت صور هؤلاء تتعاقب عليه ..
    فإذا بأبي الذهب يعض على يده ..
    وتخيل أبا الحسين ، علي بن حسين ، بوجهه المستدير ، وشعره القصير ، وهدوئه المعتاد ، وابتسامته الخفيفة اللطيفة ، وإيماءاته القريبة البعيدة .. تخيَّله وكأنه يقول :
    - إنه لم يبتعد كثيرًا ، ومهما ابتعد فسوف يعود ..
    أما أبو محمود ، فقد مضى يهذي في نشوة المنتصر :
    - لقد بذلت للجارية ألف دينار لكي تأتي بك إلى هنا ..
    لقد أقسمت أن أسقيك الخمر بيدي ..
    اشرب .. اشرب يا يسار ..
    أين حبيب بن مسعود ؟
    والتفت يسار ينظر إلى سرشير ..
    أحقًا ما يقول هذا ؟
    إنه لا يكاد يصدق مما يسمع ..
    ألف دينار من أجل أن يسلبوه دينه ؟!
    من أجل الإيقاع به بين فكي الشيطان !
    ونظر في عيني الجارية ، فروَّعها منظره .. وهزَّت رأسها تنفي بكل شدة وتقول :
    - لا تصدقه .. لا تصدقه يا يسار .. إنه ..
    كان سعيد بن منصور ، قد وضع الكأس أمامه ، وبسط ذراعيه على المائدة ، وجلس يتسلَّى بالنظر إلى ما يدور ..
    وبقي حسَّان بن معيقيب ساكتًا ، سارحًا في تأملاته وأحزانه التي لا تنتهي مردِّدًا بين فترة وأخرى بصوت خفيض رتيب :
    - مناد دعا زهدًا فخف له قلبي ..
    وتذكر يسار في تلك اللحظة ..
    كان أبو أنس قد التقى به عصر هذا اليوم في السوق الكبير ، وسلَّمه رقعة مطوية قال إن الشيخ قد بعثها له ..
    وحوَّل الكأس من يده اليمنى إلى اليسرى ، وخفضها حتى لامست المائدة ، ثم مدَّ يده يتحسس الرقعة في جيبه ، فأخرجها ، وفضَّها ، فقرأ فيها :
    (( إني أذكِّرك .. إن الشيطان سوف يدخل عليك من أبواب شتى ، وعلى رأسها المرأة .. فاعتصم منه بذكر الله الدائم ، وبغض نظرك ، وتلاوة القرآن .
    وذكر نفسك ، أن وجه المرأة الجميل هذا ، صائر إلى جيفة قذرة يقتتل عليها الدود ، وأن في الجنة من الحور العين ما تستحي منهن الشمس الطالعة )) .
    كانت الرقعة بخط الشيخ نفسه ..
    إن الشيخ لم ينسه ولم يهجره كما خيل له ..
    هاهو يذكِّره ..
    ويحذِّره ..
    وكان أبو محمود مستمرًا في الضحك ، مستمرًا في إغرائه على شرب الكأس .
    أما الجارية ، فقد لاحظت التغير الذي طرأ على وجهه ، فسحب نفسها قليلاً قليلاً ، ولاذت بقرب حسَّان . وأخذ سعيد بن منصور ينظر إلى القناديل التي بدأ نورها يسطع ..
    ومضى أبو محمود يحثُّه ويغريه :
    - اشرب .. لابد أن تشرب ..
    أنا الذي جئت بك إلى هنا .. أنا الذي أخرجتك مما كنت فيه من العبادة .. أنا الذي أخرجتك من المسجد ..!
    متِّع نفسك .. انس الدنيا .. فغدًا نموت .. نموت ونترك الدنيا لغيرنا ..
    وزادت كلمات حكيم في يقظته ..
    غدًا نموت .. ونقف بين يدي الله للحساب .. سيحاسبنا على كل شيء .. على كل خطوة ، كل كلمة ، كل معصية ، وسوف يهتف كثير من الناس : }يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا{ .
    ونكس رأسه ينظر في الرقعة ، وخيل إليه كأنه يسمع صوت الشيخ يحدِّثه .. يحذِّره .. يطرق أذنيه : (( إني أذكِّرك .. إن الشيطان سوف يدخل عليك من أبواب شتى ، وعلى رأسها المرأة .. فاعتصم منه بذكر الله الدائم ... )) .
    وقبض أبو محمود على يد يسار التي تحمل الكأس ، وأراد أن يرفعها إلى فمه وهو يقول :
    - اشرب .. اشرب يا يسار .
    وعاد حبيب بن مسعود كما ذكر سعيد ، وصرخ من مكانه محذِّرًا :
    - لا .. لا تشرب يا يسار .. لا تشرب .
    سر أبو محمود لرؤية حبيب ، وأراد أن يريه كيف يستطيع أن يسقيه الخمر بيده .. وراح يلح على يسار وهو يقبض على يده يريد أن يرفعها بالكأس إلى فمه .. وكان في عمله هذا فرحًا مزهوًا كأنه يقوم بما يستحق عليه الثناء والتقدير ..!!
    وهتف يخاطب حبيبًا :
    - انظر .. ها أنا أسقيه الخمر بيدي .. ألم أقل لك ؟
    وكان يسار قد وصل إلى حدٍّ لا يطيق معه الصبر .. فانفجر غاضبًا ، ونهض ثائرًا ..
    ورمى الكأس في وجه حكيم .
    وركل المائدة بقدمه .. فتحطَّم كل ما كان عليها .
    وانهال على حكيم ضربًا ..
    وأظلمت الدنيا في عينيه ..
    وانقلبت المائدة .
    وهربت الجارية وقد أصابتها شظايا كأس تحطم بالقرب منها فجرح ساقها .. ولم يقف في وجه يسار شيء .
    لقد قذف بكل ما في نفسه ..
    مرة واحدة ..
    لقد جمع الران الذي تراكم على قلبه ، وكوَّره وألقى به في وجه حكيم .. وفرح حبيب بن مسعود ..
    وتنهَّد حسَّان بن معيقيب وهو يجلس صامتًا مبتسمًا وقد أعجبه المشهد .. ولم يحاول سعيد بن منصور شيئًا يقلل من هياج يسار ..
    وخرج يسار .. وصوت الشيخ يرن في أذنيه :
    (( إن وجـه المرأة الجميل هذا ، صائر إلى جيفة قذرة يقتتل عليها الدود ، وإن في الجنة من الحور ما تستحي منهن الشمس الطالعة )) .
    واهتزَّت النخلة طربًا وهي تشيع يسارًا ..
    ولمعت الفوانيس بنور جميل ..
    وشعر كأن الجدران ، والبيوت ، والدنيا ..
    الدنيا كلها ، ترحب به ..
    أين كان كل هذه المدة ؟
    ومضى في طريقه إلى المسجد ..
    إنه يريد أن يرى الشيخ ..
    أن يجلس بين يديه ..
    أن يعترف بتقصيره ..
    وكان الطريق طويلاً ، والمنعطفات كثيرة ، والبيوت تقف على الجانبين .. ولم يسمع أصوات المسلمين عليه ..
    ولا الفقير الذي مد يده يسأله الصدقة ..
    ولا أحدًا من الناس ..
    كان يريد أن يصل إلى المسجد ..
    أن يعود إلى سابق عهده ..
    أن يعود إلى الله بقلب تائب خاشع منيب ..
    لم يكن يظن أنه يستطيع أن يفارق أحدًا من أصحابه ..
    لم يكن يظن انه يستطيع أن يبتعد عنهم ..
    كيف ابتعد كل هذه المدة ؟
    لقد كان في رحلة خطرة .. المحظوظ فيها من يعود منها سالمًا .. لا له ولا عليه ..
    لقد كان صغيرًا يوم بدأ يعتاد المساجد .
    وكان صغيرًا يوم أخذ يتردد على حديث الشيخ .
    كان أبو الذهب يطرق عليه الباب كل يوم .. يوقظه ، ثم يقوده من يده في طريقه إلى المسجد . كان يحنو عليه ، كما يحنو الأخ الكبير على أخيه الصغير ..
    إنه يتذكر تلك الأيام ، وتلك اللحظات .
    لقد كانت ملء السمع وملء البصر ..
    وعبود .. الفتى الطويل الأسمر ، الذي أمضى سنوات عديدة وهو يحاول العثور على فتاة لكي يخطبها لنفسه . فلم يوفق !
    لأنه لم يجد الفتاة التي تناسبه ، أو التي تناسب أمه كما يقول أخوه !!
    وعبدالله بن الشيخ إبراهيم ، الفتي الطيب .. اللطيف الوديع ، الذي ذهب يدرس الطب .. والذي كان يراه يذرع ساحة المسجد ذهابًا وإيابًا وهو يحاول حفظ سورة التوبة ..
    وأبو أنس .. وخلاصاته التي لا تنتهي ، ودعاباته ، وروحه المرحة ، ومشاريعه الكثيرة التي يبنيها في الهواء ، وحكاياته عن أمه ، وكم مرة تخطئ في العد .
    وأبو الحسن .. علي بن حسين .. وسمته الهادئ اللطيف ، ودروسه الفقهية التي تعلمها في المدرسة المستنصرية .. وصاحبه جاسم الذي لم يكن يفارقه في ذهابه وإيابه ، وقصته مع الشاب الذي سخر من صلاته ، فرأى ذلك الشاب رجلاً يأتيه في المنام وينهال على ظهره ضربًا بالسياط ، حتى استيقظ وأثر السياط ظاهر على ظهره !!
    وغيرهم .. وغيرهم ..
    كانوا يحيطون به .. يحبونه .
    بل يراه بعضهم قدوة له .. ويتمنى لو بلغ مبلغه !
    أيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟!!
    ومضى يسار يريد أن يصل إلى المسجد قبل انفضاض الجماعة من صلاة العشاء .. إنه لا يريد أن يطرق على الشيخ باب بيته .. لأنه لم يتعود أن يزوره في الليل ..
    وتمنَّى لو استطاع أن يطير .. أن يصل ..
    وتذكر العم عثمان ( أبو البحر ) .. هذا الذي تجاوز المائة من العمر .. والذي وقف مرة يخاطبه ويقول :
    - ليتني نشأت في طاعة الله كما نشأت يا يسار .. فهنيئًا لك ..
    ثم رفع المنديل يسمح دمعة ترقرقت بها عينه وقال :
    - لقد طال أجلي وقلَّ عملي ..
    إنه لا ينسى هذا ..
    ولا ينسى والده ، وكان يتمتم بعد صلاة الفجر فيقول :
    - الحمد لله الذي رزقني ولدًا صالحًا تصل دعواته إلى قبري .
    وأمه الحزينة المسكينة .. التي كانت تنظر إليه وتبكي بصمت ، والتي سمعها قبل أيام تقول لأبيه بصوت خافت :
    - لا أدري ما الذي جرى ليسار .. كلمه يا رجل .. كلمه لعله يحدثك .
    وأخته الصغيرة سناء .. لم يعد يداعبها .. ولا يسألها عن قطتها .. حتى شكت لأمها فقالت :
    - لماذا لا يكلمني يسار ؟ هل هو مريض ؟
    والشيخ ..
    لقد كان يحبه كثيرًا ، كان لا يمل سماع حديثه . كان يرغب بالمزيد المزيد ..
    وهل لدى الشيخ إلا كل نافع مفيد ؟ كان يتحدث وكأنه يغرف من بحر ليس له ساحل ..
    إنه في طريقه إليه ..
    سيقص عليه ما جرى ..
    سيقول له ..
    ماذا يقول ..؟
    ورأى المسجد أمامه .. ببنائه القديم ، وجدرانه التي يخيل للناظر إليها أنها توشك على التداعي ، ومئذنته المتواضعة ..
    وتقدم بخطوات بطيئة مترددة ..
    لقد شعر كأن حجارة المسجد تنظر إليه بعتاب ..
    وكأن جدرانه التي تتطلع إليه بصمت قد فرحت بقدومه ..
    إن هذا المسجد يعرفه .. إن كل حجارة فيه تعرفه ..
    كم مرة حضر إلى المسجد قبل أن يحضر أي إنسان ..
    كم مرة قضى الساعات الطوال .. قائمًا مصليًا ، أو قارئًا للقرآن .. أو ذاكرًا لله تعالى ..
    لقد كان مكانه في الصف الأول من صلاة الجماعة ..
    ومع التكبيرة الأولى ..
    وتعدى باب المسجد وهو يقدم رجله اليمنى ويقول :
    - اللهم افتح لي أبواب رحمتك ..
    إن أبواب رحمة الله مفتوحة دائمًا ، لم تغلق في ساعة من ليل أو نهار ..
    أين التائبون .. الآيبون .. النادمون ..
    هذه الشجرة الكبيرة في ساحة المسجد .. في مكانها لم تتحرك .
    والفوانيس المضيئة ..
    وزير الماء ..
    وخادم المسجد .. حميد بن سلوم الرقاق .
    وتقدَّم يسار ..
    كان المصلون قد خرجوا ..
    ولكنه لم ييأس .. فلعل الشيخ تخلَّف بعد صلاة العشاء ..
    وصدق ظنه ..
    كان الشيخ واقفًا ، مستندًا بظهره إلى الدعامة الوسطى من المسجد ، وكان ينظر إلى يسار ، بعين الوالد الرفيق الرحيم ..
    وتقدم يسار ..
    خجلاً مترددًا كأنه يحمل أوزار الدنيا ..
    واقترب منه ..
    فسلَّم عليه ..
    وهيئ له كأنه سمع الشيخ يرد عليه ..
    وشعر بيده توضع على كتفه ..
    وسمع صوته المضمخ بعبير القرآن وهو يتلو :
    }قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعًا . إنه هو الغفور الرحيم{ .
    وهشَّ قلبه لهذه الآية.. وشعر كأنه يسمعها لأول مرة.. تحملها الملائكة.. ويهتف بها المسجد..
    وشعر كأن كل شيء ..
    حتى الفوانيس الكبيرة ..
    وحتى النخلة الواقفة هناك ..
    وكل حجر في هذا البناء الطاهر ..
    استقبله .. فرح به .. سر بعودته .. فتح ذراعيه له ..
    وأراد يسار أن يقول شيئًا أن يتكلم ..
    أن يقص على الشيخ ما جرى له ..
    ولكنه لم يستطع ..
    لقد تحوَّلت كلماته إلى دموع .
    وعاد صوت الشيخ ، الهادئ الوقور يتلو من القرآن الكريم .. ما وجد فيه يسار ، شفاء ، وأملاً ، ورحمة ، ورغبة في العودة إلى الله : }وإني لغفَّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى{ .





    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  2. #2
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 32
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي


    نداء الروح


    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
    خرج يسار من بيته الذي يحاذي النهر قبل نداء الفجر ، وسار في طريقه إلى المسجد ، هذه صفحة جديدة قد انفتحت في سجل الوجود ، هذا يوم جديد ، إنه يستمع إليه ، وكأنه يتحدث حديث الروح للروح .. أنا يوم جديد ، وعلى عملك شهيد فتزود مني .. فإني لا أعود إلى يوم القيامة .
    كانت الريح باردة ، وشديدة ، تُمزِّق بعض الهدوء المخيِّم على الكون وقد أحاطت بالقمر دائرة بيضاء واسعة تحميه من هوج الرياح . وانطفأت بعض الفوانيس ، وما بقي منها أخذ يعاني أنفاسه الأخيرة .
    كان يسير ولسانه لا يفتر عن ذكر الله ، كان يشعر بجلال هذا المنظر وبرهبة تسري في كيانه .. أنه يذكِّره بالآخرة .. كل شيء في هذا الوقت يذكِّره بالآخرة ، حتى الحارس الذي انزوى في الركن القصي من الزقاق وقد التف بعباءته وكوَّم نفسه على دكة بيت القاضي . البيوت الساكنة الساكتة ، والنوافذ المغلقة ، والشارع الصامت ..
    وترامى إلى سمعه من جهة النهر ، صوت فتى ركب زورقًا ، وراح يضرب بمجدافه ويغني غناء حزينًا تتجاوب أصداؤه مع أمواج النهر ، وتحمله الريح الباردة ، ويستمع إليه الكون في صمت خاشع . كان يردد على أوتار قلبه المعنى : (( يا رب يا عالمًا بالسر يا ربي )) يردد هذا الشطر كثيرًا ، ثم يتبعه بشطر آخر لم يتبين يسار من كلماته إلا الكلمة الأخيرة (( ... ذنبي )) .
    ومضى يسار يستمع إلى حديث الفجر ، المُضمَّخ بأنفاس الآخرة ، وتعجَّب كيف ينام الناس في هذا الوقت ؟ كيف لم ينهضوا فيرتشفوا من سر الصباح حياة تعمر حياتهم ، ونورًا يضيء نفوسهم وحكمة تضعهم على باب الحقيقة الخالدة ، التي كتب عليها بمداد السماء }منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى{ .
    في هذا السكون الشامل ، والمنظر الرهيب ، وصوت الفتى الحزين ، تذكَّر يسار حديث الشيخ عن الآخرة ، كان ينصت إليه بكل جوارحه ، والشيخ يصف الآخرة وصفًا كأنَّه رآها بعينيه ، كأنه اطَّلع على كل ما فيها ثم جاء يحدثنا ولسان حاله يقول : أنا النذير العريان . لم ير الشيخ يبكي في يوم من الأيام ، ولا يخرج عن حاله ، ولكنه كان يشعر من خلال صوته ، من اهتزاز نبراته ، من شدة تأثره ، كأن الدموع تنزل من قلبه ، كأنه يبكي بصمت .. أما هو .. الشاب المرهف الرقيق الحس ، الذي يتفجر قلبه بالعواطف فلا يستطيع أن يتمالك نفسه من البكاء ..
    كان حديث الشيخ يبدأ بعد صلاة الفجر ، وكان لا يزيد على دقائق معدودات ، وكان يهز القلوب ، يملؤها ، ويحرك النفوس إلى طاعة الله ، إلى معرفة الطريق إلى الله .
    كان يبدأ حديثه هادئًا هدوء الفجر طريًا نديًا ، جميلاً جديدًا جادًا ، لا يتكلف ، ولا يأتي بالغريب ، ولا يذهب مذاهب الوعَّاظ والمعلمين ..
    كانت كلماته تسري إلى نفوس مريديه فتنجذب إليه ، تهفو لسماعه وترغب في المزيد ، يود الواحد منهم لو يقول له : لا تتوقف يا شيخ .. لا تُنه حديثك ..
    ولكنهم لم يكونوا يقولونها ؛ لأنهم يعلمون أن الشيخ يرى أن ما حدَّثهم فيه الكفاية ، وسوف يواصل حديثه غدًا ، وفي مثل هذا الوقت .
    لقد عاش يسار هذه المعاني الإيمانية ، وامتلأت بها نفسه ، ووقف على باب قلبه يرد عنه كل طارق غير الله ، فنشطت أعضاؤه إلى طاعة الله ، وازدانت نفسه بالإيمان ، الإيمان الذي يضيء القلب ، وينعش الروح ويخلع عنها أردية الكسل والخمول ، ويضفي عليها حلل البهجة والراحة والسرور .
    وكانت قراءة الإمام ، وهو يؤم المصلين ، حزينة مترسِّلة ، وفي صوته رعشة تهز القلوب . وقناديل المسجد التي تنشر نورًا خافتًا دافئًا ، والجدران السميكة البيضاء ، والأعمدة الصاعدة الصامتة وكل حجر ، كل نأمة ، كل شيء .. كل شيء .. كأن جبريل قد نزل في تلك الساعة يتلو بصوته الملائكي }إن قرآن الفجر كان مشهودًا{ .
    قال أبو الحسن الورَّاق :
    وبعد صلاة الفجر جلس الشيخ يتحدث .. بعد تلك الرحلة السماوية التي استمد فيها المصلون من السماء سببًا إلى السماء . جلس الشيخ يتحدث عن يوسف الصديق ، الفتى الذي ضرب مثلاً أعلى في الصبر عن المرأة المغرمة العاشقة الوَلْهى . وأخذ يصف ثباته وعِفَّته ، وخشيته لله ، ومراقبته له ، وتعبُّده وتصوُّنه ..
    كان يتكلم بأسلوب القرآن الواضح البليغ ، وبعرضه التصويري البديع ، كانت أنفاس الكتاب الكريم تعبق من أنفاسه ، وشذى السلف الصالح ونسيم ريَّاهم من نسيمه .. وكل مُريد يشعر أنه يوسف نفسه .
    قال : ومما يزيد في تأثير حديث الشيخ ، مكانته في نفوس مريديه ، وسطوع حجته ، ونبرات صوته ، وحسن إلقائه ، ومحكم إشاراته ، وكانت عيونه تنطق بالحب لكل واحدٍ منهم ، كان يشعر كل واحد بأنه يهتم به وحده ، دون غيره ، يهتمُّ بشؤونه وشجونه .. فتتفتح نفس المريد ، ويصارح الشيخ بما لم يصارح به أحدًا من الخلق ، والشيخ يصغي إليه ، ثم يشير عليه ، ويثبته ويرشده ، ويأخذ بيده ، يُعينه على مواصلة السير في قافلة الإيمان ..
    قال أبو العرفان : كان يسار يتردد بين حين وآخر على سوق العطَّارين ، وإلى هذا السوق تُجلب أجود أنواع العطور في الدنيا ، ويؤمَّه الرجال والنساء من شتى الأجناس . ولا شيء يستهوي النساء ، وخاصة الأعجميات ، كهذا السوق .. وهو أول ما يستهوي الوفود القادمة من بلاد الروم والترك وفارس والهند ، ومن بلاد الحبشة .. وبلاد أخرى بعيدة لم نسمع بها ..
    وسوق العطَّارين .. يمتاز بالأناقة والنظافة والجمال ، فيه الدكاكين الصغيرة المتناسقة ، التي زينت واجهاتها وعني بمظهرها .. والمصابيح الملونة ، وقوارير العطر ، وشدات الورد .
    وكان يسار يتردد على دكان العطَّار أبي علي الأصفهاني ، ومنه يشتري العطر الذي يستعمله .. وهو يقول : إن النبي - e - كان يحب الطيب .
    وبعد مضي أسبوعين على محاولة الجارية ، وفي عصر الأربعاء من نهار مشمس جميل ، أقبل يسار على أبي علي الأصفهاني ، وكان هذا قصيرًا سمينًا ، قد أعفى لحيته وخضبها ، وكان لا يكف عن الحديث عن العطور التي يبيعها وأنواعها وجودتها ..
    وما هي إلا هَنَيْهة ، حتى أقبلت الجارية ، والخادم مريد يسير إلى جانبها ووقفت على دكان أبي علي العطَّار ، وراحت تسأله باللغة الفارسية عما لديه من العطور ، دون أن تلتفت إلى يسار .. أما مريد فإنه ألقى التحية عليه ، ووقف ينتظر .
    واحتفل العطَّار بها ، وأخذ يعرض عليها نماذج كثيرة ، وهي ترفضها بإشارة من يدها ، ولم يبد على يسار أي اهتمام بالجارية ، ولكنه انتبه بعد ذلك عندما سمع العطَّار يقول باللغة العربية ، وهو يعرض عليها نوعًا من العطر :
    - إنه أجود أنواع العطور يا سيدتي ، إن يسارًا يستعمله .
    أليس كذلك يا سيدي ؟
    ولم يجب يسار ، ولم يرفع إليها نظره .
    أما الجارية ، فقد التفتت إليه ، وألقت عليه نظرة سريعة ، ثم عادت تخاطب العطَّار ، وقد غيرت من أسلوبها وحركاتها وقالت :
    - لقد ذكرت لي مرة أن لديك نوعًا من العطر الصيني ..
    فهزَّ العطار رأسه وقال بأسف :
    - لقد نفذ يا سيدي .. لم يبق منه شيء .. أتدرين يا سيدتي .. إنه يستخرج من زهرة الحياة ، إنها زهرة تنبت على الهضاب الزرقاء في بلاد الصين ، إن أوراقها يا سيدتي تجلب الشفاء .. إنها ..
    وانتبه العطَّار .. إن الجارية لم تكن تنظر إليه ، ولا تستمع لحديثه ، كانت تنظر خِلْسة إلى يسار .. إلى الفتى الذي ضاق بحديث العطار ، والذي سمعه منه مرات ومرات .. هذا هو الفتى الذي حدَّثها عنه حبيب بن مسعود ، إنه لم يتجاوز في وصفه ، بل لم يبلغ في وصفه ..
    وتنحنح العطَّار وهو يرفع يده يعدل عمامته .. وقال :
    - انتظري لحظه ..
    ثم خرج من دكانه وهو يقول :
    - سأجلب لك من آخر السوق .
    وهمَّ يسار بالانصراف ، فلم يكن يرغب في البقاء طويلاً في مثل هذا السوق ، ولم يكن يلبث إلا بمقدار ما يتناول حاجته من العطر ثم يعود سريعًا ..
    قال أبو العرفان : فالتفتت إليه الجارية وقالت بصوت ناعم :
    - إنني متأسفة يا سيدي .
    والتفت إليها ، ولم يكن قد وقع عليها نظره حتى هذه الساعة ، فلما التقت العينان ، أسبلت جفونها في خفر العذارى ، وقالت بصوت هامس :
    - إنني متأسفة يا سيدي .. لم أستطع أن أكتب مشكلتي .. ليتك تسمعها . فغض بصره ، وقد تذكر الرقعة التي حملها إليه مريد ، وقال :
    - تكلَّمي :
    قالت .. وبصوت كأنين الوتر الحزين :
    - الآن يا سيدي ؟
    قال ، ودون أن يلتفت إليها ، أو يرفع نظره مرة أخرى :
    - نعم .
    قالت .. وهي تحاول أن تجره للحديث :
    - هنا في السوق ؟
    قال : نعم .
    وعاد العطَّار وهو يمسح جبينه من العرق وينفخ ، وقال متعذرًا :
    - لم يبق لديه شيء يا سيدتي .
    وتنهَّدت الجارية وقالت :
    - سأعود مرة أخرى .
    ثم انصرف بعد أن ألقت على يسار نظرة ، جعلته يطرق خجلاً .
    ثم انتبه إلى صوت العطَّار يقول :
    - إن هذه الجارية ليست فارسية .
    والتفت يسار ، وكأنه يسأله .. فأضاف العطَّار قائلاً :
    - إنها ليست فارسية .. علمت ذلك من لهجتها .
    قال أبو العرفان : أبو علي العطَّار أعلم بلهجات القوم من غيره .
    قال أبو الحسن الورَّاق : لم تنل الجارية من يسار ، إلا كما ينال التراب من السحاب ، كيف لا .. وهو الفتى الذي لم يترك ثغرة ينفذ منها الشيطان إلى نفسه إلا أغلقها .
    وعندما عاد تلك الليلة ، بعد صلاة العشاء ، وقبل أن يقف للصلاة لقيام الليل ، خيل إليه كأنه يسمع همسة ، أو لحنًا ، أو صوتًا أليفًا ..! ولم يفكر في ذلك ، وإنما انصرف إلى صلاته ، لا يشغله عنها شاغل ، فالليل مركب الصالحين ، ومطيَّة العباد ، وأقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل .
    وبعد أن صلى ثماني ركعات ، وختمها بصلاة الوتر ، استلقى على فراشه ، وأخذ يردد بصوت خافت خاشع .. باسمك ربي وضعت جنبي ، وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فاغفر لها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين .. وقبل أن يلفه النوم بين أحضانه ، تذكر أين سمع ذلك الهمس ، أو اللحن .. سمعه عصر اليوم ، عند دكان العطَّار ، سمعه من الجارية الفارسية التي ذكرت أن لديها مشكلة تريد أن تعرضها عليه .
    وأسرع يسار فصرف هذه الخواطر ، وشعر أنها دخيلة عليه ، دخيلة على محرابه الآمن الذي تعمره التقوى ، إنها ليست من مدد السماء . وانتقل إلى جو الآية التي كان يرددها أثناء الصلاة : }إن لدينا أنكالاً وجحيمًا وطعامًا ذا غصة وعذابًا أليمًا{ . كل هذا العذاب ينتظر الإنسان الضال ، الإنسان الآبق من رحمة الله ! إن الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا . وتدحرجت دمعة كبيرة على خده ، وتبعتها دموع ، حتى بلَّلت الوسادة ، ثم راح في نوم هادئ عميق .




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  3. #3
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 32
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي


    إني صائم


    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
    لم تتساقط الأقفال كلها كما ذكر الشيخ أبو العرفان ، فقد استمر يسار يقاوم مقاومة الأبطال ، ولكن أنَّى له الثبات ، وهو الفتى الذي لم يجرب حيل النساء !!
    قال أبو العرفان : وانقطع عن الذهاب إلى المسجد الذي يصلي فيه صلاة الفجر ، ولم يعد يحضر حديث الشيخ ، وتلقفه حكيم بن محمود ، وحشى أذنه بخيالات وأوهام وحكايات ، أقل ما فيها يقسي القلب ولا يذكر بالرب .
    قال أبو الحسن الورَّاق : وكان أبو محمود هذا ، واسع الحيلة عظيم المكر ، شديد الدهاء ، وكان يجد في ألاعيبه هذه لذة وتسلية لا يجدها في غيرها .. ومن ألاعيبه أنه استطاع أن ينتزع سعيد بن منصور من بيته ويضمه إلى فرقته !!
    فقد نشأ سعيد في بيت علم وتقى ، وأبو الشيخ رحمه الله ، كان عـالمًا فاضلاً ، تفجر ينبوع الحكمة على لسانه .. إلا أنه لم يكن به ميل إلى التأليف .
    في هذا البيت الكريم نشأ سعيد ، وكان يُضرب به المثل في السلوك الحسن . وقبل سنتين أصيب بمرض ألزمه الفراش عددًا من الشهور ، فأخذ حكيم هذا يتردد عليه ، ويتودد إليه ، وصار يقص عليه حكايات أهل الفسق والمجون ، حتى توطَّدت العلاقة بينهما ، وازداد تعلق سعيد بحكيم .. وعندما نفض عن ثوب المرض ، صار لا يخرج إلا معه ، ولا يجد الراحة إلا بمجالسته .
    قال : وظني الذي أكاد أقطع به ، أنه لا يستمر معه طويلاً وسيأتي اليوم الذي يحن فيه إلى منازله الأولى ، وقد ترك له أبوه رحمه الله وصية ، ولكنه لم يلق عليها نظرة إلى يومنا هذا .!
    قال أبو العرفان : ولم يذهب يسار إلى بيت الجارية كما وعد ، فقد استيقظ في اليوم التالي بعد أذان الفجر بمدة طويلة .. وسابق قرص الشمس في الصلاة ، فاعتبر هذا دليل الهبوط في إيمانه ، وجعله يعيد النظر في نفسه ..
    أتكون الجارية قد خدعته ؟!
    ربما .. بل من المحتمل جدًا .
    ولكنه سمعها تئن .. وتتأوه .
    لقد رآها تتلوى من الألم ..
    تتساقط الدموع على خديها .
    وتمثلت له كأنها تنظر في عينيه وتقول :
    - هل تريدني أن أعيش ..
    ثم وهي تقول :
    - أنت تحبني أليس كذلك ؟
    لاشك أنه تسرع ، وتسرع كثيرًا ..
    أيكون قد كتب عليه أن يمتحن بهذه الجارية ؟!
    وعادت قصة يوسف الصديق تتمثل أمامه .. كما سمعها من فم الشيخ .. شاب ، في عز قوته وفتوته وجماله ..
    تدعوه امرأة .. نبيلة عزيزة جميلة ..
    فيقول لها بكل إباء :
    - لا ..
    ويسجل القرآن موقفه هذا بحروف من نور ، ترددها الأجيال إلى قيام الساعة ، وكلما استجدت حادثة مثلها ، أو قريبً منها : }إنه كان من عبادنا المخلصين{ .
    وصرخ يسار وه يكاد يتمزق من الألم :
    - أنا أبلغ مرتبة الإخلاص ؟!
    كيف استطاع يوسف أن يصبر ..
    وكل شيء .. كل شيء ..
    حتى الجدران الأربعة ، والأبواب الموصدة ، المرأة العاشقة ، تبذل له كل شيء ..
    تتودد إليه .. تتوسل ..
    تتمرغ على قدميه ..
    ولكنه قال كلمته : لا ..
    أي قوة إيمانية كان يتمتع بها ؟
    لابد أن يكون ما قام في قلبه ، أعظم وأجل مما تستطيع امرأة مهما بلغت من الحسن والحيلة والدهاء ، أن تصل إليه وتنال منه !!
    لقد غسل قلبه من هذه المرأة .. وملأه بمعان أخرى ، مادتها من نور ، ومصدرها السماء ، فهو دائم التحليق عاليًا عاليًا ولا ينزل إلى الأرض إلا بمقدار ما يتناول منها ما يعينه على الصعود والصمود ..
    وتنهَّد يسار وهو يردد بصوت مسموع :
    - ذلك مثل ضربه الله للفتية المؤمنين : }إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين{ .
    إن المؤمن ليمتحن بالغنى والفقر والمرض والسجن ..
    ولكن هذا الامتحان ..
    آه يا ربي ..
    لا أستطيع .. لا أستطيع يا رب .
    ومر يوم ، ويوم ، ويوم .. وبعد صلاة العصر من أحد الأيام ، رأى يسار أن يذهب إلى المقبرة ، يستمد من صمت القبور حديثًا بليغًا يعينه على مواصلة السير ..
    كيف وصل العارفون إلى ما وصلوا إليه ؟
    إنه يتذكر عندما ذهب مرة ، وقرأ بعض ما كتب على القبور ، لقد أمدته تلك الزيارة بطاقة إيمانية دفعته إلى مضاعفة الجهد ومواصلة السير .. لاسيما عندما التفت إلى صاحبه يسأله :
    - لماذا ترتفع المقبرة عن الأرض المحيطة بها ؟
    فأجابه أبو الحسين وهو يتنهَّد :
    - رب قبر قد صار قبرًا مرارًا ..
    مستشهدًا بقول الشاعر ، دون أن يأتي على الشطر الثاني من البيت .
    ليذهب هذا اليوم .. فلعل هذه الزيارة تستطيع أن تغسل من قلبه صورة الفتاة ..
    الفتاة ..
    الفتاة ..
    المريضة المسكينة التي كانت تتألم ، تتوجع ، تئن ..
    وعادت الصور تعرض في مخيلته ..
    لم تكن تقوى على النهوض ، كانت تنظر إليه بعينيها الجميلتين وكأنها تستغيث ودمعة متوسلة من عصارة القلب تدحرجت على خدها ..
    لقد أحب تلك الليلة .. أحب كل ما فيها ..
    أحب الرذاذ المتساقط الذي أرسلته السماء برفق كأنها تخشى أن توقظ الأرض النائمة ..
    والخادم الذي لم يرد أن يغادر دون أن يصحبه إليها ..
    حتى جدران الغرفة ، والسرير القرطبي الذي يقال أن أميرات الأندلس يستعملنه ، والقناديل المتألقة .. والقدح الذي تناولت منه الدواء ..
    ولم يشعر إلا وهو يقف على باب بيتها في نهاية سوق الخبازين ، وكان الوقت قد قارب المغرب ..
    ورفع يده يهم بطرق الباب ..
    ولكنه توقف ..
    وأخذت يده تهبط بهدوء ، حتى استقرت إلى جانبه .
    ثم استدار عائدًا .. من حيث أتى ..
    ومشى خطوات ..
    بطيئة ، ثقيلة ، متمهلة ..
    ثم وقف ..
    لقد شعر بشيء خفي يشده إلى الخلف .. إلى بيت الجارية ، فالتفت ينظر إلى الدار ..
    هذه نخلة باسقة تقف أمام الباب باعتزاز ، وقد تعلَّقت الشمس بجدائلها .. كيـف لم يرهـا من قبل ؟!
    وهناك أطفال يلعبون بكرات من الصوف يتقاذفون بها بأرجلهم .. وصبية صغيرة ترتدي ثوبًا أزرق تنتشر عليه خطوط بيضاء ، تسير إلى جانب أمها وهي تنظر إلى الأطفال وتضحك .
    وطفل أشقر أطل من النافذة وقد أرسل تفاحة ربطها بخيط وأخذ يؤرجحها فهو يتسلى بهذه اللعبة ..
    السماء تبدو صافية ..
    كان كل شيء في هذه المحلة يبدو لعينيه جميلاً ومحببًا ..
    البيوت المتلاصقة على الجانبين ..
    والزهور التي تطل من الشرفات ..
    والدكان القديم الذي يقع في نهاية الشارع .
    وأطفال المحلة ..
    والناس الذين يتكلمون بهمس .
    وبيت الجارية ..
    إنه يضم أجمل فتاة في الدنيا ..
    وعاد مرة أخرى ، وقد عزم على أن يطرق الباب ، لقد أيقظت هذه الأحلام مشاعره ، وازدادت رغبته ، وملأت حواسه فأقبل ملهوفًا يريد أن يطرق الباب ..
    ولكنه قبل أن يتقدم إلى الخطوة الثالثة تذكر ..
    تذكر حديث الشيخ في آخر مرة حضر فيها إلى المسجد ، كان يتحدث وعيناه تتألقان بالنور ، ونظراته تنفذ إلى الأعماق .. وعبدالله بن الشيخ إبراهيم ، ومحمد الذهب ، وأبو الحسن علي بن حسين ، وعبود وسلمان النجدي ، وغيرهم . كلهم يستمعون إليه .. أما هو فقد استطاع أن يتحاشى النظر إلى الشيخ طول الوقت لئلا يفتضح ..
    وتذكر كيف ضرب الشيخ مثلاً للسائرين إلى الله ..
    ترى أين مكانه ؟
    هل هو في حال المتحرج من الجبل ؟!
    وإلى أين وصل ؟
    أتقف هذه المرأة في طريقه ؟
    وغضب يسار وهو يرى أنه قد أهين بجره إلى هذا الطريق .. وعزم على أن يقابل الجارية ليرى ماذا كانت تريد أن تقوله .. ولكي يصرخ في وجهها ، سيقول لها صراحة :
    - أنا أكرهك .
    سوف يتخلص منها بلا ريب ..
    وأسرع الخطو ..
    وطرق الباب ..
    وانتظر ..
    انتظر طويلاً .. فلم يفتح الباب !
    وطرق مرة أخرى .. وتمنى لو سمع صوتًا .. أي صوت .. فلم يسمع إلا شقشقة العصافير على النخلة الباسقة التي تجاوزت في ارتفاعها سطح الدار .. وأراد أن يعود .. ولكن ..
    وتذكر أن الطرق المسموح به ثلاث مرات ، وقد طرق مرتين .. ورفع يده ..
    قال أبو العرفان : أخبرني من أثق به ، أن الجارية كانت قد أبصرت بيسار عندما أقبل ، وإنها كنت تقف وراء الباب تنظر إليه من ثقب صغير .. قال : فلما طرق الثالثة ، انتظرت حتى هم بالانصراف ، ثم فتحت الباب .. وبدت له بشعرها الطويل الأسود اللامع الذي أرسلته على كتفيها ، وعينيها الكحيلتين ، وأنفها الصغير المستقيم ، ووجهها الذي عادت إليه العافية فأكسبته بهاءً ورواءً .
    ورحبت به بابتسامة غمرت كل أعضائها ، وبصوت كالهمس قالت :
    - تفضل ..
    وقبل أن يتعذر ، رآها تترك الباب مفتوحًا ، وتتقدمه إلى غرفة الاستقبال .. ولم يشعر إلا وهو هناك ، والجارية تشير إليه بكل رقة وتدعوه للجلوس . ثم تركت الغرفة ، وعادت بعد قليل وقد زيَّنت شعرها بوردة بيضاء ، وحلمت إليه في صينية مستديرة قدحًا من عصير الرمان .
    وأمام هذا نسي حديث الشيخ ونسي نفسه ، ونسي كل شيء وعاد لا يعيش إلا هذه اللحظة .. ولا يدري كيف امتدت يده إلى القدح الذي يحاكي لونه لون شفتيها ، وهل كان ينظر إلى القدح أم إليها ! كان ينظر إليها كالمسحور ، ولم ينتبه إلا على صوتها وهي تصبح :
    - انتبه يا سيدي .. العصير ..
    كانت يده قد مالت بالقدح ، وكاد العصير يتبدد على ثوبه .
    ونسي يسار الغرض الذي جاء من أجله .. ولم يشعر إلا وهو يقول لها بصوت خافت متقطع :
    - كيف حالك ؟
    قالت وهي تنظر في عينيه ، وكأنها تريد أن تنفذ إلى قلبه :
    - الحمد لله .
    قال :
    - أنت أحسن حالاً .. أليس كذلك ؟
    فاهتزت الوردة التي تزين شعرها ، وقالت :
    - بفضلك يا سيدي .
    قال وكأنه يهمس في أذنها التي يزينها القرط اللؤلؤي :
    - الفضل لله وحده .
    قالت وابتسامة السرور تملأ وجهها :
    - أنت ناولتني الدواء .. وكان فيه الشفاء .
    وغض بصره .. وبقي صامتًا لحظات .. والقلوب تتحدث بدقَّاتها الرتيبة .. ثم نظر إليها كالولهان وقال :
    - لم أعد أصبر يا سرشير ..
    وأجابته وعطر أنفاسها يلامس وجهه :
    - ولا أنا ..
    وكان لا يزال يحمل القدح بيده عندما قالت :
    - لقد صنعته لك ..
    قال بنفس الصوت الخافت الحالم :
    - وما يدريك أنني سأجيء ؟
    قالت وهي تشير بأطراف أناملها الخضبة :
    - قلبي حدثني ..
    ورفع القدح إلى فمه ..
    والتقت العيون في عناق طويل ..
    وأدنت كرسيها وهي تقول :
    - اشرب .. أنا صنعته .. بيدي ..
    ومدت يدها .. تريد أن تسقيه .
    واقتربت من يده ..
    ولم تبق إلا مسافة قصيرة .. قصيرة ..
    وارتفع صوت المؤذن لصلاة المغرب ..
    الله أكبر ..
    الله أكبر ..
    فألقى يسار بالقدح وكأنه أصيب بلذع .. ونهض وهو يقول :
    - إني صائم ..
    قالت :
    إنه أذان المغرب .
    ولكنه أسرع نحو الباب وهو يقول :
    - يجب أن أنصرف .
    وخرج يسار ، والدنيا تميد به ، ولا يدري كيف قادته قدماه إلى هنا .. إلى بيت الجارية ..!
    قال أبو الحسن الورَّاق : ومنذ ذلك اليوم تغيَّر يسار ..
    لم يعد كما كان .. لم يعد ذلك العابد الزاهد الذي تملأ عليه العبادة أقطار حياته .
    قال الشيخ جواد : قد يعزف الرجل عن نساء الدنيا كلها ، ولكن امرأة واحدة تستطيع أن تتسلل إلى قلبه وتحتل مكانًا فيه فلا تغادره .




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  4. #4
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 32
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي



    القلب المهزوم


    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
    لم يدر يسار كيف أدَّى صلاة المغرب والعشاء ..
    لم يدر كيف قادته رجلاه إلى بيت الجارية .. لم يدر كيف سمح لنفسه أن يقول لها ما قال ..
    كان في طريقه إلى البيت بعد صلاة العشاء ، وكان القمر كئيبًا حزينًا ، والهواء باردًا ، وغيوم مبعثرة في السماء ..
    كيف ذهب إلى بيت الجارية ؟
    كان يريد أن يذهب إلى المقبرة .. يريد أن يقرأ بعض ما كتب عليها .. ليستمد منها العزم والصبر والتصميم ، فهي الواعظ المفلق !
    ولكن أين وجد نفسه ؟
    كانت هناك .. استقبلته .. سمع صوتها .. تحدَّثت إليه بعينيها .. بهمسها .. بقلبها ..
    حملت إليه كأس العصير ..
    حملته بيدها ..
    بنفسها ..
    وانتبه إلى نفسه ، فإذا به يقف على باب بيتها ..
    هل يصدق ما قيل عن مجنون بني عامر !! ووضع يده على الباب ، لابد أنها وضعت يدها هنا ..
    وتلفت حوله ..
    هذه النخلة الباسقة التي يتوجها سعف أخضر ، تنظر إليه في صمت وهدوء ، تدغدها الريح أحيانًا فيسمع حفيفها كأنه الهمس ..
    وتنهَّد وهو يستند بظهره على الباب .
    واشتدَّت الريح ، وانطفأت الفوانيس ، وبدأ وجه القمر شاحبًا لا أثر فيه للجمال .
    وعاد يسار يجر الخطى وقلبه يلتفت إلى بيت الجارية ..
    وعندما وصل إلى البيت ، واحتوته الغرفة ، شعر بضيق شديد ، شعر كأن جدران الغرفة تشدد الحصار على قلبه المهزوم .. فأسرع يفتح النافذة . وهجم الهواء ، وتنفَّس يسار ملء صدره ، ولم يشعر إلا وهو يردد ما كتبه له الشيخ في يوم من الأيام ، وطلب إليه أن يردده كثيرًا : }رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين{ .
    وبقي الهواء المغسول بماء النهر يرطب فؤاده ، فشعر بشيء من الراحة .. ثم عزم على أن لا يعود إلى بيت الجارية ، لن تتكرر حادثة اليوم أبدًا .. إنه من الخير أن لا يعود ، سيغسلها من قلبه ، سوف لا يدع لها أثرًا على بساطه .. وإلا ..
    قال أبو الحسن الورَّاق : كانت أمه تنظر إليه وتتألم ..
    تشعر أن ابنها هذا يعيش مشكلة عظيمة قد أحاطت به ولا يستطيع التخلص منها ..
    ولكن ما هي هذه المشكلة ؟
    إنها تستطيع أن تتصور كل مشكلة يمكن أن يقع فيها إلا هذه المشكلة !! إن عاصفة قوية قد هبَّت على قلبه فأشاعت فيه الحيرة والقلق ، ولكنه أسدل عليها ستارًا من التصبُّر والتجمُّل محاولاً كتمانها وعدم ظهورها للعيان .. ولكنها ظهرت ..
    رغم كل ما كان يبذله من مقاومة .
    أما أبوه ، فلم يلتفت على حاله ، فقد كان مشغولاً بالسوق طول يومه ، حتى إذا عاد إلى البيت ، عاد متعبًا منهوك القوى ، لا يود سماع شيء يكدر عليه هدوءه وراحته !
    ولم يغب حاله عن أخته الصغيرة اللطيفة الوديعة سناء ، فكانت تنظر إليه وتتألم .. وتسأله في كل مرة :
    - ماذا ألمَّ بك ؟
    فلا يجيب إلا بتنهدة عميقة ، أو زفرة حارة ، أو يشح بوجهه عنها ، فتنطلق وراء قطتها ..
    وكان يسار قد استنفد قواه ، ونال منه الجهد ، ولم يعد يحتمل مجاهدة نفسه ، فقد استطاعت الجارية أن تتغلغل إلى شغاف قلبه .. فلما انجذب إليها ذلك الانجذاب العجيب .. أخذت تتهرب منه !!
    فاضطرمت النار في أحشائه ، وتغيرت حاله ، وصار لا يقر له قرار ، وشعر بوحشة قاتلة ، ويأس مرير ، ولم يعرف كيف يداوي ما به ، ولا يريد أن يداوي ما به !
    لم يعد له ذلك الهدوء اللطيف ، والطمأنينة التي يجدها في جنب الشيخ وهو يستمع إلى حديثه الذي يملأ القلب نورًا وبهجة ، وإيمانًا ويقينًا ..
    وصار يتلوَّى كما يتلوى السقيم ..
    ولم يرحم أبو محمود حاله ، فأخذ يشير عليه أن يداوي ما به بشرب الخمر !!
    وأجابه بكل عزم وتصميم :
    - معاذ الله .. لا كان ذلك اليوم الذي أقارف فيه هذا المنكر .
    وأصبحت صلاته خفيفة جافة ، ليس لها جذور في القلب .. كأنها أوراق يابسة على شجرة في طريقها إلى الذبول !
    وأخذ يحس في قعر قلبه بنار متأججة ، واضطراب وعدم راحة ، وعرف السر الذي يدعو هؤلاء إلى انتهاب اللذات ، والانغماس في الشهوات ومقارفة المنكرات .
    تكشف له سر ذلك كأجلى وأوضح ما يكون ..
    إنهم يعيشون حياة قلقة ، جافة ، لا أثر فيها للهدوء أو الراحة ، إنهم يسيرون في طريق متعثر شائك ، يهربون منه إلى طريق أشق منه وأوعر .. إنهم ينتقلون بين النار والرمضاء ..
    وعلى كليهما لا يجدون الراحة ولا الهدوء ولا الطمأنينة !!
    تكشف له كل هذا .. ولكنه هاهو معهم ..
    فلماذا لا يتركهم ..
    إلى أين يذهب ؟
    إنه لم يعد يصلح للعودة إلى أصحابه ، إلى إخوته الأطهار ، الذين يخشى الواحد منهم أن يتلكم بالكلمة الواحدة إلا بعد تقليبها على وجوهها لئلا يكون فيها شيء من مساخط الله ..
    إنهم ينقون الكلام كما ينقي الواحد منا التمر ..
    إنهم يصدرون في معظم أمورهم وكأن النار لم تخلق إلا لهم !
    أما هؤلاء ..
    السادرون في لهوهم وعبثهم .. فكأن الجنة لم تخلق إلا لهم .
    ولكن ..
    هاهم يكتوون بنار الدنيا ، فلا يجدون لذة للحياة .. وقد يصل الأمر ببعضهم إلى أن يظن أن طريق الخلاص لا يكون إلا بقتل نفسه !!
    والجارية ..
    لم يعد يدعو الله بأن يبعدها عن طريقه ، بل أخذ يتلهف لرؤيتها ، وينتظر الساعة تلو الساعة لكي يراها .. وأخذ يتصورها في حركتها ، في مشتها ، في ضحكتها ..
    في كل شأن من شؤونها !!




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  5. #5
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 32
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي


    ما رأيكم سنقوم بتحويل أشخاص القصة الى رموز :

    الشاب يسار يمثل : ارادة الانسان
    و الجارية سرشير تمثل : زينة الحياة الدنيا .
    و الخبيث حكيم يمثل : ابليس اللعين .


    بانتظار مشاركتكم .




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  6. #6
    الإشراف العام
    الهزبر غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 3
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 7,445
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : أرض مسلمة
    الاهتمام : كل مافيه الخير لي ولامتي
    الوظيفة : مدرّس لغة عربية
    معدل تقييم المستوى : 24

    افتراضي


    السلام عليكم

    قصة طريفة مليئة بالعبر.

    الشاب يسار يمثل : ارادة الانسان
    و الجارية سرشير تمثل : زينة الحياة الدنيا .
    و الخبيث حكيم يمثل : ابليس اللعين .
    ونعم التمثيل اخي.


    ماهو مصدر الحكاية؟




    [SIZE=6]
    [FONT=Traditional Arabic]كل العداوات ترجى مودتها*إلا عداوة من عاداك في الدين
    /*/*/*/
    لا يستقل العقل دون هداية*بالوحي تأصيلا ولا تفصيلا
    كالطّرف دون النور ليس بمدرك*حتى يراه بكرة واصيلا





  7. #7
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 32
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي


    ماهو مصدر الحكاية؟
    تفضل :
    http://www.saaid.net/book/open.php?book=118&cat=93




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  8. #8

    فارس من الفرسان

    الصورة الرمزية فــارس الإســلام
    فــارس الإســلام غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2261
    تاريخ التسجيل : 9 - 6 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 673
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    البلد : بلاد الحرمين
    الاهتمام : طلب العلم الشرعي
    الوظيفة : طالب ثـانوي عام
    معدل تقييم المستوى : 14

    افتراضي


    بصراحة قرأت القصة كاملة فلم أجد كلمات تنفع لوصفها

    جزاك الله خيراً أخي الحبيب على النقل الماتع فقد أثرت القصة في قلبي تأثيراً كبيراً




    قال ابن المبارك : مَا أَعْيَانِي شَيْءٌ كَمَا أَعْيَانِي أَنْ لَا أَجِدَ أَخًا فِي اللَّه

  9. #9
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 32
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي


    و اياكم أخونا الحبيب فارس الاسلام ، أفتقدك كثيرا .




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




 

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. شرح حديث "انما الأعمال بالنيات " لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى مصطلح الحديث وعلومه
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 2011-04-28, 07:50 PM
  2. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2011-03-07, 11:53 PM
  3. تنبيه مهم جدًا
    بواسطة معارج القبول في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 2010-01-31, 11:45 AM
  4. تنبيه إلى الأعضاء!!
    بواسطة الداعي في المنتدى التواصل واستراحة المنتدى
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 2009-10-11, 06:32 PM
  5. تنبيه هام لكل المسلمين
    بواسطة نوران في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 2008-10-28, 12:57 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML