من الفرما.. إلى حصن بابليون

موقع قصة الإسلام
بعد موافقة الخليفة عمر والمجلس العسكري على فتح مصر وخطة الفتح، تحرك الجيش الإسلامي بقيادة عمرة بن العاص t وتحت قيادته دون أربعة الآلاف مقاتل معظمهم من الفرسان. سار عمرو بجيشه من قَيْسارِية، حتى إذا مَرَّ بجبل الحلال قبل أن يبلغ العريش، وكانت تنزل به قبائل من راشدة ومن لخم انضمت إليه، فأصبحت قواته أربعة آلاف سار بهم إلى مصر.

وكان عمرو t قد جاء من بلاد الشام في ثلاثة آلاف وخمسمائة من عك، ثلثهم من غافق، ثم صاروا أربعة آلاف بمن انضم إليهم
من راشدة ولخم، وعلى ذلك يصير الجيش الذي سار مع عمرو لفتح مصر كالآتي:

- 1160 من غافق (وغافق من عك؛ فهو غافق بن الشاهد بن عك).
- 2340 من عك.
- 500 من راشدة ولخم (وراشدة من لخم - راشدة بن مالك بن خالفة بن أد بن نمارة بن لخم).



توجه عمرو إلى العريش فأدركه عيد النحر (10 من ذي الحجة سنة 19هـ) كما ذكر ذلك البلاذري، فَضَحَّى عن أصحابه بكبش، وذلك اليوم كان يوافق 29 من نوفمبر 640م. وهنا وقع حادث بسيط ولكنه يكشف عن نفسية عمرو ونوعيته كقائد مسلم.

فقد هلك جمل لرجل ممن خرج معه من الشام، فجاء إلى عمرو ليجد له ما يركبه، وكانوا في البادية فقال له عمرو: تحمل مع أصحابك حتى تبلغ أول العامر. فلما بلغوا العريش عاد إليه الرجل فأمر له عمرو بجملين وقال له: "لن تزالوا بخير ما رحمتكم أئمتكم، فإذا لم يرحموكم هلكتم وهلكوا"!!

فكان عمرو يدرك مسئوليته عن أصحابه وعن ركائبهم، وأنه يَهْلك ويُهلك أصحابه إن لم يرحمهم ويدبر لهم ما يحملهم عليه.

ولما بلغ المقوقس مجيء جيش المسلمين إلى مصر أرسل جيشًا لملاقاة عمرو، فتلاقيا على الفرما فكان أول قتال.
والفرما: مدينة من أقدم الرباطات المصرية بقرب الحدود الشرقية لمصر، وكانت في زمن الفراعنة حصن مصر من جهة الشرق؛ لأنها في طريق المغيرين على مصر اسماها القديم "بر آمون" أي: بيت الإله آمون، ومنه اسمها العبري "بَرَمُون"، والقبطي "برما"، ومن هذا أتى الاسم العربي وهو الفرما، وسماها الروم: "بيلوز"، ومعناها الوحلة؛ لأنها كانت واقعة في منطقة من الأوحال بسبب تغطية مياه البحر الأبيض لأراضي تلك المنطقة، وكانت الفرما تستقي الماء قديمًا من الفرع البيلوزي للنيل، وقد اندثرت هذه المدينة وتعرف اليوم آثارها بتل الفرما، على بعد ثلاثة كيلو مترات من ساحل البحر الأبيض المتوسط، وعلى بعد 23 كيلو مترًا شرقي محطة الطينة الواقعة على السكك الحديدية التي بين بورسعيد والإسماعيلية.

فتح الفرما.. تحليلٌ وردٌّ
في تقدير بتلر أن فتح الفرما كان في منتصف يناير 640م، وينتقد "سيروس" إذ لم يرسل عشرة آلاف من الروم ليهزموا الفئة القليلة من العرب بين العريش والفرما أو تحت حصن الفرما، ثم يخلص من ذلك أن سيروس بدأ خيانته للدولة بالاتفاق مع العرب وإعانتهم على دولته، وقال: ولسنا نجد غير هذا الرأي ما نفسر به مسلكه، ولا سيما ما وقع منه بعد ذلك.

وما ذهب إليه بتلر لم تذهب إليه أية رواية من الروايات العربية؛ فقد كان بتلر يريد أن يعزو نجاح المسلمين في الاستيلاء على مدينة الفرما لسبب رئيسي، هو خيانة المقوقس قيرس العظمى للدولة؛ لأنه قَصَّر في حقها حين لم يبادر بإرسال عشرة آلاف جندي إليها ليعوقوا مسيرة عمرو، واكتفوا بالمسلحة التي كانت ترابط فيها للدفاع عنها.

وقبل أن نتناول هذا الكلام بالرد والتفنيد نقول بادئ ذي بدء: إن الغرض المفهوم والمقصود من منطق بتلر هو تجريد الفتح الإسلامي من مزية نصر استحقه بعد كفاح مرير استمر شهرًا أو شهرين. وفي معرض الإنصاف يقتضينا الواقع أن نقول: إن مساحة المدينة الرومانية كانت تحتمي بأسوارها وتتحصن بحصونها، ولو كانت قيادتها تعلم أنهم أقل عددًا من المسلمين وأضعف استعدادًا ما فكروا ولو للحظة واحدة في التخلي عن مزاياهم الحربية، والخروج للقاء المسلمين في ساحة تُعرَف فيها أقدارُ الجيوش وأوزان الرجال. وما ذكرناه قبلُ يدل على وقوع قتال بين الطرفين، بل إن الكندي يقول: فتقدم عمرو إلى الفرما وبها جموع فقاتلهم فهزمهم. أما ما نرد به على ألفرد بتلر فيتلخص في نقطتين:

الأولى: أن القيادة الرومانية كانت تعلم بيقين أن المسلمين في الطريق إلى مصر بعد أن خلص لهم الشام، كما يقول بتلر نفسه (ص 188)، ولذلك فقد كانت خطتهم في مواجهة هذا الزحف الذي أدركوا خطورته في حروب الشام المريرة أن يبذلوا أقصى الطاقة في حشد الجنود وإعدادها؛ انتظارًا وترقبًا لملاقاة جيوش المسلمين، وكان من أنسب المواقع لهذه الخطة حصن بابليون؛ لقوته وبُعدِه عن مراكز تجمع المسلمين، ولاتصاله وقربه من العاصمة الإسكندرية والمواقع الأخرى التي كانت موزعة على اتساع مصر السفلى (الوجه البحري).

وهو تفكير صائب من جهة أن المسلمين كان عليهم لكي يصلوا إلى بابليون أن يقطعوا مسافة غير قصيرة، سوف تستنزف بعض قوتهم في مواقع متقدمة محصنة ومسلحة بالجند المستعدين للقتال، وهذه الخطة تستلزم بالضرورة عدم التفريط في عشرة آلاف جندي يُرسَلون إلى الفرما في ظروف كانت غير مأمونة، وربما لنتيجة غير مضمونة.

الثانية: أن بتلر نفسه يؤكد أن إرسال عشرة آلاف جندي روماني إلى الفرما لو حدث لما حال بين المسلمين وبين فتح هذه البلاد أمدًا طويلاً. وواضح أنه بهذا القول الذي لا لبس فيه يدافع من حيث لا يدري عن المقوقس والقيادة العسكرية الرومانية في مصر؛ لأنهم لم يُستدرَجوا إلى الفرما، وبالتالي لم يكن في تصرفاتهم أثناء زحف المسلمين على مصر، ذلك الخطأ المزعوم الذي رَتَّبَ عليه بتلر زعمًا لا يقل الادعاء فيه عن سابقه - إن لم يَفُقْهُ - ألا وهو الخيانة العظمى التي اقترفها المقوقس ضد إمبراطوريته التي أذن برحيلها عن مصر.