قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - في كتابه الماتع الصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة في معرض رده على القائلين بتقديم العقل مطلقا" إذا تعارض مع النقل .


(( قولهم إن تعارض العقل والنقل وجب تقديم العقل لأنه لا يمكن الجمع بينهما ولا إبطالهما ولا تقديم النقل لأن العقل أصل النقل فلو قدمنا عليه النقل لبطل العقل وهو أصل النقل فلزم بطلان النقل فيلزم من تقديم النقل بطلان العقل والنقل فتعين القسم الرابع وهو تقديم العقل فهذا الطاغوت آخو ذلك القانون فهو مبني على ثلاث مقدمات :


الأولى ثبوت التعارض بين العقل والنقل .


الثانية انحصار التقسيم في الأقسام الأربعة التي ذكرت فيه .


الثالثة بطلان الأقسام الثلاثة ليتعين ثبوت الرابع .


وقد أشفى شيخ الإسلام في هذا الباب بما مزيد عليه وبين بطلان هذه الشبهة وكسر هذا الطاغوت في كتابه الكبير
( قلت أي أبو جاسم : و هذا الكتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية هو المسمى ب" موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول " ) ونحن نشير إلى كلمات يسيرة هي قطرة من بحره يتضمن كسره ودحضه وذلك يظهر من وجوه :


الوجه الأول :

إن هذا التقسيم باطل من أصله والتقسيم الصحيح أن يقال إذا تعارض دليلان سمعيان أو عقليان أو سمعي وعقلي فإما أن يكونا قطعيين وإما أن يكونا ظنيين وإما أن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا .

فأما القطعيان فلا يمكن تعارضهما في الأقسام الثلاثة لأن الدليل القطعي هو الذي يستلزم مدلوله قطعا فلو تعارضا لزم الجمع بين النقيضين وهذا لا يشك فيه أحد من العقلاء .

وإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا تعين تقديم القطعي سواء كان كان سمعيا" أم عقليا"، و إن كانا ظنيين صرنا إلى الترجيح ووجب تقديم الراجح منهما سمعيا كان أو عقليا .

فهذا تقسيم واضح متفق على مضمونه بين العقلاء فأما إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقا فخطأ واضح معلوم الفساد عند العقلاء .


الوجه الثاني :

إن قوله إذا تعارض العقل والنقل فإما أن يريد به القطعيين فلا نسلم إمكان التعارض وإما أن يريد به الظنيين فالتقديم للراجح مطلقا وإما أن يريد ما يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا فالقطعي هو المقدم مطلقا فإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لأنه قطعي لا لأنه عقلي فعلم أن تقديم العقلي مطلقا خطأ وأن جعل جهة الترجيح كونه عقليا خطأ وأن جعل سبب التأخير والاطراح كونه نقليا خطأ .


الوجه الثالث :

إنا لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكره من الأقسام الأربعة إذ من الممكن أن يقال تقدم العقلي تارة والسمعي تارة فأيهما كان قطعيا قدم فدعواه أنه لا بد من تقديم العقل مطلقا أو السمع مطلقا أو اعتبار الدليلين معا أو إلغائهما معا دعوى كاذبة بل ههنا قسم غير هذه الأقسام وهو الحق وهو ما ذكرناه . )) انتهى كلامه - رحمه الله - .
.