المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الهولوكست الصهيونى فى فلسطين وثيقة تاريخية



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 [13] 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39

أمـــة الله
2010-11-03, 02:46 PM
تعريفات
وأصبح التطهير العرقي حالياً مفهوماً معرَّفاً جيداً. فمن فكرة تجريدية مرتبطة حصراً، إلى حد كبير، بالأحداث فيما كان يسمى سابقاً يوغوسلافيا، صار الآن يُعرَّف أنه جريمة ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي. وقد ذكّر أسلوب استخدام بعض الجنرالات والساسة الصرب لتعبير «التطهير العرقي» العلماء المختصين بأنهم سمعوا هذا التعبير من قبل، إذ استخدمه النازيون وحلفاؤهم في يوغسلافيا، كالميليشيات الكرواتية، في الحرب العالمية الثانية. لكن جذور الطرد الجماعي، طبعاً، ضاربة في القدم. فقد استخدم الغزاة الأجانب التعبير (أو مفردات مرادفة له)، وطبقوا مضمونه بمنهجية ضد السكان الأصليين، منذ زمن التوراة حتى زمن أوج الاستعمار.
تعرّف موسوعة «هاتشينسون» Hutchinson «التطهير العرقي» بأنه طرد بالقوة من أجل إيجاد تجانس عرقي في إقليم أو أرض يقطن فيها سكان من أعراق متعددة. وهدف الطرد هو ترحيل أكبر عدد ممكن من السكان، بكل الوسائل المتاحة لمرتكب الترحيل، بما في ذلك وسائل غير عنيفة، كما حدث بالنسبة إلى المسلمين في كرواتيا، الذين طردوا بعد اتفاقية ديتون في تشرين الثاني (نوفمبر) 1995.
ويحظى هذا التعريف أيضاً بقبول وزارة الخارجية الأميركية، ويضيف خبراؤها أن جزءاً من جوهر التطهير العرقي هو اقتلاع تاريخ الإقليم المعني بكل الوسائل الممكنة. والطريقة الأكثر استخداماً هي إخلاء الإقليم من السكان في سياق «أجواء تضفي شرعية على أعمال المعاقبة والانتقام». وتكون النتيجة النهائية لمثل هذا العمل خلق مشكلة لاجئين. وقد تفحصت وزارة الخارجية الأميركية بصورة خاصة ما حدث في أيار (مايو) 1999 في مدينة بيك في كوسوفو الغربية. فقد تم إخلاء هذه المدينة في غضون 24 ساعة، وهذا ما لم يكن ممكناً إنجازه إلاّ من خلال تخطيط مسبق أعقبه تنفيذ منهجي. وقد حدثت أيضاً مجازر متفرقة من أجل تسريع العملية. وما حدث في بيك في سنة 1999 حدث بالطريقة نفسها تقريباً في مئات من القرى الفلسطينية في سنة 1948.

أمـــة الله
2010-11-03, 02:46 PM
طرق قاتلة لتهريب العمال الفلسطينيين إلى الاراضي المحتلة

يعيش الفلسطينيون من سكان الضفة الغربية الذين يعملون في إسرائيل، وخاصة في قطاع البناء ظروفا صعبة، تبدأ برحلة التوجه إلى العمل، مرورا بظروف العمل القاسية، وانتهاء بالعودة إلى بيوتهم.
ومع تشديد إجراءات الدخول إلى إسرائيل، استحدث الفلسطينيون طرقا متعددة وقاتلة في كثير من الأحيان لتهريبهم إلى أماكن عملهم، ليدفعوا بذلك ثمنا باهظا في سبيل توفير لقمة عيش كريمة لأبنائهم.
ويحذر ناشطون في العمل النقابي العمالي من صعوبة المرحلة القادمة على العمال الفلسطينيين وخاصة عند اكتمال بناء الجدار الفاصل، مشددين على ضرورة البحث عن بدائل لهؤلاء العمال.
طرق التهريب
وتعتبر مرحلة النقل من وإلى أماكن العمل، الأصعب والأخطر على حياة العمال، حيث يتم نقل غالبيتهم بسيارات غير قانونية عبر طرق التفافية وعرة وقاتلة وبسرعات جنونية، وحمولة مضاعفة لتجاوز الحواجز العسكرية ونقاط المراقبة الاحتلالية.
وبشكل عام يتقاضى عمال البناء داخل الخط الأخضر أجرا يتراوح بين 30-50 دولارا يوميا، فيما يستغل المهربون حاجة هؤلاء العمال فيتقاضون من كل عامل نحو 20 دولارا بدل إيصاله لمكان عمله، و20 دولارا أخرى بدل إعادته.
وخلال الأسابيع الأخيرة وقعت العديد من الحوادث المرورية المروعة، أشهرها تجاوز سائق إشارة مرورية في منطقة كريات جاد وسط إسرائيل بسرعة عالية ليتجاوز سيارات الشرطة، الأمر الذي أدى إلى مقتل ثلاثة نساء صهيونيات وإصابة أربعة عشر عاملا كانوا معه.
الأكثر غرابة وخطورة في التنقل كما يقول أحد العمال للجزيرة نت هو استخدام خلاطات الباطون في تهريب العمال لتجاوز الحواجز الصهيونية.
ويوضح هذا العامل الذي فضل عدم ذكر اسمه أن وشاية وصلت إلى جنود أحد الحواجز بأن أحد أرباب العمل يهرّب عمالا بواسطة خلاطة باطون، ولدى وصول هذه الخلاطة إلى الحاجز أمر الجندي السائق بتشغيلها لكنه رفض، فلما أصر الجندي على طلبه اضطر لإنزال العمال فتم اعتقالهم.
ولا يخفي العمال قلقهم من وسائل النقل المميتة التي يستخدمونها، لكنهم يؤكدون أنه لا بديل عن هذه المخاطرة لتوفير لقمة العيش لأبنائهم، نظرا لعدم توفر فرص عمل في الأراضي المحتلة، ولتدني الأجر في حال توفر العمل حيث لا يتجاوز 20 دولارا ليوم العمل الواحد.
ملاحقات ومحاكمات
أمين العام لاتحاد العمال الفلسطينيين شاهر سعد قال للجزيرة نت إن نحو 38 ألف عامل فلسطيني لدى إسرائيل لا يحملون تصاريح عمل، فيما يحمل هذه التصارح فقط نحو 23 ألفا، وفي الغالب لا يحصلون على حقوقهم كاملة سواء من حيث ساعات العمل أو نظام الصحة والسلامة المهنية.
ويضيف أن حاجة العمال وخاصة في مجال البناء دفعتهم لاختراع كثير من وسائل التهريب للوصول إلى أماكن عملهم، فبعضهم يغير شكله ليصبح على شكل حاخام أو مستوطن صهيوني، وبعضهم يستغل الخوارق الإسمنتية للجدار، وآخرون يهربون في شاحنات البضائع والثلاجات الصهيونية المغلفة، ومنهم من يستغل بعض الفتحات في الجدار الفاصل والأسلاك الشائكة، أو يستخدم الرافعات لتجاوزه.
وأشار سعد إلى أن كثيرا من العمال تعرضوا لحوادث مرورية مروعة، والكثير منهم يضطر رغم قسوة الظروف للمبيت في مكان عمله بسبب خطورة العودة وارتفاع تكاليفها، فيبيتون تحت السيارات أو في حاويات البضائع وحاويات القمامة، أو في سيول المياه بعيدا عن عين الشرطة التي تداهم ورشات العمل بحثا عنهم.
وتوقع سعد أن يزداد الوضع سوءا وأن تزيد نسبة البطالة في الضفة الغربية مع اكتمال بناء الجدار الفاصل على 13% في الضفة، مطالبا السلطة الفلسطينية بتوفير أماكن عمل بديلة لهم

أمـــة الله
2010-11-03, 02:47 PM
فصول من «التطهير العرقي في فلسطين» (3 من 8)
«الترانسفير» مصيراً لسكان القرى واختيار حيفا هدفاً أول لتهجير أهل المدن


كتاب ايلان بابه «التطهير العرقي في فلسطين» الذي تنشر «الحياة» فصولاً منه، يكشف المسكوت عنه حول دور التطهير العرقي في إنشاء إسرائيل.
ويدحض المؤلف الأفكار الرائجة عن ان نزوح الفلسطينيين من أرضهم يعود الى اختيار طوعي أو الى وعود الجيوش العربية بأن النازحين سيعودون ما ان تكمل عملياتها ضد ما سمي آنذاك «العصابات الصهيونية».
تصدر الطبعة العربية من الكتاب في أواسط الشهر المقبل عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأنجز الترجمة أحمد خليفة. والمؤلف ايلان بابه من المؤرخين الإسرائيليين الجدد وأستاذ في جامعة حيفا وناشط في مؤسسات أبحاث من اجل السلام.
«الحياة» نشرت حلقتين، وهنا الثالثة:
في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1947، كان عزرا دانين ونائبه يهوشواع (جوش) بالمون مختفيين عن الأنظار، وقد افتتحا اجتماع «الهيئة الاستشارية» بإخبار الحاضرين أن النخبة الحضرية الفلسطينية أخذت تترك بيوتها وتنتقل إلى مساكنها الشتوية في سورية ولبنان ومصر. وكان ذلك ردة فعل نموذجية من جانب النخب الحضرية في أوقات الأزمات - الذهاب إلى مكان آمن ريثما يهدأ الوضع. مع ذلك، فإن المؤرخين الإسرائيليين، بمن فيهم المؤرخون التصحيحيون (الجدد) مثل بِني موريس، فسروا هذا الخروج التقليدي الموقت بأنه «هروب طوعي» كي يقولوا لنا إن إسرائيل ليست مسؤولة عما آل إليه أمرهم. لكنهم عندما تركوا، كان في نيتهم العودة إلى بيوتهم لاحقاً، وما منعهم من العودة هم الإسرائيليون: إن منع الناس من العودة إلى بيوتهم بعد إقامة قصيرة في الخارج هو عملية طرد مثل أي عمل آخر موجه ضد سكان محليين بهدف طردهم.
وأخبر دانين الحاضرين أن هذا هو المثل الوحيد الذي استطاعا اكتشافه في ما يتعلق بمغادرة فلسطينيين إلى ما وراء الحدود المعيَّنة للدولة اليهودية في قرار الأمم المتحدة، باستثناء عشائر بدوية عدة انتقلت إلى أمكنة قريبة من قرى عربية خوفاً من تعرضها لهجمات يهودية. ويبدو أن دانين كان مصاباً بخيبة أمل من جراء ذلك، لأنه طالب في الوقت نفسه باتباع سياسة أشد عنفاً بكثير، على رغم حقيقة أنه لم يكن هناك مبادرات أو نيات هجومية من ناحية الفلسطينيين. وتابع شارحاً للهيئة الاستشارية الفوائد التي ستنجم عن مثل هذه السياسة: قال له مخبروه إن أعمال عنف ضد الفلسطينيين سترعبهم، «الأمر الذي سيجعل أي مساعدة من العالم العربي غير مجدية»، وهذا ما يعني ضمناً أن القوات اليهودية سيكون في وسعها أن تفعل بهم ما تشاء.
«ماذا تعني بأعمال عنف؟» استفسر بن - غوريون.
«تدمير وسائط النقل (حافلات الركاب، والشاحنات التي تنقل المحاصيل الزراعية، والسيارات الخاصة)... وإغراق القوارب التي يستعملونها للصيد في يافا، وإغلاق دكاكينهم، ومنع المواد الخام من الوصول إلى مصانعهم».
«كيف ستكون ردة فعلهم؟» سأل بن - غوريون.
«ردة الفعل الأولية قد تكون أعمال شغب، لكنهم في نهاية المطاف سيفهمون الرسالة». وهكذا فإن الهدف الرئيسي كان ضمان أن يصبح السكان تحت رحمة الصهيونيين، كي يمكن حسم مصيرهم. ويبدو أن بن- غوريون أعجبه الاقتراح، وكتب إلى شاريت بعد ثلاثة أيام شارحاً له الفكرة العامة: إن المجتمع الفلسطيني في المنطقة اليهودية سيكون «تحت رحمتنا»، وسيكون في استطاعة اليهود أن يفعلوا بهم ما يشاؤون، بما في ذلك «تجويعهم حتى الموت».
وكان يهودي سوري آخر، إلياهو ساسون، هو من حاول، إلى حد ما، أن يقوم بدور محامي الشيطان في الهيئة الاستشارية، وبدا أن لديه شكوكاً تجاه المقاربة الشديدة العداء التي كان دانين وبالمون يشرحانها. كان هاجر إلى فلسطين سنة 1927، وربما كان الشخص الأكثر إثارة للفضول، وأيضاً الأكثر تناقضاً، في الهيئة الاستشارية، ففي سنة 1919، قبل أن يصبح صهيونياً، انضم إلى الحركة القومية العربية في سورية. وكان دوره الرئيسي في الأربعينات من القرن الماضي هو التحريض على اتباع سياسة «فرِّقْ تَسُدْ» داخل المجتمع الفلسطيني، وأيضاً في الدول العربية المجاورة. لكن محاولاته زرع الشقاق بين المجموعات الفلسطينية لم تبق لها أهمية بعد أن اتجهت القيادة الصهيونية نحو تطهير عرقي شامل لفلسطين بأسرها.
وكان اجتماع 10 كانون الأول آخر اجتماع يقوم فيه ساسون بمحاولة لإقناع زملائه بأنه على رغم الحاجة إلى «خطة شاملة» كما سمّاها - أي اقتلاع السكان الفلسطينيين - فإن من الفطنة عدم اعتبار جميع السكان العرب أعداء، والاستمرار في استخدام تكتيكات «فرِّق تَسُدْ». وكان فخوراً جداً بدوره، في الثلاثينات، في تسليح المجموعات الفلسطينية المسماة «عصابات السلام»، والتي كانت مكوَّنة من خصوم الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني. وقد قاتلت هذه الوحدات ضد التشكيلات [المسلحة] الوطنية الفلسطينية خلال الثورة العربية. وأراد ساسون الآن استخدام تكتيكات «فرِّق تَسُدْ» لتجنيد عشائر بدوية موالية.
نشاطات مبكرة
لم ترفض الهيئة الاستشارية فكرة استيعاب مزيد من المتعاونين «العرب» فحسب، بل ذهبت إلى حد اقتراح التخلي عن فكرة «الرد الانتقامي» بكاملها، وأيد معظم المشاركين في الاجتماع «الانهماك» في حملة تخويف منهجية. ووافق بن - غوريون، وشُرع في تطبيق السياسة الجديدة في اليوم التالي للاجتماع.
كانت الخطوة الأولى حملة تهديدات منسقة جيداً. فكانت وحدات خاصة تابعة للهاغاناه تدخل القرى بحثاً عن «المتسللين» (إقرأ: «متطوعين عرباً») وتوزع منشورات تحذر السكان المحليين من التعاون مع جيش الإنقاذ. وكانت أي مقاومة لهذه التعديات تنتهي في العادة بإطلاق القوات اليهودية النار عشوائياً وقتل عدد من القرويين. وكانت الهاغاناه تسمي هذه الغارات «الاستطلاع العنيف» (هَـ - سِيور هَأَليم). والفكرة في الجوهر هي دخول قرية غير محصنة قبيل منتصف الليل، والبقاء فيها بضع ساعات، وإطلاق النار على كل من يجرؤ أو تجرؤ على مغادرة البيت، ومن ثم المغادرة. عمل القصد منه إظهار القوة أكثر مما كان عملاً تأديبياً، أو هجوماً انتقامياً.
في كانون الأول 1947، اختيرت قريتان غير محصنتين: دير أيوب وبيت عفّا. وإذا ما سُقْتَ اليوم سيارتك في اتجاه الجنوب الشرقي من مدينة الرملة وقطعت مسافة قدرها نحو 15 كم، خصوصاً في يوم شتائي عندما تخضرّ شجيرات الرَّتَم الشائكة الصفراء عادة، والتي تغطي سهول فلسطين الداخلية، فإنك ستصادف منظراً غريباً، صفوفاً طويلة من الأنقاض والحجارة في حقل مكشوف تحيط بساحة مربعة متخيّلة كبيرة نسبياً؛ إنها أنقاض السياجات الحجرية لدير أيوب، وبينها أنقاض سور حجري منخفض بُني سنة 1947 لأسباب جمالية أكثر منه لحماية القرية، التي كان يقطن فيها نحو 500 نسمة. وكان سكان هذه القرية في معظمهم من المسلمين، ويعيشون في بيوت حجرية أو طينية على شاكلة البيوت المنتشرة في المنطقة. وكانوا قبل الهجوم اليهودي مباشرة يحتفلون بافتتاح مدرسة جديدة تسجل فيها عدد لا يستهان به من التلاميذ، 51 تلميذاً، وتحقق كل ذلك بفضل الأموال التي جمعوها من بعضهم البعض، والتي كانت كافية أيضاً لدفع راتب المعلم. لكن ابتهاجهم سرعان ما تبدد عندما دخلت سرية مؤلفة من عشرين جندياً يهودياً القرية - التي كانت، مثل كثير من القرى في ذلك الوقت، لا تمتلك أية آلية للدفاع - وشرعوا في إطلاق النار عشوائياً على البيوت. وقد هوجمت القرية لاحقاً ثلاث مرات قبل أن يجرى إخلاؤها بالقوة في نيسان (أبريل) 1948، ومن ثم تدميرها كلياً. وقامت القوات اليهودية بهجوم مشابه في كانون الأول على بيت عفّا في قطاع غزة، لكن سكانها تمكنوا من صد الهجوم.
وتبع ذلك كله عمليات تدمير في مناطق محدودة في أماكن متفرقة من أرياف فلسطين ومدنها. واتسمت النشاطات في الريف في البداية بالتردد. اختيرت ثلاث قرى في الجليل الأعلى الشرقي: الخصاص والناعمة وجاحولا، لكن العملية أُلغيت، ربما لأن القيادة العليا اعتقدت أنها طموحة أكثر من اللازم. غير أن قائد البالماح في الشمال، يغآل ألون، تجاهل الإلغاء جزئياً، وأراد أن يجرب مهاجمة قرية واحدة على الأقل، واختار الخصاص.
كانت الخصاص قرية صغيرة يقطن فيها بضع مئات من المسلمين ومئة مسيحي، يعيشون بسلام معاً في موقع طوبوغرافي فريد في القسم الشمالي من سهل الحولة، على مصطبة طبيعية عرضها نحو مئة متر، نجمت قبل آلاف السنين عن التقلص المتدرج لبحيرة الحولة. وكان الرحالة الأجانب يخصّون هذه القرية بالذكر لجمال موقعها الطبيعي على ضفاف البحيرة، ولقربها من نهر الحاصباني. هاجمت القوات اليهودية القرية في 18 كانون الأول 1947، وشرعت في نسف البيوت في سواد الليل، بينما كان سكانها يغطون في النوم. فقُتل جراء ذلك خمسة عشر قروياً، بمن فيهم خمسة أطفال. وأصاب الحدث مراسل «نيويورك تايمز»، الذي كان يتابع الأحداث عن كثب، بالصدمة. وذهب إلى قيادة الهاغاناه مطالباً بتفسير ما جرى. وأنكرت هذه في البداية وقوع العملية، لكن، عندما أصر المراسل على طلبه، اضطرت في النهاية إلى الاعتراف، وأصدر بن - غوريون اعتذاراً علنياً درامياً، مدعياً أن العملية لم يكن مصادقاً عليها. لكن بعد أشهر، في نيسان، أدرجها في قائمة العمليات الناجحة.
عندما اجتمعت اللجنة الهيئة الاستشارية يوم الأربعاء 17 كانون الأول ، انضم إليها يوحنان راتنر وفريتس آيزنشتاتر (عيشت)، وهما ضابطان كان بن - غوريون عيّنهما لوضع «استراتيجيا قومية» قبل أن يبتكر الهيئة الاستشارية. وتوسع المجتمعون في مناقشة ما يمكن استخلاصه من عملية الخصاص الناجحة، وطالب بعضهم بمزيد من العمليات «الانتقامية» يشتمل على تدمير قرى، وطرد سكان، وإحلال مستوطنين يهود محلهم. وفي اليوم التالي لخص بن - غوريون ما جرى في الاجتماع أمام لجنة الدفاع، وهي الهيئة الرسمية الأوسع التابعة للمجتمع اليهودي، والمسؤولة عن شؤون الدفاع. ويبدو أن الجميع اهتزوا طرباً لدى سماعهم ما قيل لهم، بمن في ذلك ممثل حزب اليهود المتدينين المتعصبين، أغودات يسرائيل، الذي قال: «لقد بُلّغنا أن لدى الجيش القدرة على تدمير قرية كاملة وطرد سكانها جميعاً؛ هيا، لنفعل ذلك!» وأقرت اللجنة تعيين ضباط استخبارات لكل عملية مشابهة. وسيكون لهؤلاء دور حاسم في تنفيذ المراحل التالية للتطهير العرقي.
استهدفت السياسة الجديدة أيضاً الأماكن الحضرية في فلسطين، واختيرت حيفا لتكون الهدف الأول. ومن المثير للاهتمام أن هذه المدينة اختيرت من جانب المؤرخين الإسرائيليين المنتمين إلى التيار المركزي ومن جانب المؤرخ التصحيحي بِني موريس كمثال لوجود نية حسنة صهيونية صادقة تجاه السكان المحليين. أمّا الحقيقة فكانت في نهاية سنة 1947 أبعد ما تكون عن ذلك. فمنذ اليوم التالي لتبني الأمم المتحدة قرار التقسيم، تعرض الـ75.000 فلسطيني في المدينة لحملة إرهابية اشتركت في شنها الإرغون والهاغاناه. ولمّا كان المستوطنون اليهود جاؤوا المدينة في العقود المتأخرة، فإنهم بنوا مساكنهم في أعالي الجبل، وبالتالي فإنهم كانوا يقطنون، من ناحية طوبوغرافية، فوق الأحياء العربية، وكان في استطاعتهم أن يقصفوها ويقتنصوا سكانها بسهولة. وشرعوا في ذلك مراراً وتكراراً منذ أوائل كانون الأول. كما استخدموا وسائل أُخرى لإرهاب السكان: كانت القوات اليهودية تدحرج براميل مملوءة بالمتفجرات وكريات حديدية ضخمة في اتجاه المناطق السكنية العربية، وتصب نفطاً ممزوجاً بالبنزين على الطرقات وتشعله. وعندما كان السكان الفلسطينيون المذعورون يخرجون من بيوتهم راكضين بغية إطفاء تلك الأنهار المشتعلة، كان اليهود يحصدونهم بالمدافع الرشاشة. وفي المناطق التي كان فيها عرب ويهود ما زالوا يتعاملون مع بعضهم البعض، كانت الهاغاناه تُحضر إلى الكاراجات الفلسطينية سيارات بحجة إصلاحها، مملوءة بالمتفجرات وأدوات التفجير، ومن ثم تفجرها فتنشر الموت والفوضى. وكانت تقوم بهذا النوع من الهجمات وحدة خاصة تابعة للهاغاناه، هَشَاحَر («الفجر»)، مكونة من «مستعربين»؛ أي يهود متنكرين كفلسطينيين. وكان العقل المدبر لهذه الهجمات شخص يدعى داني أغمون، كان يرئس وحدات «الفجر». ويلخص المؤرخ الرسمي للبالماخ، في موقعه في شبكة الإنترنت، ما جرى آنذاك على النحو التالي: «كان الفلسطينيون [في حيفا] يعيشون منذ كانون الأول تحت وطأة حصار وتخويف.» لكن الأسوأ سيأتي لاحقاً.
وقد وضع اندلاع العنف المبكر نهاية حزينة لتاريخ طويل نسبياً من التعاون والتضامن بين العمال في مدينة حيفا المختلطة، وكان الوعي الطبقي جرى كبحه في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي من جانب القيادة القومية لكل من الطرفين، خصوصاً من جانب اتحاد العمال اليهودي، لكنه ظل يحفز العمال على القيام بنشاطات مطلبية مشتركة ضد أرباب العمل ويحملهم على التعاون في أوقات الانكماش الاقتصادي والشدة.

أمـــة الله
2010-11-03, 02:47 PM
أدت الهجمات اليهودية في المدينة إلى تفاقم التوتر في منطقة كان العمال اليهود والعرب يعملون فيها جنباً إلى جنب: في منشآت مصفاة شركة نفط العراق في منطقة خليج حيفا. وبدأ الأمر بإلقاء زمرة تابعة للإرغون قنبلة على مجموعة كبيرة من الفلسطينيين كانت في انتظار الدخول إلى المنشآت. وادعت الإرغون أن ذلك كان رداً انتقامياً على هجوم سابق قام به عمال عرب على زملاء لهم يهود. وكانت تلك ظاهرة جديدة في موقع صناعي كان العمال العرب واليهود معتادين فيه العمل المشترك من أجل الحصول من مستخدميهم البريطانيين على شروط عمل أفضل. لكن قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة ألحق ضرراً جدياً بالتضامن الطبقي، وبدأت التوترات تتفاقم. وكان إلقاء القنابل وسط التجمعات العربية من اختصاصات الإرغون، وفعلت ذلك مراراً قبل سنة 1947. إلاّ إن هذا الهجوم بالتحديد جرى بالتنسيق مع قوات الهاغاناه كجزء من مخطط جديد لإلقاء الرعب في قلوب سكان حيفا ودفعهم إلى الهروب من المدينة. وخلال ساعات، رد العمال الفلسطينيون على الهجوم بأعمال شغب، وقتلوا عدداً كبيراً من العمال اليهود - 39 شخصاً - في واحدة من أسوأ الهجمات الفلسطينية المضادة، وكانت آخرها، لأن سلسلة الاشتباكات المعتادة المكوّنة من فعل وردة فعل توقفت بعد ذلك.
أمّا اللجنة القومية في حيفا، التابعة للفلسطينيين، فقد ظلت تناشد البريطانيين مرة بعد أُخرى [التدخل لحمايتهم - المترجم]، مفترضة، خطأً، أنه نظراً إلى كون حيفا آخر محطة في عملية الجلاء البريطاني، فإن في استطاعتها الاعتماد على حماية البريطانيين، على الأقل إلى أن يرحلوا. وعندما لم يحدث ذلك، بدأ أعضاء اللجنة القومية يبعثون برسائل يائسة إلى أعضاء الهيئة العربية العليا داخل فلسطين وخارجها، طالبين النصح والمساعدة. ووصلت مجموعة صغيرة من المتطوعين إلى المدينة في كانون الثاني ، لكن بعض الأعيان وقادة المجتمع كان أدرك وقتها أن مصيره حُسم في لحظة تبني الأمم المتحدة قرار التقسيم: الطرد على يد جيرانهم اليهود. هؤلاء الجيران الذين كانوا هم أنفسهم من دعاهم في البداية، في الفترة العثمانية، إلى المجيء والبقاء معهم، فوصلوا بائسين ومفلسين من أوروبا، وشاركوهم العيش في مدينة كوزموبوليتانية مزدهرة - إلى أن صدر قرار التقسيم المشؤوم.
على هذه الخلفية يجب أن يتذكر المرء خروج نخبة حيفا البالغ عدد أفرادها نحو 15.000 شخص، وكثيرون منهم تجار ناجحون أدى خروجهم في ذلك الوقت إلى تعطيل التجارة والأعمال، ووضع عبء إضافي على كاهل الشرائح الفقيرة في المدينة.
«هذا ليس كافياً»، صرح يوسف فايتس قائلاً عندما اجتمعت الهيئة الاستشارية يوم الأربعاء، في 31 كانون الأول 1947، قبل ساعات قليلة فقط من مذبحة بلد الشيخ. واقترح علانية ما كان سجّله سراً في يومياته أوائل الأربعينات: «أليس الآن هو الوقت الملائم للتخلص منهم؟ لماذا نستمر في ترك هذه الأشواك بيننا وهي خطر علينا؟» وبدت ردات الفعل الانتقامية، في نظره، طريقة قديمة للتعامل مع الوضع لأنها لا تتضمن الهدف الرئيسي المتمثل في مهاجمة القرى واحتلالها. وكان فايتس عُيّن عضواً في الهيئة الاستشارية لأنه كان رئيس دائرة الاستيطان في الصندوق القومي اليهودي، ولأنه كان في الهيئة أدى دوراً حاسماً في توضيح أفكار «الترانسفير» الغامضة لأصدقائه وترجمتها إلى سياسة فعلية. وقد شعر بأن النقاش الجاري فيشأن المستقبل يفتقر إلى غاية، إلى توجه كان رسم معالمه في الثلاثينات والأربعينات.
«الترانسفير»، كتب في سنة 1940، «لا يخدم هدفاً واحداً فحسب - تقليل عدد السكان العرب - بل يخدم أيضاً غرضاً ثانياً لا يقل أهمية عن الأول، وهو إخلاء الأرض التي يزرعها العرب حالياً وتحريرها من أجل الاستيطان اليهودي.» ومن ثم، خلص إلى القول: «الحل الوحيد هو ترحيل العرب من هنا إلى الدول المجاورة. يجب ألاّ نترك حتى قرية واحدة أو عشيرة واحدة.»
وكانت تلك الجلسة الوحيدة للهيئة الاستشارية التي يتوافر لدينا محضر لها، (موجود في أرشيف الهاغاناه). وأعد فايتس من أجل هذه «الحلقة الدراسية الطويلة» مذكرة موجهة إلى بن - غوريون شخصياً، حضّ فيها الزعيم على المصادقة على خططه لترحيل السكان الفلسطينيين عن المناطق التي أراد اليهود احتلالها، وعلى جعل الأعمال المتصلة بذلك «حجر الأساس للسياسة الصهيونية.» ومن الواضح أنه كان يشعر بأن المرحلة «النظرية» في ما يتعلق بخطط «الترانسفير» انتهت، وحان أوان تطبيق الأفكار. وفي الواقع، غادر فايتس الحلقة الدراسية الطويلة وفي حيازته إذن بإنشاء زمرة صغيرة تابعة له تحت اسم «لجنة الترانسفير»، وأتى إلى الاجتماع التالي حاملاً خططاً فعلية.
في الحقيقة لم يكن هناك معارضة تستحق الذكر، وهذا ما يجعل الحلقة الدراسية الطويلة جلسة محورية بالغة الأهمية. فنقطة الانطلاق التي تقبلها الجميع، كانت أن التطهير العرقي ضروري. أمّا بقية المسائل، أو بالأحرى المشكلات، فكانت ذات طبيعة سيكولوجية أو لوجستية. فالأيديولوجيون مثل فايتس، والمستشرقون مثل ماخنس، والجنرالات مثل ألون، شكوا من أن جنودهم لم يستوعبوا بعد، كما يجب، الأوامر السابقة التي صدرت إليهم بتوسيع العمليات إلى ما هو أبعد من الأعمال الانتقامية المعتادة. والمشكلة الرئيسة، في نظرهم، كانت أن الجنود بدوا عاجزين عن التخلي عن الأساليب القديمة في الردود الانتقامية. «إنهم ما زالوا ينسفون بيتاً هنا وبيتاً هناك»، اشتكى غاد ماخنس، زميل دانين وبالمون، الذي أصبح، ويا للعجب، المدير العام لوزارة الأقليات الإسرائيلية في سنة 1949 (إذ بدا، على الأقل، وهذه نقطة في مصلحته، كأنه شعر بشيء من الندم على سلوكه في سنة 1948، واعترف صراحة في سنة 1960 بأنه «لولا الاستعدادات [العسكرية الصهيونية] المكشوفة ذات الطبيعة الاستفزازية، لكان من الممكن تفادي الانزلاق إلى الحرب [في سنة 1948]»). لكن وقتئذ، في كانون الثاني 1948، بدا نافد الصبر من كون القوات اليهودية ما زالت منهمكة في البحث عن «أفراد مذنبين» في هذا المكان أو ذاك، بدلاً من إلحاق الضرر في شكل فعال.
شرح ألون وبالمون لزملائهما التوجه الجديد: هناك ضرورة لسياسة أكثر شراسة في المناطق التي ظلت «هادئة فترة أطول من اللازم.» ولم يكن ثمة حاجة إلى إقناع بن - غوريون، إذ أعطى في نهاية الحلقة الدراسية الطويلة الضوء الأخضر للقيام بسلسلة كاملة من الهجمات الاستفزازية والفتاكة على قرى عربية، بعضها كردود انتقامية، وبعضها الآخر غير ذلك. والقصد هو التسبب بأقصى ما يمكن من الأضرار وقتل أكثر ما يمكن من القرويين. وعندما سمع أن المراحل الأولى المقترحة لتنفيذ السياسة الجديدة كانت جميعها في الشمال، طلب القيام بعمل تجريبي في الجنوب أيضاً، على أن يكون محدداً، لا عاماً. وهنا تكشّف بن - غوريون فجأة عن أنه كاتب حسابات حقود. فقد حضّت على القيام بهجوم على مدينة بئر السبع، والسعي بصورة خاصة الى قتل نائب المحافظ، الحاج سلامة بن سعيد، وشقيقه، اللذين رفضا في الماضي التعاون مع الخطط الصهيونية للاستيطان في المنطقة. وشدد بن - غوريون على أنه لم يعد هناك ضرورة للتمييز بين «البريء» و«المذنب»، إذ حان الوقت لإلحاق أذى مصاحب ( collateral). وتذكّر دانين بعد أعوام أن بن - غوريون شرح معنى «أذى مصاحب» بقوله: «كل هجوم يجب أن ينتهي باحتلال، ودمار، وطرد».
أمّا بالنسبة إلى المزاج «المحافظ» السائد في صفوف جنود الهاغاناه، فقد أوضح يغئيل يادين، رئيس هيئة أركان الهاغاناه - وبعد 15 أيار 1948 رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي - أن الوسيلة للتقدم [في حل هذه المشكلة - المترجم] تكمن في تبني مصطلحات جديدة صريحة، وفي تلقين عقائدي أشد قسوة. وكان نائبه، يغآل ألون، أكثر نزوعاً إلى الانتقاد. فقد انتقد الهيئة الاستشارية بصورة غير مباشرة لأنها لم تصدر أوامر صريحة بالقيام بهجوم شامل في بداية كانون الأول. «لقد كان في استطاعتنا وقتها أن نحتل يافا بسهولة، وكان يجب أن نهاجم القرى الموجودة حول تل أبيب. يجب أن نقوم بسلسلة من العقوبات الجماعية حتى لو كان هناك أطفال يعيشون في البيوت [المهاجمة].» وعندما حاول إلياهو ساسون، بمساعدة رؤوفين شيلواح، أحد مساعديه (لاحقاً شخصية بارزة في حقل الاستشراق الإسرائيلي)، أن يلفت الانتباه إلى أن الاستفزاز من شأنه أن ينفّر الفلسطينيين المسالمين، أو الذين يكنون الود لليهود، أجابه ألون بنفاد صبر قائلاً: «الدعوة إلى السلام ستكون ضَعْفاً!» وأبدى موشيه دايان آراء مشابهة، واستبعد بن - غوريون أي محاولة للتوصل إلى اتفاق في يافا، أو في أي مكان آخر.
كان غياب جهة واضحة منسِّقة مصدر قلق للعسكريين في الهيئة الاستشارية. وذُكر أن قوات متحمسة تهاجم أحياناً قرى في مناطق ترغب القيادة العليا موقتاً في تجنب حدوث استفزازات فيها. ونوقشت في الحلقة الدراسية الطويلة حادثة معينة جرت في حي روميما في القدس الغربية. وكانت تلك المنطقة في المدينة هادئة جداً إلى أن قرر قائد محلي في الهاغاناه أن يرعب الفلسطينيين في الحي بحجة أن صاحب محطة وقود هناك كان يشجع قرويين على مهاجمة السيارات اليهودية المارة. وعندما قتل الجنود صاحب المحطة، ردت قريته، لفتا، بهجوم على حافلة ركاب يهودية. وأضاف ساسون أنه اتضح أن التهمة كانت كاذبة. لكن هجوم الهاغاناه هذا كان فاتحة لسلسلة من الهجمات ضد قرى فلسطينية واقعة على المنحدرات الغربية لجبال القدس، وموجهة بصورة خاصة ضد قرية لفتا التي، حتى بشهادة استخبارات الهاغاناه، لم يحدث أن هاجمت أي قافلة على الإطلاق.
قرية لفتا، كانت واحدة من أوائل القرى التي تعرضت للتطهير العرقي. وكانت [في زمن بعيد - المترجم] مكان إقامة قاسم أحمد، قائد ثورة 1834 ضد حكم إبراهيم باشا المصري، والتي يعتبرها بعض المؤرخين أول ثورة وطنية فلسطينية. وكانت القرية مثالاً رائعاً للهندسة المعمارية الريفية، بشوارعها الضيقة المتوازية مع منحدرات الجبل. وقد تجلى ازدهارها النسبي، مثل كثير من القرى الأُخرى، خصوصاً في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، في تشييد بيوت جديدة، وتحسين الطرقات والأرصفة، بالإضافة إلى مستوى معيشي أعلى. وكانت لفتا قرية كبيرة، يقطن فيها 2500 نسمة، معظمهم مسلمون، وعدد قليل منهم مسيحيون. وكان من مظاهر رخائها المستجد مدرسة للبنات تعاون عدد من القرى على تمويل بنائها في سنة 1945.
كانت الحياة الاجتماعية في لفتا تدور حول مركز تجاري، اشتمل على ناد ومقهيين. وكان يجذب إليه المقدسيين أيضاً. وكان أحد المقهيين هدفاً للهاغاناه عندما شنت هجومها في 28 كانون الأول 1947. وقد أمطر اليهود المسلحون بالرشاشات المقهى بالرصاص، بينما أوقف أفراد من عصابة شتيرن حافلة ركاب بالقرب من المكان وبدأوا إطلاق النار عليها عشوائياً. وكانت تلك أول عملية لعصابة شتيرن في الريف الفلسطيني.
كانت هذه هي النتيجة النهائية للحلقة الدراسية الطويلة. فمع أن القيادة الصهيونية اعترفت بضرورة أن تكون الحملة منسقة وخاضعة للإشراف، إلاّ إنها قررت تحويل كل مبادرة غير مصادق عليها إلى جزء عضوي من الخطة، مانحة إياها مباركتها بعد وقوعها.

أمـــة الله
2010-11-03, 02:47 PM
فصول من التطهير العرقي في فلسطين(4 – 8)
كأنّ السماء انشقّت عُنوةً عندما تفجّر ثلث قرية «سعسع» متطايراً في الهواء

تأليف: أيلان بابه
ترجمة:أحمد خليفة

أخذت العمليات العسكرية اليهودية تتجاوز بصورة منهجية العمل الانتقامي والتأديبي، وتتجه نحو مبادرات تطهيرية داخل المساحة التي خصصتها الأمم المتحدة للدولة اليهودية. وكانت كلمة تطهير، «تيهور» بالعبرية، نادراً ما تُستخدم في اجتماعات الهيئة الاستشارية، لكنها كانت ترد في كل أمر صادر عن القيادة العليا إلى الوحدات في الميدان. وهي تعني بالعبرية ما تعنيه في أية لغة أُخرى: طرد جميع السكان من قراهم ومدنهم. وقد طغى هذا التصميم على الاعتبارات السياسية الأُخرى كلها.
لا شيء من الجو الذي كان سائداً في الاجتماعات الأولى للهيئة الاستشارية انعكس في الخطب النارية التي كان بن - غوريون يلقيها أمام الجمهور العريض. كان يخبر جمهوره بلهجة ميلودرامية مشحونة بالعاطفة: «هذه حرب هدفها تدمير المجتمع اليهودي وإبادته».
ويجب أن نضيف أن هذه الخطب لم تكن مجرد لغة رنانة. فالقوات اليهودية كانت تتكبد فعلاً إصابات في أثناء محاولاتها إبقاء الخطوط مفتوحة إلى المستوطنات المعزولة التي زرعها الصهيونيون في قلب المناطق الفلسطينية.
ومع حلول نهاية كانون الثاني (يناير)، كان 400 مستوطن يهودي قد قتلوا من جراء هجمات تعرضوا لها - وهو رقم كبير بالنسبة إلى مجتمع بلغ تعداده 660.000 نسمة (لكنه أقل جداً من الـ1500 فلسطيني الذين كانوا قتلوا حتى ذلك الوقت من جراء القصف العشوائي لقراهم وأحيائهم). ووصف بن - غوريون القتلى اليهود بأنهم «ضحايا هولوكوست ثانية».
كانت محاولة تصوير الفلسطينيين، والعرب عامة، بأنهم نازيون وسيلة في حملة علاقات عامة تعمد القائمون بها استخدامها لضمان ألاّ تضعف عزيمة الجنود اليهود عندما يتلقون الأوامر، ولمّا يمض بعد أكثر من ثلاثة أعوام على الهولوكوست، بتطهير وقتل وإبادة بشر آخرين.
وفي عدد من المناسبات العامة، ذهب بن - غوريون بعيداً إلى حد وصف المجهود الحربي اليهودي بأنه محاولة لحماية شرف الأمم المتحدة وميثاقها. وهذا التناقض بين السياسة الصهيونية العنيفة والمدمرة من ناحية، وبين خطاب سلمي علني من ناحية أُخرى، سوف يتكرر في منعطفات متعددة من تاريخ الصراع، لكن الخداع عام 1948 يبدو مروّعاً بصورة خاصة.
في شباط (فبراير) 1948، قرر بن - غوريون توسيع الهيئة الاستشارية فأضاف إليها ممثلي المنظمات الصهيونية المسؤولة عن التجنيد وشراء الأسلحة. وهذا يؤكد، مرة أُخرى، كم كان الارتباط وثيقاً بين مسألة التطهير العرقي وبين القدرة العسكرية. وبينما كان بن - غوريون في المناسبات العلنية يرسم سيناريوهات هولوكوست ثانية مرعبة، استمعت الهيئة الاستشارية الموسعة إلى تلخيص منه للإنجازات المدهشة في مجال التجنيد الإجباري الذي فرضته القيادة الصهيونية على المجتمع اليهودي، وفي مجال شراء الأسلحة، لا سيما ما يتعلق بالأسلحة الثقيلة والطائرات.
وكانت هذه المشتريات الجديدة من الأسلحة هي التي مكنت القوات على الأرض، مع حلول شباط 1948، من توسيع عملياتها والنشاط بفعالية أشد في الريف الفلسطيني. وكان من النتائج الرئيسية للأسلحة الأشد فتكاً القصف الثقيل، وخصوصاً بمدافع الهاون الجديدة، الذي بات يوجه إلى القرى والأحياء كثيفة السكان.
ويمكن تقدير مدى ثقة العسكريين بقدرتهم من خلال معرفتنا أن الجيش اليهودي صار وقتها قادراً على تطوير أسلحة تدميرية خاصة به. وقد تابع بن - غوريون شخصياً عملية شراء سلاح فتاك في شكل بارز سيستخدم بعد فترة وجيزة في إحراق حقول الفلسطينيين وبيوتهم: قاذفة اللهب. وكان الأستاذ في الكيمياء، ساشا غولدبيرغ، اليهودي البريطاني، هو من عُيّن رئيساً لمشروع شراء، ومن ثم تصنيع، هذا السلاح، أولاً في مختبر في لندن، ولاحقاً في رحوفوت، جنوب تل أبيب، فيما أصبح لاحقاً في الخمسينات معهد وايزمن. ويحفل تاريخ النكبة الشفهي بأدلّة وفيرة على التأثيرات المروعة لهذا السلاح في الأشخاص والأملاك.
وكان مشروع قاذفة اللهب جزءاً من وحدة أوسع لتطوير أسلحة بيولوجية بإشراف عالم كيمياء طبيعية اسمه إفرايم كتسير (لاحقاً رئيس دولة إسرائيل الذي، في زلة لسان، كشف للعالم في الثمانينات أن في حيازة الدولة اليهودية أسلحة نووية). وقد بدأت الوحدة البيولوجية، التي كان يقودها مع أخيه أهارون، عملها بصورة جدية في شباط. وكان هدفها الرئيسي اختراع سلاح يمكن أن يسبب الإصابة بالعمى. وقد ذكر في تقرير له مرفوع إلى بن - غوريون: «نجري تجاربنا على الحيوانات. كان الباحثون عندنا يرتدون أقنعة غاز وملابس واقية. نتائج جيدة. الحيوانات لم تهلك (أصيبت بالعمى فقط). نستطيع أن ننتج يومياً 20 كيلوغراماً من هذه المادة.» وفي حزيران (يونيو)، اقترح كتسير استعمال هذه المادة ضد البشر.
وكانت هناك ضرورة لمزيد من القوة العسكرية أيضاً لأن وحدات من جيش الإنقاذ رابطت في بعض القرى، وأصبح احتلالها يتطلب مجهوداً أكبر. وفي الواقع، كان وصول جيش الإنقاذ إلى بعض الأماكن مهماً من الناحية النفسية أكثر مما كان مهماً عسكرياً. إذ لم يكن لديه الوقت لتحويل القرويين إلى مقاتلين، ولا العتاد اللازم للدفاع عن القرى. وعلى أية حال، لم يكن جيش الإنقاذ قد وصل في شباط إلاّ إلى عدد قليل من القرى، الأمر الذي كان يعني أن الفلسطينيين كانوا في معظمهم ما زالوا غير مدركين ما سيطرأ على حياتهم من تغيرات دراماتيكية وحاسمة. ولم يكن لدى قادتهم، أو لدى الصحافة الفلسطينية، أي فكرة عما كان يجرى تداوله خلف الأبواب المغلقة في البيت الأحمر، بالقرب من الضواحي الشمالية لمدينة يافا. وقد شهد شباط 1948 عمليات تطهير عرقي رئيسية، وعندئذ فقط بدأ يتضح للناس، في أماكن معينة من البلد، معنى الكارثة التي كانت على وشك أن تنزل بهم.
في منتصف شباط 1948، اجتمعت الهيئة الاستشارية لمناقشة تداعيات الوجود المتنامي لمتطوعين عرب داخل فلسطين. وأخبر إلياهو ساسون الحاضرين أن عدد المتطوعين العرب الذين دخلوا البلد كجزء من جيش الإنقاذ لم يتجاوز حتى تلك اللحظة 3000 متطوع (يذكر بن - غوريون في يومياته رقماً أصغر). وقال إنهم جميعاً تلقوا «تدريباً سيئاً»، مضيفاً أنه «إذا لم نستفزهم فلن يقوموا بأي نشاط، وستكف الدول العربية عن إرسال مزيد منهم.» ودفع هذا الوصف يغآل ألون مرة أُخرى إلى التحدث بصخب داعياً إلى القيام بعمليات تطهير واسعة النطاق، لكنه اصطدم بمعارضة من يعقوب دروري، رئيس هيئة الأركان المرتقب، الذي أصر على تبني مقاربة أكثر حذراً. غير أن دروري مرض بعد فترة وجيزة من ذلك وكف عن أداء أي دور. وجرى استبداله بيغئيل يادين، الذي كان أكثر ميلاً إلى القتال.
كان يغئيل يادين أفصح في 9 شباط عن نياته الحقيقية بالدعوة إلى «غارات أكثر عمقاً» في المناطق الفلسطينية. وخص بالذكر قرى ذات كثافة سكانية عالية، مثل فسوطة وتربيخا وعيلوط في الجليل الشمالي كأهداف للغارات، بقصد تدمير هذه القرى كلياً. وقد رفضت الهيئة الاستشارية الخطة على اعتبار أنها طموحة جداً، واقترح بن - غوريون وضعها على الرف مؤقتاً. وكانت التسمية الرمزية التي اقترحها يادين للعملية «لامِدْ- هِيهْ»؛ وعنى بذلك أنها رد انتقامي على الهجوم على قافلة غوش عتسيون. بعد أيام قليلة، وافقت الهيئة الاستشارية على خطط أُخرى مشابهة - حملت التسمية الرمزية نفسها - داخل مناطق ريفية فلسطينية، لكنها أصرت على ربطها، ولو في شكل فضفاض، بأعمال عدائية عربية. وكانت تلك العمليات أيضاً من بنات أفكار يادين. وبدأت في 13 شباط 1948، وركزت على مناطق عدة. في يافا نُسفت منازل، اختيرت عشوائياً، على رؤوس أصحابها، وهُجمت قرية سعسع، وثلاث قرى في جوار قيسارية.
واختلفت عمليات شباط، التي خططت لها الهيئة الاستشارية بعناية، عن العمليات التي حدثت في كانون الأول: لم تعد متفرقة، وإنما أصبحت جزءاً من محاولة أولية للربط بين فكرة حركة مواصلات يهودية غير معرقلة على طرقات فلسطين الرئيسية وبين التطهير العرقي للقرى. لكن، خلافاً للشهر الذي أعقبه، والذي ستُطلق فيه على العمليات أسماء رمزية وتُعيَّن لها مناطق وأهداف محددة بوضوح، فإن التوجيهات في شباط كانت لا تزال مبهمة.
كانت الأهداف الأولى ثلاث قرى واقعة بالقرب من المدينة الرومانية القديمة قيسارية، وهي بلدة يرجع تاريخها الحافل إلى زمن الفينيقيين. أنشئت كمستعمرة تجارية، وسماها هيرودوس الكبير لاحقاً قيسارية نسبة إلى ولي نعمته في روما، أوغسطس قيصر. وكانت أكبر هذه القرى قيسارية (الحديثة – المترجم)، إذ كان يعيش 1500 نسمة داخل الأسوار العتيقة للبلدة القديمة. وكانت تعيش بينهم، كما كان مألوفاً في القرى الفلسطينية الواقعة على الساحل، عائلات يهودية اشترت أراضي هناك وكانت تقطن عملياً داخل القرية. وكان معظم القرويين يسكن بيوتاً حجرية في جوار عائلات بدوية كانت جزءاً من القرية، لكنها لا تزال تعيش في الخيام. وكانت مياه الآبار في القرية كافية لسقاية مجتمعي الفلاحين والبدو شبه المستقرين، وتتيح فلاحة مساحات واسعة من الأرض وزراعة طيف واسع من المحاصيل الزراعية، بما في ذلك الحمضيات والموز. وهكذا، كانت قيسارية مثالاً نموذجياً لموقف كان شائعاً في الحياة الريفية الساحلية في فلسطين، يلخصه الشعار: «عِشْ، ودع غيرك يعيش».

أمـــة الله
2010-11-03, 02:48 PM
وقد تم اختيار القرى الثلاث لأنها كانت فريسة سهلة، إذ لم تكن لديها قوة دفاعية من أي نوع، لا محلية ولا من متطوعين قدموا من الخارج. وصدر الأمر في 5 شباط بأن احتلوا القرى، وطردوا سكانها، ودمّروها.
كانت قيسارية أول قرية تهاجَم، وتم طرد سكانها جميعاً في 15 شباط 1948. استغرقت عملية الطرد ساعات قليلة فقط، ونُفذت بصورة منهجية متقنة بحيث أن الجنود تمكنوا من إخلاء وتدمير أربع قرى أُخرى في اليوم نفسه. وحدث ذلك كله تحت سمع وبصر الجنود البريطانيين الذين كانوا موجودين في مخافر الشرطة القريبة.
القرية الثانية كانت برة قيسارية، البالغ عدد سكانها آنذاك نحو 1000 نسمة. وثمة عدد من الصور الملتقطة في الثلاثينات من القرن الماضي تظهر موقعها الرائع على الشاطئ الرملي القريب من بقايا المدينة الرومانية. وقد تم محوها من الوجود في شباط بهجوم صاعق وشرس إلى حد جعل المؤرخين الإسرائيليين والفلسطينيين، سواء بسواء، يشيرون إلى اختفائها باعتباره لغزاً مبهماً. واليوم، تتمدد بلدة أور عكيفا اليهودية فوق كل متر مربع من القرية المدمرة. وكان بعض البيوت القديمة لا يزال موجوداً في البلدة في السبعينات، إلاّ إنه هُدم بسرعة عندما حاولت مجموعات أبحاث فلسطينية توثيق هذه البيوت كجزء من محاولة شاملة لإحياء التراث الفلسطيني في هذا الجزء من البلد.
وعلى نحو مشابه، لا يوجد سوى معلومات غامضة عن القرية المجاورة، خربة البرج. وكانت هذه القرية أصغر من الاثنتين الأُخريين، ولا تزال بقية منها مرئية للعين المدققة، وفي الإمكان مشاهدتها إذا ما التفت إليها المسافر عبر المنطقة الواقعة إلى الشرق من المستوطنة اليهودية القديمة بنيامينا («قديمة» نسبياً، إذ إنها أنشئت في سنة 1922). وكان المبنى الرئيسي في القرية خاناً عثمانياً، هو الأثر الوحيد الذي ما زال قائماً. وكان يدعى البرج. وتخبرك اللوحة بجانبه أنه كان ذات مرة قلعة تاريخية - لكن اللوحة تخلو من أي إشارة إلى القرية. وهو حالياً مكان محبَّب لدى إسرائيليين كثيرين، إذ تقام فيه معارض فنية وغيرها، واحتفالات عائلية.
إلى الشمال من هذه القرى الثلاث، ثمة معلم أثري آخر هو قلعة عتليت الصليبية. وقد صمدت هذه القلعة في شكل يدعو إلى الإعجاب أمام عاديات الزمن والجيوش الغازية المتعددة التي اجتاحت المنطقة منذ القرون الوسطى. وبُنيت قرية عتليت في جوارها، وكانت تشكل نموذجاً فريداً لتعاون عربي - يهودي في فلسطين الانتدابية في مجال صناعة الملح على شواطئها. وكانت معالم القرية الطُبوغرافية قد جعلتها منذ زمن بعيد مصدراً لاستخراج الملح من البحر، وعمل اليهود والفلسطينيون معاً في أحواض صنع الملح الموجودة جنوب غربي القرية، لإنتاج ملح بحري عالي الجودة. وكانت الشركة الفلسطينية المالكة للمشروع، «شركة ملح عتليت»، دعت 500 يهودي إلى العيش والعمل جنباً إلى جنب مع سكان القرية البالغ عددهم 1000 نسمة. لكن الهاغاناه حولت الجزء اليهودي من القرية في الأربعينات إلى ميدان لتدريب أعضائها، الأمر الذي أرعب الفلسطينيين وأدى إلى انخفاض عددهم إلى 200 نسمة فقط. ولا عجب في أنه مع تنفيذ العملية ضد قيسارية المجاورة، لم يتردد الجنود اليهود في قاعدة التدريب في طرد رفاقهم العمال الفلسطينيين من القرية المشتركة. والقلعة مغلقة حالياً أمام الجمهور لأنها أصبحت قاعدة رئيسية لوحدات النخبة في الكوماندوس البحري الإسرائيلي.
في شباط وصلت القوات اليهودية إلى قرية دالية الرَّوْحاء، الواقعة في السهل المطل على وادي الملح الذي يصل الساحل بمرج ابن عامر في شمال فلسطين. ويعني اسم القرية بالعربية «دالية العنب الزكي الرائحة»، ويدل على الروائح الزكية والمناظر البديعة التي لا تزال تميز المناظر الطبيعية في ذلك الجزء من البلد. وهذه، أيضاً، كانت قرية يعيش فيها يهود بين العرب ويمتلكون أراضي فيها. وقد أتت المبادرة بالهجوم عليها من يوسف فايتس، الذي أراد استغلال الطور الجديد للعمليات من أجل التخلص من القرية. وكان يشتهي التربة الخصبة، المتكونة من ترسبات مياه طبيعية متدفقة من نبع غزير جداً، يعود إليه الفضل في خصوبة حقول القرية وطيب كرومها.
بعدها حدثت الغارة على سعسع، في ليلة 14 - 15 شباط. ولا يمكنك أن تتيه عن سعسع حالياً. الاسم العربي للقرية يتكرر فيه حرف «ع» مرتين، لكن اللافتة على مدخل الكيبوتس الذي بني على أنقاض القرية الفلسطينية تذكر «ساسا»، إذ إن عبرنة الاسم أطاحت حرف الـ «ع» (الذي يصعب على الأوروبيين نطقه) لمصلحة حرف الـ «ا» الأكثر نعومة. وهنا سلم بعض البيوت الفلسطينية من التدمير، ولا يزال قائماً داخل الكيبوتس، في الطريق إلى أعلى جبل في فلسطين، جبل الجرمق (هار مِرون بالعبرية)، الواقع على ارتفاع 1208 أمتار فوق مستوى البحر. وبسبب موقعها الجميل في الجزء الوحيد الدائم الخضرة من البلد، وبيوتها المبنية من الحجر، فإن سعسع واحدة من القرى الفلسطينية التي كثيراً ما تظهر في الأدلة السياحية الإسرائيلية الرسمية.
صدر الأمر بمهاجمة سعسع عن يغآل ألون، قائد البلماح في الشمال، وكُلف موشيه كالمان، نائب قائد الكتيبة الثالثة التي ارتكبت الأعمال الوحشية في قرية الخصاص، تنفيذه. شرح ألون أن القرية يجب أن تهاجَم بسبب موقعها. «يجب أن نبرهن لأنفسنا أننا نستطيع القيام بمبادرات»، كتب إليه قائلاً. وكان الأمر واضحاً: «يجب أن تنسفوا عشرين منزلاً، وأن تقتلوا أكثر ما يمكن قتله من المحاربين (اقرأ: «القرويين»)». وهُجمت القرية في منتصف الليل - جميع القرى التي هُجمت تنفيذاً لأوامر رمزها السري «لامِدْ - هِيهْ»، هُجمت في منتصف الليل تقريباً، كما يروي موشيه كالمان. ونشرت «نيويورك تايمز»، في عددها الصادر بتاريخ 16 نيسان (أبريل) 1948، أن الوحدة الكبيرة التابعة للقوات اليهودية لم تواجه أي مقاومة من سكان القرية عندما دخلتها وبدأت بتثبيت أحزمة الديناميت حول البيوت. وروى كالمان في وقت لاحق: «صادفنا حارساً عربياً. وفوجئ بوجودنا إلى درجة أنه لم يسأل: مين هادا؟، وإنما إيش هادا؟. وأجابه أحد جنودنا ممن يعرفون العربية مازحاً (كذا) هادا إيش (إيش بالعبرية تعني نار). وأطلق عليه رشقة رصاص». وتقدم جنود كالمان في الشارع الرئيسي للقرية ونسفوا في شكل منهجي البيوت واحداً تلو الآخر بينما كانت العائلات القاطنة فيها لا تزال نائمة. «في النهاية انشقت السماء عنوة»، عندما تفجر ثلث القرية متطايراً في الهواء، تابع كالمان روايته، مغلفاً ذكرياته بمسحة شعرية. «خلفنا وراءنا 35 منزلاً مدمراً، و60 - 80 قتيلاً.» (منهم عدد لا يستهان به من الأطفال). وامتدح الجيش البريطاني لمساعدته الجنود في نقل جنديين جريحين - أصيبا جرّاء الحطام المتطاير في الهواء - إلى مستشفى صفد.
دُعي المشاركون في الحلقة الدراسية الطويلة إلى اجتماع آخر في 19 شباط 1948، بعد أربعة أيام من الهجوم على سعسع. وكان الوقت صباح يوم خميس، واجتمعوا للمرة الثانية في منزل بن - غوريون، وسجل الزعيم الصهيوني النقاش في يومياته حرفياً تقريباً. كان القصد من الاجتماع تفحص وقع عمليات «لامِدْ - هِيهْ» على الفلسطينيين.
عرض جوش بالمون وجهة النظر «الاستشراقية»: لم يُبدِ الفلسطينيون بعد ميلاً إلى القتال. وأيده في ذلك عزرا دانين الذي قال: «لم يظهر لدى القرويين أي رغبة في القتال.» وعلاوة على ذلك، فإن من الواضح أن جيش الإنقاذ حصر نشاطاته في المناطق التي خصصتها الأمم المتحدة للدولة الفلسطينية المستقبلية. ولم يؤثر هذا الكلام في بن - غوريون، إذ كانت أفكاره تحوّم في فضاء آخر. لم يكن مسروراً من مدى العمليات المحدود. «ردة فعل ضعيفة (تجاه الأعمال العدائية ######### لا تؤثر في أحد، بيت مدمَّر - لا شيء. دمِّر حياً، عندئذ تبدأ بإحداث تأثير!» وأعجبته عملية سعسع إذ إن أسلوب تنفيذها «تسبب بهروب العرب».
وأعرب دانين عن اعتقاده بأن العملية ولدت موجات من الذعر في القرى المجاورة، ويمكن استغلالها في ثني القرويين الآخرين عن المشاركة في القتال. وكانت النتيجة المستخلصة، بالتالي، هي الرد بقوة على كل عمل عربي مهما صغُر، وعدم الالتفات كثيراً إلى كون هذه القرية أو تلك، أو هذا العربي أو ذاك، على الحياد أم لا. وستستمر عملية الربط بين تأثير العمليات والتخطيط للعمليات التالية حتى آذار (مارس) 1948. أمّا بعد ذلك، فسيكف التطهير العرقي عن أن يكون جزءاً من رد انتقامي، وينتظم في خطة واضحة المعالم، الغاية منها اقتلاع الفلسطينيين جماعياً من وطنهم.
استمر ألون في اجتماع الهيئة الاستشارية، في أواسط شباط، في التوسع في إيضاح الدروس المستخلصة من عمليات «لامِدْ- هِيهْ» قائلاً: «إذا دمرنا أحياء بكاملها أو بيوتاً كثيرة في القرية، كما فعلنا في سعسع، فسوف نحدث تأثيراً». وكان دُعي إلى هذا الاجتماع الخاص عدد من الأشخاص أكثر من المعتاد. تم استدعاء «خبراء» بشؤون العرب من أنحاء البلد كافة، بينهم غيورا زايد من الجليل الغربي، ودافيد كارون من النقب. وقد أفاد جميع الحاضرين، من دون استثناء، بأن الريف الفلسطيني لا يبدي رغبة في القتال أو الهجوم، وهو يفتقر إلى القدرة على الدفاع. وختم بن - غوريون بالقول أنه يفضل التحرك مؤقتاً بحذر أكثر، ومراقبة كيفية تطور الأحداث. وفي هذه الأثناء، أفضل ما يمكن فعله هو «الاستمرار في بث الذُعر في المناطق الريفية من خلال سلسلة من الهجمات، كي يعمّ. مزاج الاستسلام الذي جرى الحديث عنه». إن مزاج الاستسلام هذا حال دون وقوع عمليات في مناطق معينة من ناحية، لكنه أدى إلى وقوعها في أماكن أُخرى، من ناحية ثانية.
وانتهى الشهر باحتلال قرية أُخرى في منطقة حيفا وطرد سكانها، هي قرية قيرة. وهذه أيضاً كان يقطن فيها يهود وعرب، وهنا أيضاً، كما حدث في حالة دالية الرَّوْحاء، حسم وجود المستوطنين اليهود على أراضي القرية مصيرها. ومرة أُخرى كان يوسف فايتس هو من حث قادة الجيش على عدم تأخير العملية ضد القرية أكثر من اللازم. «تخلصوا منهم الآن»، اقترح عليهم. وكانت قيرة قريبة من قرية أُخرى، قامون، وكان المستوطنون اليهود بنوا بيوتهم في موقع استراتيجي بينهما.
كانت قيرة قريبة جداً من المكان الذي أعيش فيه حالياً، واسمها الآن يوكْنِعام. وكان يهود هولنديون اشتروا بعض الأراضي هنا في سنة 1935، و«دمجوا» القريتين الفلسطينيتين بعد إخلائهما في مستوطنتهم في سنة 1948. واستولى كيبوتس حَتْسوريا المجاور على بعض الأراضي أيضاً. ويوكْنِعام بقعة ساحرة لأنه يجري فيها واحد من آخر الأنهار النقية في منطقة مرج ابن عامر. وفي الربيع، تتدفق المياه عبر واد ضيق بديع منحدرة إلى القرية، كما كانت تفعل في ما مضى من الزمن عندما كانت تصل إلى بيوت القرية الحجرية. وكان سكان قيرة يسمون النهر «المقطَّع»، ويسميه الإسرائيليون «نهر السلام». ومثل كثير من الأماكن الأُخرى الجميلة، الصالحة للاسترخاء والسياحة في هذه المنطقة، يخفي هذا المكان خرائب قرية كانت هناك عام 1948. ويخجلني أن أقول إن أعواماً كثيرة مضت قبل أن أكتشف ذلك.
لم تكن قيرة وقامون المكانين الوحيدين اللذين استطاع فايتس أن يشبع من خلالهما نزوعه إلى الطرد. لقد كان تواقاً إلى العمل حيثما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وتكشف يومياته، في فقرة دوّنها في كانون الثاني، بعد فترة وجيزة من دعوته إلى الانضمام إلى الهيئة الاستشارية، كيف أنه كان يفكر في استخدام سياسة «الرد الانتقامي» للتخلص من المزارعين المستأجرين في الأراضي التي اشتراها يهود.
وقد وضع بِني موريس قائمة بعدد من العمليات التي أشرف فايتس على تنفيذها في شباط وآذار، والتي، بحسب موريس، لم يحصل على مصادقة عليها من جانب ما يسميه بتعبير ملطَّف «القيادة السياسية»، وهذا مستحيل، فالقيادة المركزية للهاغاناه صادقت على جميع أعمال الطرد، ومن الصحيح أنها، قبل 10 آذار 1948، لم تكن تريد أن يتم إخطارها مسبقاً بها، لكنها كانت دائماً تصادق عليها بعد وقوعها. ولم يحدث قط أن وُجِّه أي توبيخ إلى فايتس بسبب مسؤوليته عن عمليات الطرد في قيرة وقامون، وعرب الغوارنة في وادي نعمان، وقومْية، ومنصورة الخيط، والحسينية، والعلمانية، وكراد الغنامة، والعبيدية، وجميعها قرى اختارها إمّا لنوعية أراضيها الجيدة، وإمّا لأن مستوطنين كانوا يقطنون فيها أو في جوارها.

أمـــة الله
2010-11-03, 02:49 PM
فصول من «التطهير العرقي في فلسطين» (5 من 8)
انهيار النخبة الفلسطينية الحضرية و«الخطة دالت» ينفذها 50 الفاً من «الهاغاناه»

كتاب ايلان بابه «التطهير العرقي في فلسطين» الذي تنشر «الحياة» فصولاً منه، يكشف المسكوت عنه حول دور التطهير العرقي في إنشاء إسرائيل.
ويدحض المؤلف الأفكار الرائجة عن ان نزوح الفلسطينيين من أرضهم يعود الى اختيار طوعي أو الى وعود الجيوش العربية بأن النازحين سيعودون ما ان تكمل عملياتها ضد ما سمي آنذاك «العصابات الصهيونية».
تصدر الطبعة العربية من الكتاب في أواسط الشهر المقبل عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأنجز الترجمة أحمد خليفة. والمؤلف ايلان بابه من المؤرخين الإسرائيليين الجدد وأستاذ في جامعة حيفا وناشط في مؤسسات أبحاث من اجل السلام.
«الحياة» نشرت أربع حلقات، وهنا الخامسة:
في وقت مبكر من نيسان (أبريل)، عدّد بن غوريون بافتخار أمام أعضاء من حزبه مباي، أسماء القرى العربية التي احتلتها القوات اليهودية قبيل ذلك التاريخ. وفي مناسبة أُخرى، في 6 نيسان، نجده يوبخ أعضاء في اللجنة التنفيذية للهستدروت من ذوي الميول اليسارية تساءلوا عن الحكمة من مهاجمة الفلاحين بدلاً من مجابهة مُلاّك الأراضي، الأفندية، ويقول لواحد من كبارهم: «لا أوافقك في أننا يجب أن نجابه الأفندية وليس الفلاحين: أعداؤنا هم الفلاحون العرب».
كان مدركاً في ذلك الوقت أن فلسطين باتت في قبضته، إلاّ انه لم يبالغ في الثقة، ولم يشارك في احتفالات 15 أيار 1948، لأنه كان يعي جسامة المهمة الماثلة أمامه: تطهير فلسطين عرقياً، والتأكد من أن المحاولات العربية لن تنجح في منع اليهود من الاستيلاء على البلد.
وعندما وُضعت الخطة دالِتْ موضع التنفيذ، كان في تصرف الهاغاناه أكثر من 50000 جندي، نصفهم تدرب على أيدي البريطانيين خلال الحرب العالمية الثانية، وكان أوان تنفيذ الخطة قد حان.
أول عملية في خطة دالِتْ
المنطقة الأولى التي اختيرت لوضع الخطة دالِتْ موضع التطبيق كانت الهضاب الريفية الواقعة على المنحدرات الغربية لجبال القدس، في منتصف الطريق المفضي إلى تل أبيب. واتخذ القرار بتنفيذ عملية نَحْشون، التي ستشكل نموذجاً للحملات التالية: الطرد الجماعي المفاجئ.
وإذا حكمنا بموجب المحصلة النهائية لهذه المرحلة، وأعني بها نيسان - أيار 1948، فإن المشورة كانت عدم الإبقاء ولو على قرية واحدة. وبينما كانت الخطة دالِتْ الرسمية تعرض على القرية خيار الاستسلام، فإن الأوامر العملانية لم تستثنِ أي قرية [من التدمير والطرد- المترجم] مهما يكن السبب. وبذلك تحولت الخطة الرئيسية إلى أمر عسكري بالشروع في تدمير القرى. وقد اختلفت التواريخ بحسب الجغرافيا: لواء ألكسندروني، الذي سيجتاح الساحل العامر بعشرات القرى، مخلفاً وراءه قريتين فقط، تلقى أوامره مع اقتراب نيسان من نهايته؛ والتعليمات بتطهير الجليل الشرقي وصلت إلى قيادة لواء غولاني في 6 أيار 1948، وفي اليوم التالي أقدم على تطهير القرية الأولى في «منطقته»، قرية الشجرة.
تلقت وحدات البالماخ أوامرها بالقيام بعملية نَحْشون في اليوم الأول بالذات من نيسان 1948. وكانت الهيئة الاستشارية اجتمعت في الليلة السابقة في منزل بن- غوريون لوضع اللمسات النهائية على التعليمات للوحدات. كانت الأوامر واضحة: «الهدف الرئيسي للعملية هو تدمير القرى العربية.... [و] طرد القرويين كي يصبحوا عبئاً اقتصادياً على القوات العربية العامة».
واقترنت عملية نَحْشون بتجديدات في نواحٍ أُخرى أيضاً. فقد كانت أول عملية حاولت فيها جميع المنظمات العسكرية اليهودية المتعددة أن تعمل كجيش موحد، واضعة بذلك الأساس لجيش الدفاع الإسرائيلي المرتقب. وكانت هذه أول عملية يتّحد فيها يهود أوروبا الشرقيون القدامى، الذين كانوا بحكم الطبيعة مهيمنين على المشهد العسكري، مع المجموعات الإثنية الأُخرى، مثل القادمين الجدد من العالم العربي ومن أوروبا ما بعد الهولوكوست.
عبدالقادر الحسيني
كتب قائد إحدى الكتائب، التي شاركت في هذه العملية، أوري بن آري، في مذكراته، أن «صَهْرَ الشتات» كان واحداً من الأهداف المهمة لعملية نَحْشون. وكان بن آري آنذاك شاباً يهودياً ألمانياً جاء فلسطين قبل بضع سنوات. واستكملت وحدتـه استعـداداتها لعملية نَحْشون على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من الخضيرة. وتذكّر أنه رأى نفسه شبيهاً بالجنرالات الروس الذين حاربوا النازيين في الحرب العالمية الثانية. وكان «النازيون» في حالته عدداً كبيراً من القرى الفلسطينية المعزولة الواقعة بالقرب من طريق يافا - القدس، والمجموعات شبه العسكرية التابعة لعبد القادر الحسيني التي جاءت لنجدتها.
كانت وحدات عبدالقادر الحسيني ترد على الهجمات اليهودية السابقة بإطلاق النار عشوائياً على وسائط النقل اليهودية المارة بالطرقات، موقعة عدداً من القتلى والجرحى بين المسافرين. أمّا القرويون أنفسهم، كما كانت عليه الحال في أماكن أُخرى من فلسطين، فقد كانوا يحاولون مواصلة العيش كالمعتاد، غافلين عن الصورة الشيطانية التي ينسبها إليهم بن آري ورفاقه. وخلال أيام قليلة سيطرد معظمهم إلى الأبد من البيوت والحقول التي عاشوا هم وأجدادهم فيها وزرعوها منذ قرون. وقد أبدت المجموعات الفلسطينية شبه العسكرية، بقيادة عبدالقادر الحسيني، مقاومة أشد مما توقعت كتيبة بن آري، الأمر الذي أدى إلى عدم تقدم عملية نَحْشون في البداية وفقاً للخطة. لكن مع حلول 9 نيسان كانت الحملة قد انتهت.
في ذلك اليوم نفسه سقطت أول قرية من القرى الفلسطينية العديدة الموجودة حول القدس في أيدي اليهود، على رغم أن اسمها الميمون- القسطل (القلعة). كانت تحصيناتها القديمة لا تزال قائمة، لكنها لم تستطع حمايتها من القوات اليهودية المتفوقة. وكانت القرية واقعة على القمة الغربية الأخيرة قبل الصعود النهائي إلى القدس. ولا يذكر النصب الذي أقامته إسرائيل في الموقع تخليداً للهاغاناه أنه كان هناك بالتحديد قرية فلسطينية. وتشكل اللوحة الموضوعة لإحياء ذكرى المعركة مثالاً نموذجياً لمدى عمق تجذّر لغة الخطة دالِتْ في التاريخ الشعبي الإسرائيلي حالياً. فكما كان الأمر في الخطة، لا تشير اللوحة إلى القسطل كقرية، وإنما كـ «قاعدة للعدو»: القرويون الفلسطينيون يُجردون من إنسانيتهم كي يمكن تحويلهم إلى «أهداف شرعية» يجوز استهدافها بالتدمير والطرد.
في 9 نيسان، قتل عبدالقادر الحسيني في المعركة بينما كان يدافع عن القرية. وقد أدى موته إلى تدهور معنويات جنوده إلى حد أن القرى الأُخرى في القدس الكبرى سقطت كلها بسرعة في أيدي القوات اليهودية. حوصرت واحدة تلو الأُخرى، ثم هوجمت واحتُلت، وطُرد سكانها، وهُدمت بيوتهم ومبانيهم. وفي عدد منها، رافق الطرد مجازر كان أسوأها صيتاً المجزرة التي ارتكبتها القوات اليهودية، يوم سقوط القسطل نفسه، في دير ياسين.
تجلت طبيعة خطة دالِتْ المنهجية والمنظمة جيداً في دير ياسين. وهي قرية هادئة ومسالمة توصلت إلى معاهدة عدم اعتداء مع الهاغاناه في القدس، لكن حُكم عليها بالهلاك لأنها كانت تقع داخل المناطق التي عينتها الخطة دالِتْ أهدافاً للتطهير. ولأن الهاغاناه كانت وقّعت اتفاقاً مع القرية، فإنها قررت أن ترسل إليها قوات الإرغون وعصابة شتيرن، كي تعفي نفسها من أي مسؤولية رسمية. ويُذكر أن في التطهيرات اللاحقة لـ «القرى الصديقة» تخلت الهاغاناه حتى عن اعتبار هذه الخدعة ضرورية.
في 9 نيسان 1948، احتلت القوات اليهودية قرية دير ياسين الواقعة على هضبة إلى الغرب من القدس، على ارتفاع 800 متر فوق سطح البحر بالقرب من حي غِفعات شاؤول اليهودي. وتستخدم مدرسة القرية القديمة اليوم مستشفى للأمراض العقلية يخدم الحي اليهودي الغربي الذي تمدد فوق أراضي القرية المدمرة.
عندما اقتحم الجنود اليهود القرية، رشقوا البيوت بنيران المدافع الرشاشة، متسببين بقتل كثير من سكانها. ومن ثم جمعوا بقية القرويين في مكان واحد وقتلوهم بدم بارد، وانتهكوا حرمة أجسادهم، في حين اغتُصب عدد من النساء ومن ثم قُتلن.
الهدف التالي كان أربع قرى مجاورة: قالونيا، ساريس، بيت سوريك، بِدّو. ولم تستغرق العملية في كل قرية أكثر من ساعة واحدة أو نحوها - دخلت وحدات الهاغاناه القرية المعنية، ونسفت البيوت، وطردت السكان. ومن المثير للاهتمام (أو للسخرية، إن شئت) أن ضباط الهاغاناه ادعوا أنهم اضطروا إلى بذل جهد كبير لكبح سُعار النهب الذي تملّك مرؤوسيهم في كل قرية بعد احتلالها. ويروي بن آري، الذي كان مشرفاً على وحدة زرع المتفجرات التي نسفت البيوت، في مذكراته، كيف أنه بمفرده أوقف عملية نهب القرى. لكن أقل ما يقال في ادعائه هذا أنه مبالغ فيه، علماً أن الفلاحين هربوا من دون أن يحملوا شيئاً معهم بينما وجدت مقتنياتهم طريقها إلى صالونات ومزارع الجنود والضباط، سواء بسواء، كتذكارات حرب.
قريتان في المنطقة نفسها أُعفيتا من التدمير: أبو غوش والنبي صموئيل. وكان السبب في ذلك أن مختاريهما أقاما علاقات ودية مع القادة المحليين لعصابة شتيرن. ومن سخريات القدر أن هذا كان ما حال بينهما وبين الدمار والطرد، إذ أرادت الهاغاناه تدميرهما، لكن الجماعة الأكثر تطرفاً، عصابة شتيرن، سارعت إلى نجدتهما. بيد أن هذا كان استثناء نادراً، إذ لاقت مئات من القرى مصير قالونيا والقسطل نفسه.
إن ثقة القيادة اليهودية في أوائل نيسان بقدرتها لا على الاستيلاء على المناطق التي منحتها الأمم المتحدة للدولة اليهودية فحسب، بل أيضاً على تطهيرها، يمكن سبرها من الطريقة التي وجهت فيها الهاغاناه، مباشرة بعد عملية نَحْشون، اهتمامها إلى المراكز الحضرية الرئيسية في فلسطين. وقد هوجمت هذه المراكز بصورة منهجية خلال بقية الشهر، بينما كان موظفو الأمم المتحدة والموظفون البريطانيون يراقبون ما يجري بلا مبالاة ومن دون أن يحركوا ساكناً.
انطلق الهجوم على المراكز الحضرية ابتداء بطبرية. فما إن وصلت أخبار دير ياسين، وأخبار المجزرة التي وقعت بعد ثلاثة أيام في 12 نيسان في قرية ناصر الدين، إلى السكان الفلسطينيين في طبرية، حتى هرب كثيرون منهم. وكان السكان قد أفزعهم القصف اليومي العنيف من جانب القوات اليهودية المتمركزة على الهضاب المشرفة على هذه العاصمة التاريخية القديمة الواقعة على شاطئ بحيرة طبرية، حيث كان نحو 6000 يهودي و 5000 عربي يعيشون هم وأجدادهم معاً بسلام منذ قرون. ولم يتمكن جيش الإنقاذ، بسبب العرقلة البريطانية، من نجدة المدينة بأكثر من قوة مؤلفة من نحو ثلاثين متطوعاً. ولم يكن هؤلاء نداً لقوات الهاغاناه، التي كانت تدحرج براميل مملوءة بالمتفجرات من الهضاب إلى المدينة، وتستخدم مكبرات الصوت لإصدار أصوات مخيفة لبث الذعر في قلوب السكان - نسخة مبكرة عن اختراق الطائرات المقاتلة لجدار الصوت فوق بيروت في سنة 1982 وفوق غزة في سنة 2005، الذي دانته منظمة حقوق الإنسان بصفته عملاً إجرامياً. وسقطت طبرية في 18 نيسان.

أمـــة الله
2010-11-03, 02:49 PM
طرد أهل حيفا
تمت الموافقة على العمليات التي جرت في حيفا بأثر رجعي، ورحبت الهيئة الاستشارية بها، مع أنها لم تكن بالضرورة المبادرة إلى [إصدار الأوامر- المترجم]. وكان الترويع المبكر لسكان المدينة العرب في كانون الأول [1947 - المترجم] قد دفع كثيرين من أبناء النخبة الفلسطينية إلى المغادرة إلى مساكنهم في لبنان ومصر، ريثما يعود الهدوء إلى مدينتهم. ومن الصعب تقدير عدد الذين يمكن تصنيفهم ضمن هذه الفئة: معظم المؤرخين يقدر الرقم ما بين 15000 و20000.
في 12 كانون الثاني (يناير) 1948، أبرق زعيم محلي يدعى فريد السعد، مدير البنك العربي في حيفا وعضو اللجنة القومية المحلية، إلى الدكتور حسين الخالدي، سكرتير الهيئة العربية العليا، قائلاً بيأس: «من حسن الحظ أن اليهود لا يعرفون الحقيقة». وكانت «الحقيقة» أن النخبة الحضرية في فلسطين انهارت بعد شهر من القصف اليهودي العنيف والاعتداءات. لكن اليهود كانوا يعرفون تماماً ما كان يجري. وفي الواقع، كانت الهيئة الاستشارية تعرف جيداً أن الأغنياء والميسورين غادروا في كانون الأول (ديسمبر)، وأن المدينة لم تكن تصل إليها أسلحة عربية، وأن الحكومات العربية لم تكن تفعل أكثر من شن حرب كلامية حماسية عبر الأثير لإخفاء تقاعسها عن العمل وعدم رغبتها في التدخل لمصلحة الفلسطينيين.
أمّا رحيل الأغنياء فكان معناه أن ما بين 55000 و60000 فلسطيني في حيفا أصبحوا بلا قيادة. وأنهم، نظراً إلى عدد المتطوعين القليل في المدينة، كانوا في نيسان 1948 تحت رحمة القوات اليهودية، وذلك على رغم وجود القوات البريطانية، التي كانت نظرياً مسؤولة عن سلامة السكان المحليين ورخائهم.
استهدفت العملية اليهودية في مرحلتها الأولى المنطقة المحيطة بحيفا، وأُطلق عليها الاسم الرمزي، المنذر بالشؤم، «المقص» (مِسْبارايمْ)، الذي يشير إلى حركة كماشة وإلى فصل المدينة عن الأرياف المحيطة بها. وكانت حيفا، مثل طبرية، قد خُصصت في خطة الأمم المتحدة للدولة اليهودية، علماً أن ترك الميناء الكبير الوحيد في البلد تحت السيطرة اليهودية كان مظهراً آخر من مظاهر الصفقة المجحفة التي عرضتها الأمم المتحدة على الفلسطينيين في اقتراحها لإحلال السلام. وقد أراد اليهود المدينة من دون الـ75000 فلسطيني القاطنين فيها، وفي نيسان 1948، حققوا هدفهم.
وبما أن حيفا كانت ميناء فلسطين الرئيسي، فإنها كانت المحطة الأخيرة في مسار الانسحاب البريطاني. وكان من المتوقع أن يبقى البريطانيون حتى آب (أغسطس)، لكنهم قرروا في شباط (فبراير) 1948 تقديم موعد الانسحاب إلى أيار. وبالتالي، فإن أعداداً كبيرة من الجنود البريطانيين كانت موجودة في المدينة، وكان لا يزال لديها السلطة القانونية، ويمكن للمرء أن يضيف الأخلاقية، لفرض القانون والنظام العام فيها. لكن سلوك هؤلاء الجنود، كما اعترف بذلك كثير من الساسة البريطانيين في وقت لاحق، شكل واحداً من أكثر الفصول مدعاة إلى العار في تاريخ الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط. وقد بدأت الحملة اليهودية لبث الذعر في القلوب في كانون الأول، واشتملت على قصف عنيف، ونيران قنص، وأنهار من النفط والوقود المشتعل المتدفقة من أعالي الجبل [الكرمل- المترجم] إلى الأسفل، وبراميل مملوءة بالمتفجرات، وتواصلت طوال الأشهر الأولى من سنة 1948، لكنها اشتدت في أوائل نيسان. وفي 18 نيسان، في اليوم نفسه الذي أُرغم فيه الفلسطينيون في طبرية على الهروب، استدعى الميجر جنرال هْيو ستوكويل، قائد القطاع الشمالي البريطاني، الذي كان مقره في حيفا، ممثلي السلطات اليهودية في المدينة وأخبرهم أن القوات البريطانية ستنسحب خلال يومين من مواقعها التي كانت تشكل منطقة عازلة بين المجتمعين. وكانت هذه المنطقة «العازلة» هي العقبة الوحيدة التي منعت القوات اليهودية من شن هجوم مباشر واحتلال المناطق الفلسطينية التي كان أكثر من 50000 نسمة ما زالوا يعيشون فيها. وهكذا أصبح الطريق مفتوحاً أمام تطهير حيفا من العرب.
أُوكلت المهمة إلى لواء كرملي، الذي كان واحداً من صفوة التشكيلات في الجيش اليهودي (كان هناك ألوية من «نوعية أدنى» مثل لواء كرياتي، المشكَّل من يهود عرب كانوا يرسلون للقيام فقط بأعمال النهب أو بـ «مهمات» أقل جاذبية؛ ويمكن العثور على وصف للواء كرياتي بأنه مكوّن من «نوعية بشرية أدنى» في الوثائق الإسرائيلية). وكان يقف في مواجهة لواء كرملي، البالغ تعداده 2000 جندي، جيش عديده 500 من المتطوعين المحليين، ومن متطوعين آخرين معظمهم لبنانيون، في حيازتهم أسلحة بسيطة وذخائر محدودة، وبالتأكيد لا شيء يعادل العربات المصفحة ومدافع الهاون في الجانب اليهودي.
وكان معنى إزالة الحاجز البريطاني أنه يمكن استبدال عملية «المقص» بعملية «إزالة الخبز المختمر» («بِعور حَميتس»). ويعني هذا التعبير بالعبرية التطهير الكلي، ويشير إلى الفريضة الدينية اليهودية القاضية بتطهير البيوت من أي أثر للخبز أو الطحين عشية عيد الفصح، لأن من المحظور تناولهما خلال أيام الصوم - اسم رمزي ملائم بشكل وحشي لتطهير حيفا، حيث الفلسطينيون كانوا الخبز والطحين في العملية التي بدأت عشية عيد الفصح، في 21 نيسان.
كان ستوكويل، القائد البريطاني، على علم مسبق بالهجوم اليهودي الوشيك، واستدعى في وقت مبكر من اليوم نفسه «القيادة الفلسطينية» في المدينة للتشاور. وقابلته مجموعة من أربعة أشخاص منهَكين، أصبحوا قادة المجتمع العربي وقتئذ، مع أن أياً من المناصب التي كانوا يشغلونها رسمياً لم يهيئهم للحظة التاريخية الحاسمة التي تجلت في مكتب ستوكويل في صبيحة ذلك اليوم. وتظهر مراسلات سابقة بينهم وبين ستوكويل أنهم كانوا يثقون به بصفته حامي القانون والنظام في المدينة. وإذ بالضابط البريطاني ينصحهم اليوم بأن من الأفضل لشعبهم أن يرحل عن المدينة، حيث كانوا هم ومعظم عائلاتهم يعيشون ويعملون منذ منتصف القرن الثامن عشر، عندما برزت حيفا كمدينة حديثة. وبالتدريج، بينما كانوا يصغون إلى ستوكويل وثقتهم به تتضاءل، أدركوا أنهم لن يستطيعوا حماية مجتمعهم، واستعدوا للأسوأ: بما أن البريطانيين لن يحموهم، فإن مصيرهم المحتوم سيكون الطرد. وأخبروا ستوكويل أنهم يريدون الرحيل بشكل منظم. وحرص لواء كرملي على ترحيلهم عبر أشلاء القتلى والدمار.
كان الرجال الأربعة، وهم في طريقهم لمقابلة القائد البريطاني، يسمعون مكبرات الصوت اليهودية تحث النساء والأطفال الفلسطينيين على الرحيل قبل فوات الأوان، بينما في أجزاء أُخرى من المدينة كانت مكبرات الصوت تبث رسالة مناقضة تماماً صادرة عن محافظ المدينة اليهودي، شبتاي ليفي، الذي كان شخصاً محترماً بحسب جميع الروايات، والذي توسل إلى الناس كي يبقوا، ووعدهم أن أي أذى لن يلحق بهم. لكن مردخاي مَكْليف، قائد عملية لواء كرملي، وليس ليفي، كان صاحب القرار. وقد نسّق مَكْليف حملة التطهير، وكانت الأوامر التي أصدرها إلى قواته واضحة وبسيطة: «اقتلوا كل عربي تصادفونه، واحرقوا جميع الأشياء القابلة للاحتراق، واقتحموا الأبواب بالمتفجرات» (لاحقاً أصبح رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي).
عندما نُفذت هذه الأوامر من دون إبطاء داخل الـ 1.5 كم 2 التي كان لا يزال يعيش فيها آلاف من سكان حيفا العزّل، كانت الصدمة والرعب من الشدة حيث إن الناس بدأوا الرحيل جماعياً، من دون أن يجمعوا أياً من حاجاتهم أو حتى يدركوا ما كانوا يفعلونه. وفي غمرة الذعر، اتجهوا نحو الميناء على أمل أن يجدوا سفينة أو قارباً ينقلهم بعيداً عن المدينة. وما إن لاذوا بالفرار حتى اقتحم الجنود اليهود بيوتهم ونهبوها.
وعندما زارت غولدا مئير، واحدة من القادة الصهيونيين الكبار، حيفا بعد أيام قليلة، وجدت من الصعب عليها في البداية أن تكبت إحساساً بالرعب عندما دخلت البيوت حيث كان الطعام المطبوخ ما زال على الطاولات، والألعاب والكتب التي تركها الأطفال على الأرض، وحيث بدا الأمر كأن الحياة تجمدت في لحظة واحدة. وكانت مئير جاءت فلسطين من الولايات المتحدة، التي هربت عائلتها إليها في إثر المذابح المنظمة في روسيا، وذكّرتها المناظر التي شاهدتها ذلك اليوم بأسوأ القصص التي سمعتها من عائلتها عن الوحشية الروسية ضد اليهود قبل عقود. لكن ذلك لم يؤثر، كما يبدو، في عزمها أو عزم زملائها على المضي قدماً في التطهير العرقي لفلسطين.
في الساعات الأولى من فجر يوم 22 نيسان، بدأ الناس يتدفقون إلى الميناء. وبما أن الشوارع كانت في ذلك الجزء من المدينة شديدة الازدحام بالناس الساعين للنجاة، فإن القيادة العربية التي نصبت نفسها قيادة حاولت أن تدخل شيئاً من النظام إلى الفوضى العارمة. وكان في الإمكان سماع مكبرات الصوت تحث الناس على التجمع في السوق القديمة المجاورة للميناء، والبحث عن مكان آمن هناك إلى أن يصبح في الإمكان ترتيب إخلاء منظم عن طريق البحر. «اليهود احتلوا شارع ستانتون وهم على الطريق»، كانت مكبرات الصوت تدوّي.
إن كتاب لواء كرملي عن الحرب، الذي يروي ما قام به خلال الحرب، لا ينم عن أي وخز للضمير في ما يتعلق بما جرى بعد ذلك. ضباط اللواء، الذين كانوا يعرفون أن الناس نُصحوا بالتجمع بالقرب من بوابة الميناء، أمروا جنودهم بنصب مدافع هاون من عيار 3 بوصات على منحدرات الجبل المطلة على السوق والميناء- حيث يقوم مستشفى روتشيلد اليوم - وبقصف الناس المحتشدين في الأسفل. وكان الهدف التأكد من أن الناس لن يترددوا، وضمان أن يكون الهروب في اتجاه واحد فقط. وما إن تجمع الفلسطينيون في السوق - تحفة معمارية ترجع إلى العهد العثماني، مغطاة بسقوف بيض مقوسة، ودُمرت كلياً بعد قيام دولة إسرائيل- حتى أصبحوا هدفاً سهلاً للرماة اليهود.
كانت سوق حيفا تبعد أقل من مئة متر عما كان وقتها بوابة الميناء. وعندما بدأ القصف كانت البوابة الوجهة الطبيعية للفلسطينيين الذين أصابهم الذعر. وأزاح الحشد حراس البوابة من الشرطة جانباً واندفع إلى داخل الميناء. وسارع عشرات إلى القوارب التي كانت راسية هناك وصعدوا إليها وبدأوا الرحيل عن المدينة.
بعد أن سقطت حيفا لم يبق في فلسطين سوى مدن قليلة حرة، بينها عكا والناصرة وصفد. وبدأت المعركة على صفد في منتصف نيسان، واستمرت حتى الأول من أيار. ولم يكن السبب في استمرارها مقاومة عنيدة من جانب الفلسطينيين أو متطوعي جيش الإنقاذ، مع أنهم بذلوا جهداً جدياً أكثر مما في أمكنة أُخرى، وإنما اعتبارات تكتيكية وجهت الحملة اليهودية أولاً إلى الأرياف المحيطة بصفد، ومن ثم قامت القوات بمهاجمة المدينة.
كان عدد سكان صفد 9500 عربي و2400 يهودي. وكان معظم اليهود القاطنين هناك من المتدينين المتعصبين جداً ( Ultra-Orthodox )، ولم يكونوا معنيين قط بالصهيونية، ناهيك عن محاربة جيرانهم العرب. وقد يكون هذا الأمر، بالإضافة إلى الطريقة المتدرجة التي اتبعت في الاستيلاء على المدينة، قد أوهما أعضاء اللجنة القومية المحلية الأحد عشر بأن مصير صفد ربما سيختلف عن مصير المراكز الحضرية الأُخرى. وكانت اللجنة هيئة تمثيلية إلى حد كبير، ضمت أعيان المدينة، وعلماء (دين)، وتجاراً، ومُلاَّك أراض، وناشطين سابقاً في ثورة 1936 التي كانت صفد مركزاً رئيسياً لها. وتعزز هذا الإحساس بالأمان بفضل وجود عدد كبير نسبياً من المتطوعين العرب في صفد، قُدِّر بأكثر من 400 متطوع، مع أن نصفهم فقط كان مسلحاً ببنادق. وكانت المناوشات في المدينة بدأت في أوائل كانون الثاني، وسببها غارة استطلاعية عدوانية دخل خلالها عدد من أعضاء الهاغاناه إلى سوق وأحياء فلسطينية. وكان يتولى الدفاع عن المدينة ضد الهجمات المتكررة التي قامت بها وحدات الكوماندو التابعة للهاغاناه، البالماخ، ضابط سوري كاريزماتي هو إحسان كم الماز.
في البداية، كانت هجمات البالماخ هذه متفرقة وغير فعالة، لأن جهود الوحدات كانت مركزة على المناطق الريفية المحيطة بالمدينة. لكن عندما انتهت من السيطرة على القرى المجاورة لصفد (سيجري التطرق إلى ذلك لاحقاً في هذا الفصل)، أصبح في استطاعتها التركيز كلياً على المدينة نفسها، في 29 نيسان 1948. ولسوء حظ سكان صفد، فإنهم تحديداً في اللحظة التي احتاجوا فيها إلى الضابط القدير كم الماز، فقدوه. وعيّن القائد الجديد لجيش الإنقاذ في الجليل، أديب الشيشكلي (الذي سيصبح رئيساً للجمهورية السورية في الخمسينات)، مكانه ضابطاً آخر من ضباط جيش الإنقاذ يفتقر إلى كفاءة سلفه. وعلى أي حال، من المشكوك فيه أن النتيجة كانت ستكون مختلفة لو كان كم الماز موجوداً، نظراً إلى التفاوت الكبير في ميزان القوى: 1000 من جنود البالماخ المدربين جيداً في مواجهة 400 متطوع عربي، وهو تفاوت ينطبق على كثير من موازين القوى المحلية آنذاك، ويظهر زيف أسطورة داود اليهودي في مواجهة جُليات العربي في سنة 1948.
طردت قوات البالماخ معظم السكان، وسمحت فقط ببقاء 100 رجل طاعن في السن، لكن لا لفترة طويلة. وفي 5 حزيران، سجل بن غوريون في يومياته باقتضاب: «أخبرني أبراهام حانوخي، من [كيبوتس] أييلِتْ هشاحَر، أنه نظراً إلى بقاء 100 رجل طاعن في السن فقط في صفد فقد تم طردهم إلى لبنان».

أمـــة الله
2010-11-03, 02:50 PM
فصول من «التطهير العرقي في فلسطين» (6 من 8)
المقدسيون يبحثون عبثاً عن قيادة و «الهاغاناه» تسمم مياه عكا وتخرّب يافا


كتاب ايلان بابه «التطهير العرقي في فلسطين» الذي تنشر «الحياة» فصولاً منه، يكشف المسكوت عنه حول دور التطهير العرقي في إنشاء إسرائيل.
ويدحض المؤلف الأفكار الرائجة عن ان نزوح الفلسطينيين من أرضهم يعود الى اختيار طوعي أو الى وعود الجيوش العربية بأن النازحين سيعودون ما ان تكمل عملياتها ضد ما سمي آنذاك «العصابات الصهيونية».
تصدر الطبعة العربية من الكتاب في أواسط الشهر المقبل عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأنجز الترجمة أحمد خليفة. والمؤلف ايلان بابه من المؤرخين الإسرائيليين الجدد وأستاذ في جامعة حيفا وناشط في مؤسسات أبحاث من اجل السلام.
«الحياة» نشرت خمس حلقات، وهنا السادسة:
لم تتخطَّ حملة تدمير المدن الفلسطينية القدس، التي تحولت بسرعة من «المدينة الخالدة»، كما يصفها كتاب لسليم تماري، إلى «مدينة أشباح». قصفت القوات اليهودية الأحياء العربية الغربية ثم هاجمتها واحتلتها في نيسان (أبريل) 1948. وكان عدد من السكان الأثرياء والقاطنين في الأحياء الفخمة قد غادر المدينة قبل عدة أسابيع،. والباقون طردوا من منازلهم التي لا تزال شاهدة على الجمال المعماري لأحياء النخبة الفلسطينية التي بدأت تبني بيوتها خارج أسوار البلدة القديمة منذ نهاية القرن التاسع عشر. وقد بدأ بعض هذه التحف الفنية بالاختفاء في الأعوام الأخيرة، إذ تضافرت حمّى العقارات، وجشع المقاولين لتحول هذه المناطق السكنية الجميلة إلى شوارع تملأها فيلات قبيحة وقصور باذخة لليهود الأميركيين الأثرياء الذين يميلون إلى التقاطر إلى المدينة في شيخوختهم.
عندما جرى «تطهير» هذه المناطق واحتلالها كانت القوات البريطانية لا تزال موجودة في فلسطين، لكنها ظلت بعيدة ولم تتدخل. إنما في منطقة واحدة فقط، قرر قائد بريطاني التدخل، وكان ذلك في الشيخ جرّاح، وهو أول حي فلسطيني بني خارج أسوار البلدة القديمة، وكانت تقيم فيه العائلات العريقة الرئيسة، مثل آل الحسيني والنشاشيبي والخالدي.
كانت التعليمات الصادرة إلى القوات اليهودية في نيسان 1948 واضحة جداً: «عليكم القيام باحتلال الحي وتدمير جميع منازله.» وبدأ الهجوم في 24 نيسان 1948، لكن البريطانيين أوقفوه قبل إنجاز المهمة. ولدينا شهادة بالغة الأهمية على ما حدث في الشيخ جرّاح من أمين سر الهيئة العربية العليا، د. حسين الخالدي، الذي كان يقيم هناك، إذ كانت برقياته اليائسة غالباً ما يتم اعتراضها من الاستخبارات الإسرائيلية، وهي محفوظة في الأرشيفات الإسرائيلية. ويذكر الخالدي أن قوات القائد البريطاني أنقذت الحي، عدا 20 منزلاً نجحت الهاغاناه في نسفها. ويبين هذا الموقف البريطاني المتصدي كم كان مصير كثير من الفلسطينيين اختلف لو أن القوات البريطانية تدخلت في أمكنة أُخرى، كما كانت تلزمها بذلك بنود صك الانتداب وشروط قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة.
امتناع البريطانيين من التدخل كان القاعدة، كما تبين ذلك مناشدات الخالدي الشديدة القلق والتوتر في ما يتعلق بأحياء القدس الأُخرى، خصوصاً تلك الموجودة في الجزء الغربي من المدينة. وكانت هذه المناطق تتعرض لقصف متكرر منذ اليوم الأول من كانون الثاني (يناير). وهنا، خلافاً للشيخ جرّاح، قام البريطانيون بدور شيطاني حقاً، إذ جردوا القلة من السكان الفلسطينيين التي كانت تمتلك أسلحة من أسلحتها، ووعدوا أن يحموا الناس من الهجمات اليهودية، ولكن، فوراً، نكثوا الوعد.
يخبر الدكتور الخالدي، في إحدى برقياته في أوائل كانون الثاني، الحاج أمين، الموجود في القاهرة، كيف أنه في كل يوم تقريباً يتظاهر حشد غاضب من المواطنين أمام منزله باحثاً عن قيادة، ومطالباً بالمساعدة. ويضيف أن الأطباء أخبروه أن المستشفيات تغص بالمصابين، وأن الأكفان التي لديهم لا تكاد تكفي الموتى، وأن فوضى عارمة تعم المدينة، والناس مصابون بذعر شديد.
لكن الأسوأ كان في طريقه إليهم. فبعد أيام قليلة من الهجوم المجهَض على الشيخ جرّاح، تعرضت أحياء القدس الشمالية والغربية لقصف متواصل بمدافع الهاون من عيار 3 إنشات، التي استخدمت في قصف حيفا. وحده حي شعفاط صمد، ورفض الاستسلام، وسقط حي القطمون في الأيام الأخيرة من نيسان. ويتذكر يتسحاق ليفي، رئيس استخبارات الهاغاناه في القدس: «في أثناء «تطهير» القطمون، بدأ النهب والسرقة. وشارك فيهما الجنود والمواطنون سواء بسواء. اقتحموا البيوت وأخذوا الأثاث، والملابس، والأدوات الكهربائية، والأطعمة.»
وكانت المحصلة الإجمالية للتطهير العرقي في منطقة القدس الكبرى «تطهير» ثمانية أحياء وتسع وثلاثين قرية فلسطينية، وطرد سكانها إلى الجزء الشرقي من المدينة. القرى أزيلت من الوجود، لكن بعض أجمل بيوت القدس لا يزال قائماً- تقطن فيه عائلات يهودية استولت عليه فور إخلائه من سكانه- شواهد باقية على المصير المأسوي لمُلاّك هذه البيوت.
عكا وبيسان
واصلت حملة تدمير المدن الفلسطينية اندفاعها، فاحتُلت عكا على الساحل، وبيسان في الشرق في 6 أيار (مايو) 1948. في بداية أيار برهنت عكا مرة أُخرى أن نابليون لم يكن وحده من اكتشف أن من الصعب إخضاعها؛ وعلى رغم الازدحام الشديد الناجم عن تدفق اللاجئين الهائل من مدينة حيفا المجاورة إليها، والقصف اليومي العنيف، فشلت القوات اليهودية في قهر المدينة الصليبية. غير أن مصدر مياهها المكشوف، الواقع على بعد عشرة كيلومترات إلى الشمال منها، من ينابيع الكابري، المسحوبة عبر قناة عمرها 200 عام، كان بمثابة عقب أخيل بالنسبة إليها. ويبدو أنه جرى خلال الحصار تلويث المياه بجراثيم التيفوئيد. وقد رفع مبعوثو الصليب الأحمر الدولي المحليون إلى مركزهم الرئيس تقارير بذلك، ولم يتركوا أدنى شك بمن يشتبهون: الهاغاناه. وتصف تقارير الصليب الأحمر تفشياً مفاجئاً لمرض التيفوئيد، بل حتى تشير، على الرغم من لهجتها الحذرة، إلى تسمّم خارجي كتفسير وحيد له.
في 6 أيار 1948، عقد اجتماع طارئ في مستشفى عكا اللبناني، الذي كان تابعاً للصليب الأحمر. وحضر الاجتماع البريغادير بيفريدج رئيس الخدمات الطبية البريطانية، والكولونيل بونيت من الجيش البريطاني، والدكتور ماكلين من الخدمات الطبية، والسيد دو مورون مندوب الصليب الأحمر في فلسطين، وموظفون حكوميون يمثلون المدينة، وذلك لمناقشة أمر المرضى السبعين الذين قضى عليهم الوباء. وتوصلوا إلى نتيجة فحواها أن الإصابة بالمرض مصدرها من دون شك مياه ملوثة، وليس الازدحام الشديد أو الأوضاع غير الصحية كما ادعت الهاغاناه. وأكد ذلك أن المرض أصاب أيضاً خمسة وخمسين جندياً بريطانياً نقلوا إلى مستشفى بور سعيد في مصر.
«لم يحدث قط شيء كهذا في فلسطين»، أخبر البريغادير بيفريدج دو مورون. وما إن تم تحديد القناة مصدراً للوباء حتى تحول الناس إلى الآبار الأرتوازية والمياه المستمدة من المحطة الزراعية الموجودة شمالي عكا. كما أُخضع اللاجئون من عكا، الموجودون في مخيمات شمالي المدينة، لفحوص طبية منعاً لانتشار الوباء.
مع تدهور المعنويات جرّاء وباء التيفوئيد والقصف العنيف، استجاب الناس للدعوة المنطلقة من مكبرات الصوت التي كانت تصرخ بهم: «استسلموا أو انتحروا. سنبيدكم حتى آخر رجل فيكم». وروى الملازم بوتيت، وهو مراقب فرنسي تابع للأمم المتحدة، أنه بعد سقوط المدينة بيد القوات اليهودية، تعرضت لحملة نهب منظمة واسعة النطاق قام بها الجيش، وشملت الأثاث، والملابس، وأي شيء قد يكون مفيداً للمهاجرين اليهود الجدد، أو من شأن أخذه أن يثني اللاجئين عن العودة.
جرت محاولة مشابهة لتسميم مصادر مياه غزة في 27 أيار ، لكنها أُحبطت. وقبض المصريون على يهوديين، دافيد حورِن وديفيد مِزْراحي، بينما كانا يحاولان تلويث آبار المياه في غزة بجراثيم التيفوئيد والديزنطاريا. وأخطر الجنرال يادين بن- غوريون، رئيس حكومة إسرائيل وقتئذ، بالحادثة، وسجّلها هذا في يومياته من دون تعليق. وأعدم المصريون اليهوديين لاحقاً، ولم تصدر عن الإسرائيليين احتجاجات رسمية.
كان إرنست دافيد بيرغمان مع الأخوين كاتسير، جزءاً من فريق عمل على تطوير قدرة إسرائيل البيولوجية الحربية، شكّله بن- غوريون في الأربعينات، ودُعي بالاسم الملطَّف «سِلْك الهاغاناه العلمي». وقد عُيّن إفرايم كاتسير مديراً له في أيار 1948، وأعيدت تسميته فأصبح يُدعى «حِيمدْ» (الأحرف الأولى في كلمتي «حِيلْ مادَعْ»، أي «سلاح العِلْم»). ولم يساهم هذا السلاح بصورة رئيسة في حملات سنة 1948، لكن إنتاجه المبكر دل على الطموحات التي ستسعى إسرائيل لتحقيقها في المستقبل في مجال الأسلحة غير التقليدية.
في الوقت الذي احتُلت عكا تقريباً، احتل لواء غولاني مدينة بيسان. وعلى غرار صفد، هوجمت المدينة بعد احتلال قرى كانت تقع في جوارها. وكانت القوات اليهودية، بعد نجاحها في احتلال حيفا وطبرية وصفد، واثقة بنفسها وفعالة جداً. وقد حاولت، مُسلّحة بالخبرة التي اكتسبتها بالطرد الجماعي، أن ترغم السكان على الرحيل بسرعة بإنذارهم بمغادرة بيوتهم خلال عشر ساعات. وسُلّم الإنذار إلى «أعيان المدينة»، أي إلى قلة من اللجنة القومية المحلية. ورفض هؤلاء الأعيان ذلك، وحاولوا على عجل تخزين مواد غذائية استعداداً لحصار طويل؛ وجهّزوا بعض الأسلحة، وفي الأساس مدفعان جلبهما إلى المدينة متطوعون، من أجل صد الهجوم الوشيك.
بعد قصف يومي عنيف، بما في ذلك قصف جوي، قررت لجنة بيسان المحلية الاستسلام. وكانت الهيئة التي اتخذت القرار مؤلفة من القاضي المحلي، وأمين سر البلدية، وأغنى تاجر في المدينة. واجتمعوا ببالتي سيلا وزملائه لمناقشة شروط الاستسلام (قبل الاجتماع، طالب الأعضاء بالسماح لهم بالسفر إلى نابلس لمناقشة الاستسلام، لكن طلبهم رُفض). وفي 11 أيار ، أصبحت المدينة تحت السيطرة اليهودية. وتذكّر بالتي سيلا بصورة خاصة المدفعين القديمين البائسين اللذين كان مأمولاً منهما حماية بيسان: مدفعان فرنسيان مضادان للطائرات من مخلّفات الحرب العالمية الأولى، يمثلان المستوى العام للأسلحة التي كانت في حيازة الفلسطينيين والمتطوعين العرب عشية دخول الجيوش العربية النظامية فلسطين.
بعد الاجتماع مباشرة، كان في استطاعة بالتي سيلا وزملائه الإشراف على «الطرد المنظَّم» لسكان المدينة. بعضهم تم ترحيله إلى الناصرة - وقتها كانت لا تزال مدينة فلسطينية حرة، لكن وضعها هذا تغير بعد فترة وجيزة - والبعض الآخر إلى جنين، لكن الغالبية طُردت إلى ما وراء الضفة الأُخرى لنهر الأردن القريب. ويتذكر شهود عيان حشوداً من بيسان، مذعورة ومهيضة الجناح، تتجه مسرعة نحو نهر الأردن، ومن هناك إلى مخيمات أقيمت على عجل في الأراضي الأردنية. لكن، بينما كانت القوات اليهودية مشغولة بعمليات أُخرى في الجوار، نجح عدد قليل جداً منهم في العودة؛ إذ كانت بيسان قريبة جداً من الضفة الغربية ونهر الأردن، وبالتالي كانت عودتهم متسللين من دون أن ينكشف أمرهم سهلة نسبياً. وقد نجحوا في البقاء حتى منتصف حزيران ، وعندئذ حمّلهم الجيش الإسرائيلي تحت تهديد السلاح في شاحنات وطردهم إلى ما وراء نهر الأردن مرة أُخرى.

أمـــة الله
2010-11-03, 02:50 PM
خراب يافا
كانت يافا آخر مدينة يجري احتلالها، وحدث ذلك في 13 أيار، قبل يومين من انتهاء الانتداب. وعلى غرار كثير من المدن الفلسطينية، كان ليافا تاريخ طويل يرجع إلى العصر البرونزي، وتراث روماني وبيزنطي مثيران للإعجاب. وكان القائد المسلم، عمروبن العاص، هو من احتل المدينة سنة 632، وأكسبها صفتها العربية. وكانت يافا الكبرى تشتمل على أربع وعشرين قرية عربية وسبعة عشر مسجداً؛ لم يبق منها سوى مسجد واحد، بينما اختفت القرى جميعها من الوجود.
في 13 أيار هاجم 5000 جندي تابعين للهاغاناه والإرغون المدينة، بينما حاول متطوعون عرب بقيادة ميشال العيسى، وهو مسيحي محلي، الدفاع عنها. وكان بين المتطوعين وحدة استثنائية مكوّنة من 50 مسلماً من البوسنة، وعدد من أفراد الجيل الثاني من فرسان الهيكل (Templars)، وهؤلاء مستعمرون ألمان جاؤوا البلد في منتصف القرن التاسع عشر كمبشرين دينيين وقرروا الآن أن يدافعوا عن مستعمراتهم (استسلم فرسان آخرون في الجليل من دون قتال، وطردوا بسرعة من مستعمرتين جميلتين، فالدهايم وبيت لحم، غربي الناصرة).
إجمالاً، كان ثمة في يافا قوة دفاعية أكبر مما كان لدى الفلسطينيين في أي موقع آخر: 1500 متطوع في مقابل 5000 جندي يهودي. وصمدت المدينة ثلاثة أسابيع في وجه الحصار والهجوم الذي بدأ في أواسط نيسان وانتهى في أواسط أيار. وعندما سقطت طُرد جميع سكانها البالغ عددهم 50.000 نسمة «بمساعدة» وساطة بريطانية، الأمر الذي يعني أن هروبهم كان أقل فوضوية مما كان عليه الهروب في حالة حيفا. ومع ذلك، لم يخل الأمر من مشاهد مروعة تذكّر المرء بما حدث في ميناء حيفا في الشمال: حرفياً، أناس يُدفعون إلى البحر في أثناء محاولة الحشود الصعود إلى قوارب الصيد الصغيرة التي كانت ستنقلهم إلى غزة، بينما كانت القوات اليهودية تطلق النار فوق رؤوسهم لتسريع طردهم.
وبسقوط يافا، تم للقوات اليهودية إخلاء جميع مدن وبلدات فلسطين الرئيسة وطرد سكانها. ولم تقع عيون الغالبية الساحقة من سكانها - من جميع الطبقات والمذاهب الدينية والمهن- على مدنها مرة أُخرى. غير أن الأكثر تسيّساً بينهم سيقومون بدور تكويني في عودة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى الظهور في صيغة منظمة التحرير الفلسطينية، وبالمطالبة أولاً وقبل كل شيء بحق العودة.
التطهير يستمر
بحلول نهاية آذار كانت العمليات العسكرية اليهودية دمرت الكثير من أرياف يافا وتل أبيب. وكان هناك تقسيم واضح للعمل بين الهاغاناه والإرغون. وبينما كانت الهاغاناه تتحرك بطريقة منظمة من مكان إلى آخر وفقاً لخطة موضوعة، تُركت للإرغون حرية القيام بعمليات متفرقة في القرى الواقعة خارج نطاق الخطة الأصلية. وهذا يفسر كيف وصلت الإرغون إلى قرية الشيخ مونِّس (أو مونيس، كما تسمى اليوم) في 30 آذار وطردت سكانها بالقوة. واليوم سيجد المرء حرم جامعة تل أبيب الأنيق ممتداً فوق بقايا القرية، بينما تحوّل أحد المباني القليلة الباقية إلى ناد لأساتذة الجامعة.
ولو لم يكن هناك تفاهم ضمني بين الهاغاناه والإرغون، لربما كان في الإمكان إنقاذ الشيخ مونس. فقد كان رؤساء القرية بذلوا جهداً كبيراً لإقامة علاقات ودية مع الهاغاناه لتفادي طرد سكانها، لكن «المستعربين» الذين أبرموا المعاهدة اختفوا كلياً عندما حضرت الإرغون وطردت سكان القرية برمتهم.
وكانت العمليات التي نفذت في الريف في نيسان متصلة في شكل أوثق بتدمير المدن الفلسطينية. فالقرى الواقعة بالقرب من المراكز الحضرية كانت تُحتل ويُطرد سكانها، وأحياناً تتعرض لمجازر، في حملة إرهابية مصمَّمة لتمهيد الأرض لاحتلال ناجح للمدن.
اجتمعت الهيئة الاستشارية مرة أُخرى يوم الأربعاء في 7 نيسان 1948، وقررت طرد سكان القرى الواقعة على طريق تل أبيب - حيفا، وطريق جنين - حيفا، وطريق القدس - يافا، وتدميرها كلها. وفي نهاية الأمر، لم ينج من التدمير والطرد سوى حفنة ضئيلة من هذه القرى.
وهكذا، في الوقت الذي محت الإرغون الشيخ مونس، احتلت الهاغاناه ست قرى في هذه المنطقة خلال أسبوع. وكانت أولاها خربة عزّون التي احتُلت في 2 نيسان ، وتبعتها خربة لِدْ، وعرب الفقراء، وعرب النفيعات، وعرب ظهرة الضميري، وجميعها طُهّرت في 10 نيسان ، وشركِس في 15 منه. وبحلول نهاية الشهر كان تم احتلال وتدمير ثلاث قرى أُخرى في جوار يافا وتل أبيب: خربة منشية، وبيار عدس، ومِسْكة الكبيرة.
وهذا كله جرى قبل أن يدخل أي جندي عربي نظامي فلسطين. وبعد القرى الأخيرة المذكورة يصبح من الصعب تتبع الخطى التالية، سواء على معاصري الأحداث أو على المؤرخين اللاحقين. إنما بين 30 آذار و15 أيار احتُلت 200 قرية وطرد سكانها. وهذه حقيقة يجب تكرارها لأنها تقوّض الخرافة الإسرائيلية بأن العرب هربوا عندما بدأ «الغزو العربي». إن نصف القرى العربية تقريباً كان هوجم قبل أن تقرر الحكومات العربية أخيراً، وعلى مضض كما نعرف، إرسال قواتها. وسيتم محو تسعين قرية أُخرى بين 15 أيار و11 حزيران (يونيو) 1948، عندما وُضعت الهدنة الأولى أخيراً موضع التنفيذ.
يتذكر شهود عيان في الجانب اليهودي أنهم كانوا يعتقدون بوضوح خلال نيسان أن الجيش الإسرائيلي كان في استطاعته أن يفعل أكثر. وفي مقابلة حديثة [نسبياً- المترجم] أجراها مؤرخون رسميون مع بالتي سيلا، ويمكن العثور عليها في أرشيفات الهاغاناه في تل أبيب، استخدم لغة عاطفية لاستحضار جو الحماسة المفرطة. وكان بالتي سيلا أحد أفراد القوات اليهودية التي احتلت مدينة بيسان «طهرتها»، والتي أُمرت بطرد العشائر البدوية الكبيرة التي كانت تقطن في تلك المنطقة منذ قرون. يقول سيلا في المقابلة:
بعد أن «طهرنا» المنطقة من العشائر البدوية بقي جرح بيسان المتقيح (استخدم المفردة في لغة الييديش التي تعني ذلك fanunkel): ملوَّثاً بقريتين، فرونة والسامرية. لم يبد عليهما أنهما كانتا خائفتين، واستمرتا في زراعة حقولهما واستخدام الطرقات.
سيرين كانت واحدة من القرى التي احتُلت خلال هذه الهجمات في الشرق. وتلخص قصتها المصير الذي لاقته عشرات من القرى التي طردت القوات اليهودية سكانها في مرج ابن عامر وسهل بيسان، حيث يبحث المرء اليوم عبثاً عن أي أثر للحياة الفلسطينية التي كانت مزدهرة هناك.