الــــفــــصـــل الـــثـــّالــــث



الـــصـّــراع عــلــى الــسـّـــلـــطة



" الــحــرب الأهــلــيـّة " الــمــســيــحــيـّـة



نــــســــيــــج مــركـّـــب :

ما فعلته روما لم يكن إستئجار قبائل البرابرة للقتال في حروبها فحسب , بل كانت مثل القوى الإمبريالية في هذا الزمن تتدخـّل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في "الشؤون القبلية" في ما وراء حدودها . كان لروما "ملوكها العملاء" ,و أسرها الملكية الرهينة و طالبو اللجوء و قناصلها "البرابرة" . و كانت تشجـّع على النزاع بين القبائل و تستخدم نفوذها , المال و الديبلوماسية , للتأثير على نتائج كل أزمة من أزمات القيادة القبلية .
و ما فعله البرابرة كان اكثر من القتال لحساب روما . فقد تنافسوا فيما بينهم لصالح الإمبراطورية , و ساندوا المرشحين المتخاصمين على لقب إمبراطور و أشتركوا في حروب روما الأهلية . و كان ممكنا أن تقاتل قبيلة مع وضد الإمبراطور على حد سواء في موسم حملة عسكرية واحدة . و كان البرابرة يعيدون تاسيس الحكم الروماني في مقابل الأراضي و الألقاب . كان القائد العام "الروماني " في معظم الأحيان هو نفسه ذا دم بربي . و في نهاية المطاف كان زعماء القبائل البربرية و شيوخها يعيينون القياصرة و الأغاسطة . و عندما تعبوا من كل هذه القصة كانوا لا يزالون معترفين بسلطة الغمبراطور في القسطنطينية .

من خلال ذلك , و أثناء القرون من 4 م إلى6 م , كانت الحرب مشتعلة بين الآريوسية و الكاثوليكية , التؤم الرهيب للديانة الشريرة الحاقدة . ذاك الصراع غامض و يكاد يكون منسيّا الآن كان مع ذلك عنيفا و ذا نتيجة حاسمة . الأقذر من بين الأثنين ــ الكاثوليكية ــ كان قد إنتصر . و كان إلغاء الآريوسية مثل إلغاء الوثنية قبلها , إلغاء للتسامح الديني .

كانت الحقيقة شديدة الوضوح هي أن المعتقد الكاثوليكي المتعصب و العنيف و اللامتسامح كان يدمر كل ما يقف في طـــريـــقه




الآريوسيون الغدارون يحرقون كنيسة كاثوليكية
صورة دعائية من القرن التاسع


الآريـــوســـيـّـة ــــ آخـــر رابــط لـلــمــســيــحــيــة بـالــعــقــلانــيـّـة


لم يفقد المثقفون المدرّبون في مدارس الفلسفة اليونانيـّة و العقلانيـّة عقولهم بالكامل عندما صاروا لاهوتيينن مسيحيين . لذلك كان من المعقول تماما بالنسبة لهم الإنطلاق من مفهوم رب مفرد واحد خالق للكون في إقتراح أي شيء آخر يمكن أن يكونه المسيح , فهو أقل من الإله الأعلى , و تابع له , هو شيء ما بين الإنسان العادي و الإله القدير .

هذه بإختصار كانت وجهة نظر آريوس , اللاهوتي المنظـّر من مدينة إسكندرية القرن الرابع
يقول آريوس :
" المخلوق أقلّ من خالقه . الإبن أقل من الآب الذي " أنجبه " . في البدء كان الإله الخالق ولم يكن هناك إبن "

كان لاهوتا بسيطا , له درجة ما من العقلانية , و أيضا ميزة إمكانية فهمه بسهولة . و كان يبرز تأثير الأفلاطونية المحدثة الإسكندرانية على آريوس , و خصوصا آراء لوسيان الأنطاكي .

مع الإقتباس الحّر من معجم فلاسفة ما قبل المسيحية أخذت كلمات يونانية ( جوهر " اقنوم", طبيعة , مادة , شخص..إلخ ) معان مسيحية جديدة على يد آريوس و الذين جاؤوا من بعده .

كان آريوس خطيبا فصيحا بارعا , و كاتبا ( أعظم اعماله سنة 323 كان كتاب " ثاليا" الذي أحرق طبعا فيما بعد ) و مؤلف أغان ! كانت أغانيه عن البحر قد جعلت افكاره الدينية شعبية و مشهورة في المدن الموانيء .

لكن كان لآريوس خصما سياسيا معاديا يصغره بكثيرمن السنين في شخص أثاناسيوس الإسكندراني .
كان أثاناسيوس , و هو ربيب الأسقف إذ ذاك ( الكسندر) , قد كـرّس نفسه لحفظ الكتابات المقدسة و " العلم الحقيقي للأسرار الغامضة "

لم تكن التقديرات و الآراء اللاهوتية المظهر القويّ لأثناسيوس , كذلك لم يكن مرتبطا بالكتابات المقدسة لوحدها فقط , كان يقف بجانب الإيمان و خبرة السّر الإلهي , مثلما فسرتها "التقاليد الكنسية " . و لم يكن في حاجة لمنطق فلاسفة يونانيين .
" لما كانت الفلسفة لا تستطيع ان تقنع بالخلود و الطيبة إلا زمرة منتقاة ـــ فإن رجالا ضعاف العقول قد غرسوا في جماهير الكنائس مبدأ الحياة الخارقة للطبيعة"
– On the Incarnation, 47. ( عـن التجسد ص 47 )


أثــانـاســيــوس و " الــســرّ الإلــهــي "


"" الآريوسية هي الجدال في الخلق فوق كل شيء عند أثاناسيوس الذي صمـّم على إظهار أي بديل مقترح للصيغة التي أقرّتها نيقيا يسقط على نحو ما في صورة من صور تعاليم آريوس , مع كل ما تعرضه تلك التعاليم من نقص وتنافر ""
– R. Williams, Arius, p247.


إن مصدر إلهام لامعقولية أثاناسيوس ليس الإسكندرية مدينة الثقافة اليونانية , بل مصر العليا , موطن الطقوسية و " الأسرار " الدينية القديمة . كما أضيف إلى هذه التقاليد , في القرن الرابع , رهبان هاربون و نسـّاك زاهدون ,مثل بولس الطيبي و أنطونيو الكومي
'Paul of Thebes' and 'Antony of Coma' الذين قضى معهم أثاناسيوس بضع سنوات في السابق . كان المسيحيون منشغلون خلال القرن الرابع في مصر العليا بتنصير المعابد الفرعونية , وإتحوير تلك التي لم يدمروها .

مذبح مسيحي منقوش في معبد فرعوني .
تل العمارنة ,عاصمة أخناتون

فاز أثاناسيوس بعرش الأسقفية , بالترويج له وتزكيته فوق الموقـّر آريوس , سنة 328 وتمسـّك به لأكثر من 40 سنة ( رغم قضائه لنصفها في المنفى ) .و لقد دافع دفاعا عنيدا عن حقّ الكنسيين في تفسير المشيئة الإلهية ــ و بذا وضع " التعاليم الكنسية " على قدم المساواة مع كتب الإنجيل .

طوال حياته الصاخبة ـــ و قد تعرض للنفي من جانب ليس أقل من أربعة أباطرة رومان ـــ تشبـّث أثاناسيوس بصلابة بالمذهب القائل أن يسوع كان إلها ( تماما مثلما كان حورس بن أوزيروس إلها ). إن الله الواحد الحقيقي يجعل مشيئته و كلمته و حكمته ظاهرة خلال "إنبثاقات" و يسوع كان " إنبثاقا" من هذه الإنبثاقات . إن تربيع هذه الدائرة الخاصة ــ توحيد و أيضا يسوع إله ــ أقتضى صيغة " سر" غير منطقيّ بصورة غريبة ـــ لكن مصر إذ ذاك كانت المكان فقط لإيجاد مثل هذه الصيغة . لقد رجع أثاناسيوس عدة مرات إلى مصر العليا للأختباء بين الرهبان خلال فترات النفي ( 356ـــ61 ؛ 362 ـ 63 ؛ 365 ــ 66 )

لقد عبد المصريون دائما هذه الإنبثاقات , مجمعينها في ثالوث على نحومعتاد ( في الواقع سلسلة كاملة من الثواليث ) وهكذا , إيزيس ـ حورس ـ سيت , آموم ـ ماوت ـ خونسو , آتوم ـ شوـ تيفونت ـ ماعت ,إلخ إلخ إلخ حكموا لثلاثين قرن الربوبية الأبدية في مصر.

السمة الرئيسية للمصريين ( وأثاناسيوس ) هو الإله البشري الرابط . فالطريقة التقليدية لدى المصريين في إضافة إله إنسان إلى الربوبية كانت " منجب , غير مصنوع , من جوهر واحد مع الآب " . و دخل الفراعنة ضمن الثالوث على الأرض ( مثل حورس ) وأصبحوا العنصر السماوي ( مثل اوسيروس ) بعد الموت .

و قد كتب اثاناسيوس :


" الكلمة ,عندئذ , زار الأرض التي كان دائما موجودا فيها ... جاء الآن كإله وكإنسان ... و أظهر نفسه ,و انتصر على الموت , وعاد إلى الحياة "
– On the Incarnation ( كتاب :عن التجسد )
و هــكــذا أعــيــد صــبّ ديــانــة الــفــراعــنــة فــي قــالــب مــســيــحــي .
إن أعظم مساهمة ادبية قدمها أثاناسيوس للعالم كان عملا خياليا ( فنتازيا) , مساويا لذاك عن "التجسـّد " ,أي كتابه حياة أنطونيو الأنموذج عن إبتكار قصص القديسين . هذا الخيال كان مصدر إلهام للامعين مثل أغوسطين وجيروم في مؤلفاتهم الخاصة عن "حياة القديسين ". الحياة , أنشودة إنتصار للزهد و قوة إسم الرب , تغمرها الشياطين والمعجزات .

" وعندما قام رأى وحشا يشبه الإنسان في الفخذين لكن ساقيه و قدميه مثل ساقي وقدمي الحمار . أشار أنطونيو إلى نفسه فقط وقال انا خادم المسيح , إذا كنت بعثت ضدي فها انا ذا. لكن الوحش هرب مع ارواحه الشريرة , وأثناء عجلته في الهروب سقط ومات . و كان موت الوحش سقوط للشياطين . لنها كافحت بشتى الطرق لتقود أنطونيو خارج الصحراء لكنها لم تقدر " – Athanasius of Alexandria (Vita S. Antoni, 53) أثاناسيوس الأسكندراني ( حياة القديس انطونيو ص 53 )


إن صحراء مصر كانت دوما مصدرا للخوف بإعتبارها " موطن الشياطين" . فعجـّت الصحراء الان بنساك ــ مقتدين بانطونيو ــ لمقاتلة الشياطين ــ وبالقيام بذلك , تمّ تشريب العقيدة الوليدة بعلم الشياطين الذي سيجلب سفك الدماء والرّعب لأوربا القرون الوسطى .


حسنا , هل تصـدّق ذلك . . .
يؤكد لنا اثاناسيوس أن انطونيو قاد الأسود لحفر قبر زميله الناسك بول . أنطونيو يبدو أنه قضى حياته في لعن وباء الشياطين في الصحراء .
عمل جد خطير هذا

يتبع