الزملاء الأكارم, تحية طيبة, وبعد:

أما بخصوص (ahmed.em):
· قولك: (بداية, أفهمني معنى التنطع حتى لا أقع فيه, أم أنه للتوبيخ فقط؟ ويبدو أنك نسيت المقدمة التي بدأت بها حديثي معك بالصبر علي):
- لم أنسَ مقدمتك, ولم أقصد التوبيخ, بل أردت لك الخير على سنة: (الشيء بالشيء يذكر), فلقد تذكرت الحديث النبوي من أسئلتك, وبه نصحتك.
- التنطع هو التشدد, والخوض بما لا يبلغه العقل, والتعمق بالشيء أكثر مما يلزم.
· قولك: (ثانيا, ما ذكرته في الاستفسار (11) وقع هنا بردك حديثا, المشرف العام قال بخطئك لأنك تريد تنزيه سيدنا محمد فيما تظن):
تابع ردِّي على المسألة.

وأمَّا بخصوص (أبو جاسم) و(سيل الحق المتدفق), فأقول:
ردُّ المتنِ لا يكون بالتعسف, ولا بالافتراض الزائف, بل بالدليل الذي إليه نميل, وبه نقول. وهذه مسألة وقفت عليها كثيرًا, وجردت نفسي من الأهواء؛ لتتضح الأمور, ويظهر النور.
وسأعرض لكم دراستي المتواضعة للمسألة؛ فإن كان حقًّا فبتوفيق الله, وإن كان باطلا فمن نقصي وتقصيري, والله ورسوله منه براء:
· لقد شدَّد علماؤنا الأفاضل على من ردَّ الحديث درايةً, ونعتوهم بلفظٍ منهم معهودٍ, فقالوا: (أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث...). ومع هذا, وقفت على النصوص التي تعالج المسألة؛ فثبت لي أنَّ ثمَّة علةً في المتن توجب ردَّه.

· والآن, نشرع في الحديث:
1. الحديث ليس بمتواتر, بل هو ظني الثبوت؛ فإن عارض دليلا قطعيًا يردُّ درايةً, وهذا ما كان.
2. والحديث يتصادم مع الآتي:
ü ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾, (المائدة: 67).
- يخبر الله Y أنَّه يعصم نبيَّه محمدًا e من أن يناله الناس_ وخاصة أهل الكتاب _بأذى يحلُّ به مادامت الرسالة لم تكتمل.
- يثبت حديث السحر ظني الثبوت أنَّ اليهودي لبيد بن الأعصم قد نال من رسول الله e فسحره, وأفلح بذلك, ونجح أيما نجاح؛ إذ إنَّه أنزل به أشدَّ أنواع السحر: «حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ»، وقد علق سفيان على ذلك_ كما في صحيح البخاري _بقوله:(وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا).
- وعصمة الله نبيه محمدًا e من الناس تقتضي أن لا يفلح لبيد بن الأعصم بسحره محمدًا e؛ لذلك, يردُّ الحديث الظني دراية؛ لأنه معارض للآية الكريمة القطعية.
- ولنا في (أكلة خيبر) عظة؛ فاليهودية التي سممت الشاة حاولت قتل النبي e ولم تفلح, علمًا أن البشر بن براء مات من ساعته, بينما اليهودي حاول سحر النبي e وأفلح حسب الحديث, وهنا المعضلة.
- هذا وجه, ووجه آخر: فلعلَّه يخيل إليه أنَّه بلَّغ ما أُمر أن يبلغ, فلم يبلغه على الحقيقة, وبهذا يكون الدين ناقصًا, والواقع مخالفًا للآية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾, وهذا باطل؛ لذلك يردُّ درايةً.
ü ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾, (الأحزاب: 21).
- يثبت الحديث أنَّ أشدَّ أنواع السحر نزل برسول الله e: «حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ».
- وهذا السحر يجعل صاحبه في هلوسة, ويهذي هذيانًا, وليس أدلَّ على هذا من لفظ: «يُخَيَّلُ إلَيْهِ», فهو أمارة استحكام السحر بمن نزل به.
- ومن كانت هذه حاله وتلك صفاته, فكيف تكون لنا أسوة فيه؟ فأفعاله وأقواله e محل تأسٍ وتشريعٍ؛ وهو_ حسب الروايات _مكث أيامًا مسحورًا يهذي ويهلوس: «يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ», وليس هذا مقصورًا على إتيانه النساء, بل هو مثال جال في خاطر أمِّنا عائشة_ حسب الحديث _للتدليل على الحال المزرية التي وصل إليها رسولنا الكريم.
- وعليه, فالحديث الظني معارض لواقع التأسي والتشريع من حيث كون أفعاله وأقواله محل تأس وتشريع؛ إذ إنَّها هي السنة, إضافة إلى تقريره وصفاته. فمن هذه الجهة, يردُّ دراية.
ü ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾, (الإسراء: 47).
- لقد وصف مشركو قريش رسول الله بالمسحور؛ لأنَّ المسحور يكون مغلوبًا في عقله؛ يهلوس, ويهذي, ويتوهم, ويتخيل..إلخ؛ ليقع الطعن بالقرآن الكريم.
- فنفى الله Y عن نبيه ذلك, فقال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾, أي: العجب كل العجب من دعواهم؛ فالاستفهام بـ(كيف) للتعجب من حالة تمثيلهم للنبيe بالمسحور.
- والسحر الذي يثبته الحديث الظني للرسول الكريم هو السحر نفسه الذي ينفيه القرآن عنه؛ لذلك يردُّ الحديث دراية.
ü العصمة في التبليغ: وهي من كلِّ شيء يخل في التبليغ؛ من الكتم أو الكذب أو الوهم. ولما كان السحر الذي نزل برسول الله هو من أشد السحر, فجاز أن يتوهم شيئًا ما من الدين؛ وهذا طبيعي لمن ظفر به السحر. ولما كان الحديث الظني يطعن في العصمة النبوية الثابتة بالدليل القاطع, وجب رده دراية.
ü أداء الأحكام الشرعية: كما أنه يخيل إليه أنه يأتي النساء فيغتسل وهو ليس بجنب, جائز أن يأتيهن وأن يخيل إليه أنه لم يأتيهن فلا يغتسل من الجنابة؛ فيدخل المسجد جنبا, ويصلي جنبا, وهذه الحالة يتنزه عنها رسول الله e؛ لذلك يرد الحديث دراية.
3. إذن, ردُّ المتنِ لا يكون بلا دليل, وهذه الأدلة كافية لإثبات أن متن الحديث به علة توجب رده, ولا يترتب على رده أي خلل: لا في العقيدة, ولا في الأحكام الشرعية.
4. بعض التنبيهات:
- لم يكن سحر النبي e الوارد في الحديث متعلقًا بهذه الحالة: «حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ», بل هي إحدى عوارض ما أصابه من السحر, ذكرت لتبيان أثر السحر, ليس غير.
- العصمة في التبليغ توجب أن يعصم النبي e من مرض يذهب عقله؛ فيصبح مجنونًا.