ونأتي إلى اقتراح كاتبنا بحذف التأنيث. وأذكر أن د.عبد المنعم تليمة قد دافع، في حلقة التلفاز التي تكررت الإشارة إليها آنفا، عن هذا الرأي قائلا إننا الآن في عصر يهتم بحقوق المرأة ولا يقبل أبدا أية تفرقة بينها وبين الرجل. وعلى هذا فلا بد أن تُعَامَل كالرجل سواءً بسواءٍ في الضمائر والأسماء والصفات. وقد رددتُ على ذلك بالقول بأن الله جعل كل الأحياء ذكرا وأنثى، ويوم أن يتوصل العلماء إلى جعل البشر جنسًا واحدًا لا هو ذكر ولا هو أنثى، فعند ذلك سوف تختفي تلقائيا ظاهرة التأنيث. أما قبل ذلك فلا أدرى سببا للمناداة بإلغائها. ثم أضفتُ أن حقوق المرأة وحرصها على التميز عن الرجل وعدم الخضوع له يقتضي منا أن نُفْرِدها بضمائرَ وصيغٍ اسميةٍ ووصفيةٍ خاصّةٍ بها، وإلا كانت مجرد ظل لِسِى السيّد فنعبّرعنها بما نستعمله له دون تفرقة. ثم إن التأنيث موجود مثلا في اللغة الفرنسية التي يتقنها الكاتب، لا في الضمائر والأسماء والصفات فقط، بل في أدوات التعريف والتنكير أيضا، على خلاف ما عندنا، إذ لا تعرف لغتنا إلا أداة تعريف واحدة للمذكر والمؤنث إفرادًا وتثنيةً وجمعًا، أما التنكير فليس له لدينا أداة. كما أن لتأنيث الأسماء والصفات في لغة فولتير قواعد متعددة حسبما هو معروف. لكن البعض قد يعترض بأن المنطق كان يقتضي اتفاق العدد عندنا في التذكير والتأنيث مع الاسم المعدود فنقول: "تسعة نساء، وتسع رجال"، لا العكس. ولا أحب أن أضيع وقتي ووقت القارئ ووقت المعترض في مناقشة مثل هذا الاعتراض، بل أختصر الكلام اختصارا وأقول: هذا الذي كان، وهذا الذي حصل، ويستوي من حيث الصعوبة أو السهولة أن نخالف بين العدد والمعدود أو نوافق. المهم أن هناك قاعدة تحكم هذا، وأن الأمر ليس فوضى. وليس من المعقول أن نأتي للغتنا كل فترة فنعبث بها حتى تصير كالخرقة الممزقة. وبالمناسبة فليست هناك لغة في الأرض أهلُها راضون عنها تمام الرضا حتى ولا الإنجليزية، التي تعانى من عيوب كثيرة جدا على عكس ما يوحى به كلام الأستاذ الكاتب. وكما أكرر دائما، فالعبرة بالتكرار والتعود، وكل صعبٍ لا بد أن يَذِلّ ويُسْلِس قيادَه لمن يَرُوضه بالاهتمام والجِدّ والحرص على الإتقان. وقد أُثيرت مسألة إطلاق كلمة "أستاذ" بصيغتها المذكَّرة هذه على بعض دكتورات الجامعة، ودافع الدكتور تليمة عن هذا الصنيع. لكنى أرى أنه مجرد تقليد ممسوخ للغة جون بول، التي لا يصح اتخاذها هي أو غيرها مثالا أعلى للغتنا الدقيقة الأنيقة المصفاة من كل أثر للخشونة الموجودة في الإنجليزية أو غير الإنجليزية. إن هذا يذكرني بما صنعه بنو إسرائيل فور نجاتهم من بطش فرعون، الذي رَأَوْه بأم أعينهم يغرق مع جنوده ومَلَئه لكنهم لم يتعظوا، إذ ما إن أتَوْا في سيناء على قوم يعكفون على أصنام لهم حتى صاحوا بنبيّهم قائلين: "يا موسى، اجعلْ لنا إلهًا كما لهم آلهة. قال: إنكم قوم تجهلون* إن هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هم فيه، وباطلٌ ما كانوا يعملون"(الأعراف/ 139ـ 140). كذلك أذكر أنه كانت لجيراننا بنتٌ حلوةٌ جدا حباها الله شعرًا وَحْفًا ناعمًا جميلاً يصل إلى خَصْرها ويضفي عليها مزيدا من الفتنة والبهاء، لكنها بنَزَقها وقلة عقلها أبت إلا أن تقصّه آلاجَرْسُون تقليدا لصديقة لها شعرُها شائك كالليفة الجديدة ظلت تزنّ عليها وتغريها بذلك غيرةً من شعرها الفاتن الجميل. وعبثا حاولت أمها أن تبصّرها بسوء رأيها، فقد كانت، كما قلت، قليلة العقل عنيدة. ثم رأيناها بعد أن نالت مرادها وقد فقدت شيئا كثيرا من حلاوتها وفتنتها. ولكنْ على من تقرأ مزاميرَك يا داود؟

ومن بين ما أخذه المؤلف على الفصحى وجودُ التثنية فيها. ولست في الحق أدرى كيف يمكن أن تكون هذه السمة مَعَابة تؤخذ على لغة القرآن، إذ هي دليل على الدقة، فبدلا من أن تتعامل مع ما يزيد على واحد نفس المعاملة نراها تفرق بين الاثنين وما هو أكبر من ذلك. والأستاذ المؤلف يتخذ من اللغات الأوربية هنا أيضا معيارا يعاير به لغتنا، ناسيا أن لكل لسان شخصيته وأوضاعه، فضلا عن أن الحياة ذاتها قد أفردت المثنى بوضع خاص، فالكون كله قائم على التقابلات الثنائية: فاليمين يقابله الشمال، والأعلى يقابله الأسفل، والأمام يقابله الوراء، والذكر تقابله الأنثى، والسماء تقابلها الأرض، والجنة تقابلها النار، والماضي يقابله المستقبل، والبحر يقابله البر…وهكذا. وفى الإنجليزية ما زالت هناك كلمة "both: كلاهما" في مقابل "all: كلّهم"، وكذلك عبارة "one another: كلاهما الآخر" في مقابل "each other: كل منهم الآخر"، وهو أمر له دلالته التي لا ينبغي أن تفوتنا. سيقول الأستاذ: لكن الطلبة يضيقون بهذا، فأقول له: ليس للكسالى الحق في فرض كسلهم على الحياة. إن سقوط الهمة والكسل مسؤولان عن الكوارث المتلاحقة التي تنزل على رؤوسنا منذ قرون، ولا تكاد تترك لنا فرصة لنتنفس ونقبّ على وجه الدنيا. كفانا بلادة وجمود! ولنكن، ولو مرة واحدة، كأجدادنا الذين فتحوا العالم، وليس في أيديهم غير هذه اللغةِ التي لا تعجب البعضَ والكِتَابِ الذي نزل بها، والذي لا يستطيع أقوام أن يناموا ملء أعينهم رغم كل ما في أيديهم من سلطان وثروة وقوة وجبروت ما دام هناك من يقرؤه ويؤمن به! أما مبدأ "كله عند العرب صابون" فلا محل له من الإعراب. وهنا ينبغي أن نشير إلى ما جاء في نهاية كلام المؤلف حول هذه القضية من أن اللهجات العامية قد تخلصت من المثنى تلقائيا وأصبح الاثنان جمعا كما يقتضي المنطق (ص 174). فأما أن المنطق يقتضي هذا فغير صحيح كما سبق أن وضحنا، وأما أن العاميات قد تخلصت من المثنى، فإن كان المقصود أنها تخلصت منه تماما فهذا لم يحدث، إذ ما زلنا نقول في لغتنا اليومية: ولدين وبنتين وكتابين وورقتين وأستاذين ومدرّستين... إلخ، لكنه صحيح في مجال الضمائر رغم ذلك.

وقد حاول مقدم البرنامج التلفازي الذي نوقش فيه كتاب الأستاذ المؤلف أن يسوّغ ما نادى به من معاملة المثنى معاملة الجمع، فاستشهد بقوله تعالى: "وداودَ وسليمانَ إذ يحكُمان في الحرث إذ نَفَشَتْ فيه غنمُ القوم، وكنا لحكمهم شاهدين"(الأنبياء/ 78)، وبقول أمير الشعراء مخاطبًا النبي عليه السلام:

فإذا رَحِمْتَ فأنتَ أُمٌّ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرُّحَماءُ

حيث استعمل القرآن ضمير الجمع في كلمة: "حكمـهم" لداود وسليمان، وهما اثنان فقط، واستخدم شوقي صيغة الجمع: "الرحماء" في وصف الوالدين، وهما اثنان أيضا فقط. وكان جوابي أن ذلك ليس بلازم، فكلمة "حكمهم" يدخل فيها أيضا "القوم" الذين احتكموا إلى النبيين الكريمين ، ومن ثم يكون ضمير الجمع عائدا على أكثر من اثنين: داود وسليمان وأولئك القوم. كما أن في بيت شوقي غرضا بلاغيا مؤدّاه أن رحمة الأبوين هي الرحمة الحقيقية أو تَعْدِل جميع الرحمة الموجودة في العالم، فكأنهما كل الرحماء في الدنيا. أي أن الكلام هنا على المجاز لا على الحقيقة. ويمكن أن أزيد أيضا بعض ما أورده المرحوم محمد خليفة التونسي في كتابه "أضواء على لغتنا السمحة" (كتاب العربي/ 15 أكتوبر 1985م/ 32ــ 35، 178ــ 180) من شواهد تبدو وكأنها تجرى عكس ما أقول، فقد أورد مثلا قوله عَزَّ من قائل: "هذان خَصْمان اختصموا في ربهم: فالذين كفروا قُطِّعَتْ لهم ثياب من نار... * إن الله يُدْخِل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار..." (الحج/ 19ــ 23)، حيث قال سبحانه: "خَصْمان اختصموا" واصفًا المثنى بالجمع. والرد هو أن الخصمين هنا ليسا فردين كما يُظَنّ، بل جماعتين: هما جماعة الكافرين، وجماعة المؤمنين كما هو واضح من بقية الكلام. وبالمثل احتج، رحمه الله، بالآية الكريمة التالية التي تتحدث عن قصة الخلق والحوار الذي دار بين الله سبحانه وبين السماء والأرض حينذاك قائلةً: "ثم استوى إلى السماء وهى دُخَان فقال لها وللأرض: ائتيا طَوْعًا أو كَرْهًا. قالتا: أتينا طائعِين"(فُصِّلَتْ/ 11)، حيث عن السماء والأرض: "طائعِين" لا "طائعتين". لكن توجيه ذلك سهل غاية السهولة، فالمقصود السماء والأرض وسكانهما أيضا لا السماء والأرض فحسب، ولذلك استخدمت الآية الكريمة جمع المذكر السالم الذي لا يستخدم لغير العاقل إلا في غرض بلاغي كما هو الحال هنا. ومما يعضد هذا أن القرآن الكريم قد يصف الاسم المفرد من هذا النوع أو يخبر عنه بصيغة الجمع أيضا مما يدل على أن المسألة ليست من باب معاملةً المثنى معاملة الجمع. وهذه بعض الشواهد على ما أقول: "فإن حزب الله هم الغالبون" (المائدة/ 56)، ألا إن حزب الله هم المفلحون" (المجادلة/ 22)، "وهل أتاك نبأُ الخَصْم إذ تَسَوَّروا المحراب" (ص/ 21)، "وَدَّتْ طائفةٌ من أهل الكتاب لو يُضِلّونكم"(آل عمران/ 69)، "ولْتَأْتِ طائفةٌ أخرى لم يُصَلّوا فَلْيُصَلّوا معك" (النساء/ 102). والذي أريد أن أقوله من خلال هذا التوضيح أن القواعد النحوية ينبغى أن تكون مُطَّرِدة ما أمكن حتى لا يرتبك من يستعملونها.