الاستفسار رقم: (1):
تبرير كل تناقض في القرآن أو السنة مفترض, ولو فعل النصارى ذلك لظلوا على كفرهم؛ لأنهم سيبررون كل تناقض عندهم في النجيل المحرف! فمثلا: توعد الله لكثير من مرتكبي المعاصي بالخلود في النار, وبيَّن حديث الشفاعة الكبرى أنَّ كل المسلمين يدخلون الجنة. وكذلك مثلا: في الحديث:" لا صلاة لمن لا فاتحة له", وبين الحديث:" صلاة الإمام تغني عن صلاة المأموم", مع علمي بما قيل في تفسيرهما. انتهى.
الرد يكون كالآتي:
1. قولك: (تبرير كل تناقض في القرآن أو السنة مفترض, ولو فعل النصارى ذلك لظلوا على كفرهم؛ لأنهم سيبررون كل تناقض عندهم في النجيل المحرف!):
- أخي الحبيب, ثمَّة مغالطة لديك لم تنجُ منها, ألا وهي: تعتقد بوجود تناقض حقيقي في القرآن والسنة, وتصف من يدحض قول من قال بالتناقض بـ(المبرر)!!
- ثمَّة فرق بين الوجود الحقيقي للتناقض, وبين توهم وجود التناقض:
ü التناقض في القرآن: القرآن كلُّه قطعي الثبوت, أي متواتر في نقله؛ لذلك: يستحيل وجود تناقض واحد في القرآن, ولو ثبت وجود تناقض واحدٍ لأصبح القرآن باطلا, بل هو: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾, (هود: 1). والقول الفصل: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾, (النساء: 82).
ü أسباب توهم وجود التناقض في القرآن:
أ- وجود النسخ في القرآن, وذلك قوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا...﴾, (البقرة: 106). وقوله: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ...﴾, (النحل: 101).
ب- وجود آيات متشابهات في القرآن, وذلك قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ...﴾, (آل عمران: 7).
ü التناقض في السنة: ما كان متواترًا من السنة فلا يقع فيه التناقض قطعيًّا, أمَّا ما كان ظنيًّا من السنة فيقع فيه التعارض وليس التناقض, وتعالج بمسألة التعادل والترجيح بالاستدلال الشرعي.
ü أسباب توهم وجود التناقض في السنة:
أ- وجود النسخ في السنة.
ب- وجود التعارض بين الأحاديث في ظاهرها.
- الكشف عن سبب توهم التناقض أو التعارض في بعض الآيات والأحاديث ليس تبريرًا, بل هو وضع للحروف على نقاطها, وإرجاع للأمور إلى نصابها. فتأمل.
- وعليه, لا تخلط بين إلباس الحق بالباطل وكتم الحق الذي اختص به أهل الكتاب_لا تخلط بين هذا وبين إظهار الحق الذي يقوم به أهل الحق. وقد صدق رسول الله e إذ يقول: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ, يَنْفُونَ عَنْهُ انْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ, وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ, وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ», رواه الطبراني. فهل نفي انتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين, وتحريف الغالين تبرير؟! لا يكون هذا!
2. قولك: (توعد الله لكثير من مرتكبي المعاصي بالخلود في النار, وبيَّن حديث الشفاعة الكبرى أنَّ كل المسلمين يدخلون الجنة.):
- أهل النار من حيث المكوث فيها صنفان, ألا وهما:
ü الخالدون فيها أبدا, وهم:
1) الكافرون, يقول الله Y:﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾, (النساء: 169).
2) المشركون, يقول الله Y: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾, (النساء: 48).
3) المرتدون, يقول الله Y:﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾, (البقرة: 217).
ü اللابثون فيها أحقابا ثم يخرجون, وهم:
الموحدون الذين اقترفوا آثاما أَكلتْ حسناتهم وزيادة, فيعذبون بقدرها, ثم يدخلون الجنة. وقد روى أنس t عن النبي e قوله: «يَدْخُلُ أُنَاسٌ جَهَنَّمَ فَإِذَا صَارُوا حُمَمًا اخْرُجُوا فَأُدْخِلُوا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ», رواه أحمد. وهم يخرجون بشفاعة نبي الرحمة محمد.
- لذلك لا تناقض أو تعارض بين توعد الله بالخلود لبعض أهل جهنم، وبين إخراجه لبعضها الآخر إلى الجنة، وهذا يؤكد الحق الساطع؛ أنْ لا تناقض بما جاء به الوحي وإن ظهر التعارض لدى قصيري النظر ذوي النظرة السطحية؛ لذلك لا بدِّ من التأمل وإمعان النظر والتدبر قبل إطلاق الكلام. والله الموفق.
3. قولك: (الحديث:" لا صلاة لمن لا فاتحة له", وبين الحديث:" صلاة الإمام تغني عن صلاة المأموم".):
- نص الحديث الأول هو: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ», رواه بخاري ومسلم. وفي رواية: «بِأُمِّ القُرآنِ». ونص الحديث الثاني هو: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ», رواه الدار قطني. وفي رواية: «تَكْفِيكَ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ خَافَتَ أَوْ جَهَرَ», رواه الدار قطني.
- هذه هي النصوص الصحيحة لما وضعت من أحاديث, وهذه النصوص بعد التفقه في سندها, ألفينا الطرف الثاني, أي ما رواه الدار قطني لا تقوم به حجة؛ لأنَّ بسند ما رواه ضعفا يسقطه عن مرتبة الاستدلال_ وإن استدل به بعض الفقهاء _, فلا تناقض أو تعارض_ إذن _بين صحيح وضعيف. فتأمل.
- وليطمئنَّ قلبك, سأجعل الحديثين الضعيفين صالحين للاستدلال, وسأبين لك كيف ينبغي أن نفقه الأحاديث في علم الأصول, أصول الفقه:
· لفظ «لَا صَلَاةَ» له وجهان حسب دلالة الاقتضاء؛ فإمَّا أن تكون (لا صلاة صحيحة) أو أن تكون (لا صلاة كاملة), فالنفي هو إمَّا لصحتها أو لكمالها من حيث الأجر, وعلى فرض صحة أحاديث الدار قطني, فإنَّنا نرجح الوجه الثاني, ويؤيد هذا الفهم قوله e: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ», رواه البيهقي.
· وعليه, حتى لو أثبت أحدهما صحة الحديثين, فإنه لا تعارض بعد الفقه السليم للأحاديث فيما بينها.
· والأحاديث التي ظاهرها التعارض نعمل على التوفيق بينها؛ لأن القاعدة الأصولية: (إعمال الدليلين أولى من ترك أحدهما). والله الموفق.
أخي الحبيب, أنتظر تعليقك على ما وضعت, أو إذنك في الانتقال للنقطة التي تليها.
المفضلات