وقد انتقلت هذه الأسطورة البابلية فيما يبدو عن طريق الأسرى اليهود الذين عادوا من بابل.
ومما يؤكد وصول هذه القصة إلى الفكر اليهودي ثم المسيحي أن التوراة ذكرت ما يدل على شهرة مثل هذه القصة ففي سفر حزقيال " فجاء بي إلى مدخل باب بيت الرب - الذي من جهة الشمال - وإذا هناك نسوة جالسات يبكين على تموز ". ( حزقيال 8/14 ) وتموز هو الإله البابلي الذي قتل لأجل خلاص البشر، ثم قام من بين الموتى.


موت الآلهة على الصليب :ويصف الهنود أشكالاً متعددة لموت كرشنا أهمها أنه مات معلقاً بشجرة سُمر بها بحربة وتصوره كتبهم مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب ويقول العلامة دوان: " إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد جداً عند الهنود والوثنيين .
وكذلك اعتقد أهل النيبال بمعبودهم أندرا ، ويصورونه وقد سفك دمه بالصلب ، وثقب بالمسامير كي يخلص البشر من ذنوبهم كما وصف ذلك المؤرخ هيجين في كتابه : " الانكلوسكسنس" .
وقد نقل عن العلامة التنير عدد من أصحاب الردود وثنية عقيدة الإله المتجسد والفادي للخطايا.


دماء الآلهة المسفوحة :وليست مسألة المخلص فقط هي التي نقلها بولس عن الوثنيات، فقد تحدث أيضاً عن دم المسيح المسفوح فقال: " يسوع الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه " ( رومية 3/25 )، ويقول: " ونحن الآن متبررون بدمه " ( رومية 5/9)، " أليست هي شركة دم المسيح " (كورنثوس (1) 10/16 ).
ويقول: " أنعم بها علينا في المحبوب الذي فيه لنا الفداء ، بدمه غفران الخطايا " ( أفسس 1/7 ) .
وفي موضع آخر يتحدث عن ذبح المسيح: " لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا " (كورنثوس (1) 5/7)، ومثل هذه النصوص تكثر في رسائل بولس وغيرها من الرسائل.
لكن النصارى يتغافلون عن مسألة هامة هي أن المسيح لم يذبح ، فالأناجيل تتحدث عن موت المسيح صلباً لا ذبحاً ، الموت صلباً لا يريق الدماء ، ولم يرد في الأناجيل أن المسيح نزلت منه الدماء سوى ما قاله يوحنا ، وجعله بعد وفاة المسيح حيث قال: " .. وأما يسوع فلما جاؤوا إليه لم يكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات ، لكن واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة ، وللوقت خرج دم وماء " ( يوحنا 19/23 - 24 )وهو ليس ذبحاً بكل حال.
يقول ولز: " إنه لزام علينا أن نتذكر أن الموت صلباً لا يكاد يهرق من الدم أكثر مما يريقه الشنق، فتصوير يسوع في صورة المراق دمه من أجل البشرية إنما هو في الحقيقة من أشد العبارات بعداً عن الدقة " .
ولكن هذه النظرة إلى الله، بأنه لا يرضى إلا بأن يسيل الدم نظرة قديمة موجودة عند اليهود وعند الوثنيين قبلهم ، ففي التوراة تجد ذلك واضحاً في مثل قولها: " بنى نوح مذبحاً لله .. وأصعد محرقات على المذبح ، فتنسم الرب رائحة الرضا ، وقال الرب في قلبه : لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان " ( تكوين 8/20 - 21 ).
وثله في محبة المحرقة وذبائحها والتنسم برائحتها قول العهد القديم: " وبنى داود هناك مذبحاً للرب، وأصعد محرقات وذبائح سلامة، ودعا الرب ، فأجابه بنار من السماء على مذبحة المحرقة " (الأيام (1) 21/26).
وهكذا فإن التصور اليهودي للإله مشبع برائحة الدم يقول ارثر ويجال: " نحن لا نقدر أطول من ذلك قبول المبدأ اللاهوتي المفزع الذي من أجل بعض البواعث الغامضة وجوب تضحية استرضائية، إن هذا انتهاك إما لتصوراتنا عن الله بأنه الكلي القدرة ، وإلا ما نتصوره عنه ككلي المحبة ".
ويرى المحققون أن ادعاء إهراق دم المسيح مأخوذ من الديانة المثراسية حيث كانوا يذبحون العجل ويأخذون دمه ، فيتلطخ به الآثم ، ليولد من جديد بعد أن سال عليه دم العجل الفدية .


غرائب ترافق موت الآلهة :وتتشابه كثير من تفاصيل قصة الصلب مع تفاصيل واردة في قصص وثنية مشابهة .فقد ذكر متى أحداثاً غريبة عدة، صاحبت موت المسيح حيث يقول: " وفي الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض، إلى الساعة التاسعة ...، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت ، والصخور تشققت، والقبور تفتحت ... " ( متى 27/45 - 53 ) .
وهذا نقله النصارى من الوثنيات القديمة، فقد نقل العلامة التنير في كتابه الرائع "العقائد الوثنية في الديانة النصرانية" عن عدد من المؤرخين الغربيين إجماعهم على انتشار هذه الغرائب حال موت المخلصين لهذه الأمم .
من ذلك: أن الهنود يقولون: " لما مات "كرشنا" مخلصهم على الصليب ، حدثت في الكون مصائب جمة، وعلامات متنوعة، وأحاطت بالقمر دائرة سوداء ، وأظلمت الشمس عند منتصف النهار ، وأمطرت السماء ناراً ورماداً ..... "
ويقول عباد بروسيوس: " إنه لما صلب على جبل قوقاس، اهتزت الكائنات ، وزلزلت الأرض و.... " .
والاعتقاد بحدوث أحداث سماوية عظيمة عند موت أحد العظماء أو ولادته، معروف عند الرومان واليونان.
كما ينقل المؤرخ " كنون فرار" في كتابه "حياة المسيح" وينقل جيبون في تاريخه أن عدداً من الشعراء والمؤرخين الوثنيين كان يقول: " لما قتل المخلص اسكولابيوس ، أظلمت الشمس ، واختبأت الطيور في أوكارها ... لأن شافي أمراضهم وأوجاعهم فارق هذه الدنيا ".
والقول بظلمة الشمس عند موت أحد المخلصين قيل عند مقتل هيركلوس وبيوس وكوتز لكوتل وكيبير ينوس إله الرومان ، وعليه، فهو أسطورة قديمة تداولتها الأمم، ونقلها أصحاب الأناجيل من تلك الوثنيات .
وقد كان عباد الشمس يقدمون الضحايا لها، خاصة عند حلول الكسوف ، فإذا زال الكسوف اعتقدوا أنه بسبب فداء أحد زعمائهم ، حيث خلصهم وحمل عنهم العذاب ، ومنه أخذ متى قوله " ومن الساعة السادسة، كانت ظلمة على الأرض إلى الساعة التاسعة " ( متى 27/45 ).


يتبع......