المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 [12] 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54

ساجدة لله
2010-10-23, 05:48 AM
1 ـ تركيبية الواقع وخصوصية الظواهر:

الواقع المادي ليس بسيطاً ولا منبسطاً ولا صلباً ولا صلداً وإنما مركب ومليء بالثغرات والنتوءات، ولا ترتبط معطياته الحسية برباط السببية الصلبة الواضحة إذ ثمة عناصر مبهمة فيه وثمة احتمالات وإمكانيات كثيرة يمكن أن يتحقق بعضها وحسب ولا يتحقق البعض الآخر.

وكما بيَّن الدكتور حامد عمار فإن صورة عالم نيوتن المادي الآلي الثابت لم تَعُد الصورة المهيمنة في العلوم الطبيعيـة، فقد جاءت نظرية النسبية والحركة والطاقة لتكمل مفهومنا عن عالم المادة التي تبدو في السطح مستقرة ثابتة، لكن استقرارها إنما هو نتيجة لدينامية في انتظام الحركة داخل مكوناتها. والجُزَيْءُ النووي يتمثل في مادة كما يتمثل في موجات، ويتوقف التعامل معه على نوع السؤال الموجه له في أي من البُعدين. كذلك أدَّت نظرية أينشتاين في النسبية إلى القضاء على المفهوم المطلق لكل من الزمان والمكان، وإلى اعتبارهما بُعداً واحداً رابعاً يعمل في سياق بيئة معيَّنة. وامتدت أبحاث الفيزياء الحديثة من خلال نظرية الكم (كوانتوم) إلى أن الحقائق الكونية تتحدد أكثر ما تتحدد بعلاقتها بغيرها. وأن تعريفها يعتمد أكثر ما يعتمد على نوع علاقتها المتبادلة مع غيرها. أضف إلى ذلك أن تحديد المادة وفهمها إنما يتأثر إلى حدٍّ ما بالمشاهد نفسه، فهو مشارك في تحديد طبيعة ما يراه، وليس مجرد ملاحظ سلبي لما يراه. وهذا يعني أننا لا يمكن أن نفصل العقل عن إدراك عالم الإلكترون كما يقول علماء الفيزياء، باعتبار أن له خصائص مستقلة عن الشخص المُدرك، وأننا لا يمكن أن نتحدث عن عالم الطبيعة والمادة دون أن نتحدث عن أنفسنا وطبيعة ذواتنا، ووعينا ومقاصدنا.

ومن خلال هذه الجهود والنظريات العلمية في عالم الفيزياء الحديثة أصبح التوجه العام في النظر إلى الكون نظرة يمكن وصفها بأنها عضوية وكلية بيئية، أي من خلال نظرية المنظومة العامة. وهذا المنطلق العلمي يناقض النظرة الميكانيكية التي تنظر إلى الكون باعتباره (آلة ـ ماكينة) تتألف من أجزاء منفصلة بعضها عن بعض، لكنها أجزاء مترابطة في علاقات متبادلة في هذا الكل الكوني الموحد. فالأشياء إنما هي علاقات بين أشياء، وأن هذه الأشياء إنما هي علاقات بين أشياء أخرى، وهكذا.

وينبع قدر كبير من الخلل في تَصوُّر الكائنات الحية عموماً باعتبارها آلات، مع أن هناك خلافاً جوهرياً بينهما، فالآلات تُصنَع وتُركَّب، بينما الكائنات الحية تنمو وتتطور. كذلك فبينما تتحدد أنشطة الآلة من خلال بنية أجزائها، فإن نشـاط الكائنـات الحية، وبخاصة الإنسـان، إنما يتحدد بالعكـس، أي أن بنيتها تتحـدد من خلال العمليات التي تقوم بها. ثم إن عمل الآلة محكوم بسلسلة خطية من السبب والنتيجة، وحين يحدث خلل يمكن التعرف على السبب في ذلك الخلل، أما في الكائن الحي فإن جسمه يعمل من خلال علاقات دائرية يؤثر بعضها في البعض، ثم يعود ليؤثر مرة أخرى في المؤثر الأول من خلال التغذية الراجعة. ومن ثم يصبح الخلل ناجماً عن مجموعة مركبة من العوامل يعزز بعضها بعضاً، وبالتالي يصبح التعرف على السـبب الأول غير ذي موضوع، وإنما الأهـم هو محصلة العلاقات المتداخلة".

ساجدة لله
2010-10-23, 05:48 AM
ولذا، لا يمكن فهم الواقع من خلال القوانين البسيطة الصلبة المطلقة وإنما من خلال الافتراضات والقوانين الاحتمالية والسببية الترابطية، ولذا أصبحنا ندرك خطورة التجريب العلمي وأنه ليس من الممكن القيام بكل التجارب الممكنة التي تغطي كل الاحتمالات. ولعل ظهور مفهوم الـ «إيكو سيستم eco-system»، أي «النظام البيئي»، تأكيد لتركيبية هذا العالم الذي نعيش فيه وأنه لن يقع في قبضة السببية الصلبة المطلقة التي توهمها العلم الغربي في القرن التاسع عشر، قبل أن يصل إلى قدر من النضوج فيما يتصل بقدراته وحدوده.

ومما يزيد من تركيبية الكون وجود أهم الثغرات طُراً فيه، أي الإنسان، فهو أكثر الكائنات تركيباً، لا يقف في الكون كشيء ضمن الأشياء الأخرى، ظاهرة مثل الظواهر، وإنما يقف شامخاً في مركز الكون تأتي عنده القوانين الطبيعية فتُعدِّل من مسارها وتتغير وتتحور، بل قد تتوقف أحياناً تماماً.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:48 AM
2 ـ خصوصية وتركيبية الإدراك:

ما ينطبق على الإنسان ينطبق، بطبيعة الحال، على عقله الذي يرصد الكون، فقد اكتشفنا أن العقل قاصر وله حدوده الخاصة ولا يمكنه تسجيل كل المعطيات المادية المحيطة به ولا الإحاطة بكل جوانب الفعل. نعم ينطبع الواقع على خلايا المخ، ولكن عدد الانطباعات الحسية في أية لحظة يكون هائلاً لدرجة يستحيل معها تسجيله. والعقل، رغم هذا، بل بسبب هذا، أبعد ما يكون عن السلبية والبساطة، فهو ليس بصفحة بيضاء تتراكم عليها المعلومات وتصبح معرفة من تلقاء نفسها، فالعقل في أبسط العمليات الإدراكية فاعل فعال، مبدع حر، يتمتع بقدر من الاستقلال عن المعطيات المادية المحيطة به وعن قوانين الطبيعة/المادة، فاللحظة الحسية في عملية الإدراك ليست سوى لحظة.

وعملية الإدراك ليست بسيطة تأخذ شكل منبه أو مثير فاستجابة فهي مسألة تبلغ الغاية في التركيب، فبين المنبه المادي والاستجابة الحسية والعقلية والإدراكية يُوجَد عقل نشيط مبدع ينظم وهو يتلقى. والمعرفة تتضمن فهماً وتركيباً وتنظيماً، والحواس عاجزة بذاتها عن فهم المحسوسات وتنظيمها إذ أن التنظيم يستدعي قدرة أخرى وفاعلية أخرى تصل وتفصل وتقارن وترتب وتنظم، ولن تكون هذه القوة ناشئة عن المحسوسات لأن الحواس لا تمدنا إلا ببعض الصفات الظاهرة للمُعطَى الحسي كاللون والرائحة والطعم والحجم. وهي معطيات جزئية فردية منعزلة لا تؤلف وحدة متكاملة ومترابطة. وما يحدث أن الكم الهائل والحصيلة الضخمة للمعطيات الحسية التي تُسجَّل على عقل الإنسان، والتي تصل إليه على هيئة جزئيات غير مترابطة، هذا الكم يفرض عليه جهازه الحسي والعصبي ترشيحها وفرزها وترتيبها (فهو لا يستوعب إلا الكليات المترابطة)، ثم يجري العقل عملية تجريدية تفكيكية تركيبية تتضمن استبعاد بعض العناصر وإبقاء البعض الآخر، ثم يقوم بترتيب ما تم إبقاؤه من معطيات فيُبرز بعضها باعتباره مركزياً ويُهمِّش البعض الآخر باعتباره ثانوياً بحيث تصبح الجزئيات المتناثرة كلاً مفهوماً وتصبح العلاقات بين المعطيات المادية التي أدركها العقل تتشاكل، ولا تتطابق بالضرورة، مع ما يتصور الإنسان أنه العلاقات الجوهرية في الواقع.

وعملية الإبقاء والاستبعاد هذه لا تتم بشكل عشوائي (ذاتي) محض، ولا تتم بشكل آلي (موضوعي) محض، وإنما على أساس مجموعة من المسلمات الكلية النهائية التي استبطنها المُدرك (وهي مفطورة في عقل الإنسان). وهذه العملية ليست عملية محايدة، مفرغة تماماً من القيم (بالإنجليزية: فاليو فري value-free) وإنما تدور في إطار المنظومة القيمية للمدرك. ومما يزيد عملية الإدراك تركيباً أن عقل الإنسان لا ينظم المعطيات الحسية ويفككها ويركبها وحسـب، بل يختزن ذكـريات عن الواقع هي في حقيقة الأمر صـورة مـثالية وذاتية لهذا الواقع، وهو يُولِّد من المعطيات الحسية رموزاً وأساطير، وتصبح الذكريات والمثل والرموز والأساطير جزءاً من آليات إدراكه. كما أن وضع المُدرك في الزمان والمكان يؤثر ولا شك في علاقته بالظاهرة التي يدرسها.

وعملية رصد الإنسان عملية تبلغ الغاية في التركيب. فالحقائق الإنسانية لا يمكن فهمها إلا من خلال دراسة دوافع الفاعل وعالمه الداخلي والمعنى الذي يُسقطه عليه، فالإنسان ليس مجرد سلوك براني مادي وحسب يُرصَد من خارجه وإنما هو سلوك براني تُحركه دوافع جوانية يَصعُب الوصول إليها مباشرةً من خلال الوصف الموضوعي وغيره، ولذا يحاول العقل البشري أن يصل إليها من خلال عملية حدس وتخمين وتعاطف وتخيُّل وتركيب عقلي ومقاربات ذهنية يَصعُب أن نسميها «موضوعية». وقد قيل إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستجيب للمنبهات وإنما لفهمه لها ولدلالتها وللمعنى الذي يُسقطه هو عليها. والبُعد الجواني في الظاهرة الإنسانية يفوق في أهمـيته السـلوك البراني الخاضـع للرصد المــادي، فكأن الموضوعية عاجزة عن رصد الإنسان باعتباره كائناً مركباً، وتنجـح فقـط في تحويله إلى كائن طـبيعي، وهـو ما يُبيِّن أنها تدور في إطار المرجعية الواحدية المادية الكامنة.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:48 AM
3 ـ خصوصية القول وتركيبية الإفصاح:

ويمكن أن نضيف لكل هذا أن اللغة التي يستخدمها المُدرك للإفصاح عن إدراكه للواقع يمكن أن تكون لغة جبرية دقيقة في المواقف التافهة البسيطة أو في وصف بعض الظواهر الطبيعية. أما إن انتقلنا إلى الظواهر الأكثر تركيباً، فنحن عادةً ما نستخدم لغة مركبة قد تكون مجازية أو رمزية أو غير لفظية، وهي لغة تختلف من شخص لآخر.


الواقع مركب لا يمكن رصده ببساطة، والإنسان تبلغ الغاية في التركيب ويستحيل أحياناً رصد عالمه الجواني. وهو نفسه، كراصد للواقع، لا يتلقى المعطيات وإنما يفككها ويركبها ويعيد صياغتها، وحينما يفصح عنها، فإن لغة الإفصاح تكون مرتبطة به وبتجربته. ولذا، فقد اتضح تدريجياً أن فكرة الموضوعية الكاملة والانفصال الكامل للذات المدركة عن الموضوع المدرَك مجرد أوهام. وفي السنوات العشرين الأخيرة، اتضح لنا كل هذا على صعيد حياتنا اليومية، فرقعة المعلوم آخذة في التزايد بشكل مذهل ولكن رقعة المجهول تزايدت معها بشكل أكبر. وقد حقق الإنسان معدلات تقدم مادية مذهلة ولكن آدابه تتحدث عن نكبة الإنسان الحديث، وتحكي مدنه (بتلوثها وجرائمها) قصة مختلفة عما تقوله الإحصاءات. لكل هذا، أدركنا أن المعرفة الموضوعية النهائية هي حلم المستحيل وكابوسه، وأن التحكم الإمبريالي الموعود الذي يفترض انفصال الذات المتحكمة عن الموضوع المُتحكَّم فيه هي أضغاث أحلام.

ونحن نرى أن استخدام النماذج كأداة تحليلية قد يزيد مقدرتنا على الاحتفاظ بالحدود بين الإنسان والطبيعة، وبين الذات والموضوع، وبين الحيز الإنساني والحيز الطبيعي دون أن ينكر بالضرورة إمكانية التفاعل بينهم. كما ستساعدنا النماذج على صياغة الفروض بطريقة تجعلنا قادرين على رصد الواقع وتحليله بطريقة أكثر تركيبية وتفسيرية. ونحن بطبيعة الحال لا نزعم أن الباحث الذي سيستخدم النماذج التحليلية سيفلت من قبضة الاختزالية والتراكمية والكمية والواحدية الموضوعية وأن استخدام النماذج يؤدي حتماً وبالضرورة إلى رؤية تركيبية، فالنموذج نفسه يمكن أن يُصاغ بطريقة اختزالية تلغي الحيز الإنساني والفوارق بين الإنسان والطبيعة (كما سنبين فيما بعد). فكل ما نذهب إليه أن استخدام النماذج يخلق التربة الخصبة لبحث يتسم بقدر معقول من التركيب ويبتعد عن الاختزال.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:49 AM
الجزء الثاني: النماذج كأداة تحليلية

الباب الأول: النماذج: سماتها وطريقة صياغتها



النموذج: التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالى المشترك أو المتداخل
كلمة «نموذج» كلمة معرَّبة، كما جاء في معاجم اللغة، من كلمة «نموذه» الفارسية، وجمعها «نموذجات» و«نماذج». ونموذج البناء نسخة مُبسَّطة مجردة من بناء، ومن ثم فهو يحتوي العناصر الأساسية للبناء ولكنه يختلف عن الأصل. وقد استُعيرت هذه الكلمة في اللغة العربية وتُستخدَم للإشارة إلى «النموذج» بوصفه أداة تحليلية ونسقاً كامناً يدرك الناس من خلاله واقعهم ويتعاملون معه ويصوغونه.

والنموذج بنية فكرية تصورية يُجرِّدها العقل الإنساني من كم هائل من العلاقات والتفاصيل فيختار بعضها ثم يُرتبها ترتيباً خاصاً، أو يُنسقها تنسيقاً خاصاً، بحيث تصبح مترابطة بعضها ببعض ترابطاً يتميَّز بالاعتماد المتبادل وتشكل وحدة متماسكة يُقال لها أحياناً «عضوية». وطريقة التنسيق والترتيب هي التي تعطي النموذج هويته المحددة، وفرديته وتفرُّده. ويتصور صاحب النموذج أن العلاقة بين عناصره تُماثل العلاقة الموجودة بين عناصر الواقع. ولذا، فهو يرى أنه يشكل الإطار الكلي الذي يُفسِّر تفاصيل الواقع وعلاقاته. وقد يتصوَّر البعض أن النموذج يُشاكل الواقع ولكنه في حقيقة الأمر لا يتطابق معه، فهناك فرق بين النموذج من ناحية والمعلومات والحقائق من ناحية أخرى (وكلمتا «نموذج» و«نسق» مترادفتان تقريباً في هذه الموسوعة، وإن كانت كلمة «نموذج» تنطوي على قدر أعلى من الوعي(.

وهناك عدة كلمات ومصطلحات في اللغات الغربية واللغة العربية متقاربة في معناها العام، قد تختلف في مدلولاتها الضيقة ولكنها تغطي رقعة مشتركة في حقل دلالي واسع متداخل:

ساجدة لله
2010-10-23, 05:49 AM
1ـ اللغات الغربية:

باترن pattern ـ ستركتشر structure ـ تايب type ـ موديل model ـ سيستم system ـ كونستراكتيف تايب constructive type ـ أيديال تايب ideal type ـ باراديم paradigm ـ كونفيجوريشن configuration ـ ثيوري theory ـ هايبوثيسيس hypothesis ـ ثيسيس thesis ـ سينثيسيس synthesis ـ جنرال لو general law ـ فريم وورك framework ـ بيرسبكتيف perspective.

2 ـ اللغة العربية:

نموذج ـ نمط ـ نسق ـ هيكل ـ نظرية ـ فرض أو فرضية ـ منطق ـ منظور ـ رؤية ـ جوهر ـ أصول ـ منطلقات ـ مرجعية ـ إطار مرجعي.

ولا شك في أن هناك مصطلحات أخرى في اللغات الغربية وفي اللغة العربية تتعامل مع نفس هذه الرقعة المشتركة. والسمة الأساسية المشتركة في كل هذه المصطلحات والكلمات ما يلي:

1 ـ أنها ذاتية وموضوعية في آن واحد:

أ ) الذاتية:

* ثمرة عملية تجريدية عقلية، وليس لها وجود مادي.

* غير متوحدة بظاهرة بعينها فهي تصورية.

* ليست شيئاً بعينه وإنما مجموعة علاقات أو عناصر مجردة.

* تشير إلى كلٍّ مجرد متماسك يتجاوز الأجزاء الفردية المحسوسة المتناثرة.

* تفترض قدراً من الانفصال عن الواقع الخام أو التجريبي.

ب) الموضوعية:

* تزعم كل المصطلحات أن لها علاقة بالواقع، وأنها نابعة منه (يُلاحَظ أن كلمة «واقع» هنا لا تعني بالضرورة الواقع المادي الطبيعي وحسب، فهي تشير أيضاً إلى الواقع الإنساني والاجتماعي والأخلاقي، أي «الواقع» الذي يتضمن كلاًّ من عالم المادة وعالم الرؤى).

* تفترض هذه المصطلحات أن الواقع ليس عشوائياً وأنه يتسم بقدر من الاتساق الكامن.

* يمكن القول بأن كل المصطلحات تتعامل مع النقطة التي تلتقي فيها الذات بالموضوع وتتفاعل معه.

2 ـ عنصر الزمان إما مختف من المصطلحات تماماً أو ضعيف بدرجات متفاوتة.

3 ـ لا يمكن أن يقوم الإنسان بإدراك واقعه وتنظيم ما يحيط به من ظواهر وتفاصيل إلا من خلالها، فاستخدامها حتمي.

4 ـ يُفرِّق الإنسان من خلال هذه المصطلحات بين ما هو ثابت وما هو عرضي، وبين ما هو جوهري وما هو هامشي، وبين ما هو أساسي وما هو ثانوي، وبين ما هو كلي وما هو جزئي، كما تُبيِّن العلاقات بينهما.

وسنستخدم كلمة «نموذج» للإشارة إلى هذه الرقعة المشتركة نظراً لشيوع الكلمة في الأوساط العلمية ونظراً لعدم ارتباطها بأي تعريف دقيق، أي أن صلتها بالرقعة المشتركة قوية وتَصلُح أن تكون دالاً عليها، وذلك دون أن ننسى المصطلحات الأخرى حتى نظل واعين بأن نقطتنا المرجعية هي الحقل الدلالي المشترك وليس هذا الدال أو ذاك. وعلينا أن نتبنى الكلمة وأن ننسى قدر طاقتنا المعجم الغربي حتى لا نستورد ما فيه من اضطراب وخلل وإبهام، ويكفينا ما لدينا من اضطراب وخلل وإبهام (ولا بأس من استخدام الكلمات الأخرى للإشارة إلى مدلولات أخرى).

وسنحاول تعريف النموذج كأداة تحليلية من خلال الإشارة إلى بعض سماته الأساسية:

ساجدة لله
2010-10-23, 05:49 AM
1 ـ النموذج والتجريد:

النموذج ليس هو الحقيقة أو الواقع، وهو لا يوجد جاهزاً في الواقع، وهو ليس وجوداً عيانياً ولكنه ثمرة الملكات الفكرية (المنطقية والتخيلية) للعقل. وهو ثمرة عملية اجتهادية تجريدية مُتعمِّقة، فهو صورة عقلية ونسق فكري ونمط تَصوُّري وبنية عقلية مجردة وتمثيل رمزي للحقيقة حتى يتسنى للعقل الإنساني الوصول إلى جوانب منها (باعتبار أن المسافة لا يمكن تجاوزها تماماً، كما لا يمكن ملء كل الفراغات ولا الوصول إلى الواقع في ذاته). فالنموذج يتسم عادةً بقدر من البساطة والتجريد والوحدة والاتساق الداخلي، وهو ما يعني اختلافه عن الواقع. والهدف من التجريد هو تحرير النموذج بشكل معقول من تفرُّد الظاهرة (تأيقنها) ومن عنصري الزمان والمكان، ولذا فالنموذج له زمانه الخاص وفضاؤه الخاص ويتسم بقدر من الانغلاق والتَحدُّد وبقدر من الثبات. وكون النموذج نتاج عملية تجريدية عقلية لا يُنقص من قدره، فكل الفكر الإنساني يحوي قسطاً من التجريد، وبدون التجريد يصبح النموذج صورة فوتوغرافية غير قادرة على التفسير أو التنبؤ، ويصبح الفكر الإنساني انعكاساً أبله لكل تفاصيل الواقع المتناثرة المتعاقبة.

وبسبب تجريديته، يفتقر النموذج إلى البعد الزماني، وهو ما قد يُنقص من قيمته كأداة تحليلية، ولذا فإننا نحاول تطوير النموذج كأداة تحليلية ونتحدث لا عن «النموذج» وحسب وإنما عن «المتتالية النماذجية» أيضاً.

2 ـ النموذج والمعلومات:

النموذج كما قلنا بنية تصورية، منفصل إلى حدٍّ ما عن الزمان والمكان، واستخدامه حتمي وأساسي في مواجهة الواقع والمعلومات، فلو واجهنا الواقع والمعلومات بدونه لما فهمنا شيئاً. ولكن، هل هذا يعني إهمال المعلومات والواقع تماماً؟ الرد على هذا سيكون بطبيعة الحال بالنفي، فالمطلوب هو ألا يتحوَّل الإنسان إلى صفحة بيضاء تسجل كل شيء ببلاهة موضوعية متلقية، ولكن هذا لا يعني أن يصبح الإنسان مثل بعض الآلهة الآسيوية التي تحلم بالعالم، بحيث يصبح العالم مجرد حلم ووهم. فصياغة النموذج تبدأ في الواقع ومن خلال الاحتكاك به، ومن خلال هذا الاحتكاك والتفاعل الخلاَّق يبدأ الدارس في صياغة نموذجه. وكلما اتسعت رقعة التفاصيل المطروحة ازداد النموذج تركيبية وتفسيرية. ويمكن القول بأن الصياغة الأولية للنموذج ليست هي نهاية المطاف بل هي بداية البحث، إذ يبدأ الباحث من خلال النموذج في تنظيم المعلومات وتحديد أهميتها بحيث تتحول من مجرد معلومات متناثرة إلى أنماط متماسكة ذات معنى. فالمعلومات، إذن، أساسية في المراحل الأولية للدراسة.

بل إنها أساسـية أيضاً خلال كل مراحلها. إذ لا يستطيع الباحث أن يختبر نموذجه دون العودة للمعلومات والواقـع. كما أن المعلومات ستساعد الباحث على اكتشاف علاقة الكل بالأجزاء ومدى ترابطهما وابتعادهما. فنحن يمكننا الحديث عن «الرأسمالية» بشكل عام «نماذجي»، ولكن هذا ليست له فائدة كبيرة فمن خلال الدراسة التفصيلية سندرك الفرق بين الرأسمالية الإنجليزية والرأسمالية في الهند وبين الرأسمالية الإنجليزية في عصر المركنتالية والرأسمالية الإنجليزية في النظام العالمي الجديد. ويمكن القول بأن النموذج المركب لا يستند إلى المعلومات وحسب، بل إنه قد يولِّدها لا بمعنى أنه يخترعها (فهذا أمر مستحيل بطبيعة الحال) وإنما بمعنى أنه يبرز أهمية تفاصيل كان يُظَن أنها لا أهمية لها.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:49 AM
3 ـ النموذج والواقع:

ينفصل النموذج عن الواقع المباشر ويتجاوزه. ولكنه، مع هذا، يتضمن مجموعة من العناصر تُشاكل العلاقة بينها (في تصوُّر صاحب النموذج) العلاقة الموجودة بين عناصر الواقع. وبذا، يصبح النموذج قادراً على تفسير العلاقة بين الظواهر، وعلى شرح علاقاتها الداخلية، وتفسير أثرها المتبادل، وعلى الفصل والربط بين الظواهر على أساس قد يكون جديداً تماماً بحيث يبين أوجه التشابه بين بعضها رغم الاختلاف الظاهري ويبين أن ما هو مشترك بينها أكثر أهمية مما هو مختلف. والعكس صحيح أيضاً، إذ يبين الاختلاف بين بعض الظواهر الأخرى رغم التشابه الظاهري الواضح بينها.

والنموذج، كما هو واضح، لا يسقط في الانفصال الكامل عن الواقع (حيث تصبح المسافة هوّة) أو في التطابق الكامل معه والتأيقن (حيث تُلغَى المسافة تماماً) أو في الحرفية (بمعنى أنه يمكن اجتياز المسافة تماماً). فلو تشابهت جميع الظواهر التي تنضوي تحت النموذج تشابهاً كاملاً لفقد النموذج فائدته وجدواه لأنه يُفتَرض فيه أنه يحاول أن يصنف ظواهر مختلفة تتضح وحدتها من خلال تنوعها. ولو اختلفت كل الظواهر التي تنضوي تحت نموذج ما بشكل كامل لفقد النموذج فائدته وجدواه أيضاً لأنه سيقوم بربط ظواهر لا يصح الربط بينها وباكتشاف الوحدة حيث لا وحدة. فالنموذج يتناول الظواهر التي يوجد حد أدنى مشترك أو معقول بينها، وهو ما يبرر وضعها داخل إطار تصنيفي واحد رغم اختلافها.

والنموذج عادةً لا يتحقق إلا في لحظات نماذجية نادرة، إذ أن الواقع عادةً أكثر تركيباً وتشابكاً وأقل تبلوراً من التركيبة الذهنية التي يتكون منها النموذج، كما أن الإنسان الفرد، مهما بلغ من تسطح عادةً ما يكون ـ والحمد لله ـ أكثر تركيباً وعمقاً من النموذج المعرفي الذي يؤمن به. ولذا، فإن من النادر أن يُردَّ إنسان أو مجتمعٌ إنسانيًّ في كليته إلى النموذج المعرفي والحضاري الذي يدفعه ويحركه. فلا شك في أن الإنسان يتحرك داخل حدود مادية وإدراكية، ولكنه يظل، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، عنصراً حراً مستقلاً مسئولاً أخلاقياً عما يفعله. ونحن في رؤيتنا هذه نختلف عن الباحثين الذين يستخدمون النموذج في إطار الرؤية المادية الحتمية، فهم يردُّون الفاعل الإنساني في كليته إلى النموذج المادي (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) الذي يحركه. كما أننا نختلف عن الباحثين المثاليين الهيجليين الذين يردّون الفاعل الإنساني في كليته إلى النموذج المثالي الذي يحركه. وكلا الفريقين يُنكر على الإنسان حريته ومسئوليته الأخلاقية، ولا يرى سوى حتميات، مادية أو مثالية، اختزالية معادية للإنسان.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:49 AM
ونحن نستخدم النماذج المختلفة (الإنسان العادي ـ الثورة الصناعية) ونحن نعرف أنها مجرد بنَى ذهنية تصورية ولا نتوقع قط أن نقابل هذا الإنسان العادي في الواقع، فنحن ندرك أن فلاناً من الناس إنسان عادي بمعنى أنه تَحقُّق جزئي لنموذج الإنسان العادي ولكنه لا يتطابق معه تمام التطابق (إلا في بعض الحالات النادرة التي عادةً ما تثير الدهشة بسبب ندرتها). ونحن نتحدث عن «الثورة الصناعية» ونعرف تمام المعرفة أنها ليست «ثورة» على الإطلاق، وأنها لم تقع في يوم من الأيام أو في مكان من الأمكنة. إذ أننا بفطرتنا الإنسانية ندرك أن النموذج المجرد ليس هو الواقع المادي أو الإنساني المُركَّب.

ولنأخذ عصابات المافيا على سبيل المثال. جعل عضو المافيا هدفه في الحياة (النموذج الحاكم الذي يحركه) سلب الآخرين حياتهم وممتلكاتهم وأعراضهم، فهو ذئب بشري كامل، ترجمة حقيقية لإنسان هوبز وداروين ونيتشه. ومع هذا، نجد أن عضو المافيا هذا يُبقي على علاقات التراحم مع أعضاء أسرته وعصابته وقد يُضحي بحياته من أجلهم. فالنموذج الأصغر الهامشي التراحمي الذي يتعامل المجرم من خلاله مع حياته الخاصة يتعايش مع النموذج الأكبر الرئيسي الحاكم المادي الإجرامي. وسواء أكان المجرم يدرك هذا التناقض أم لا، فهذا أمر ثانوي لا يهمنا، إذ أن ما يهمنا هو هذا التعايش في حياته اليومية. وأعضاء الجماعات الوظيفية يعيشون في مثل هذه الثنائية الصلبة التي تقترب من الثنوية، فهم متراحمون فيما بينهم، محايدون تعاقديون مع أعضاء مجتمع الأغلبية.

والمجتمعات الاشـتراكية كانت أكثر تنوعاً وحيوية وإنسانية من الرؤية الاشتراكية المادية. فالإنسان السوفيتي الفرد، رغم إخضاعه بشكل شرس لعمليات الترشيد المادية الاشتراكية، لم يكن قط ذلك الإنسان الاشتراكي الأممي الذي كانت تتحدث عنه كتب الدعاية السوفيتية. والإنسان الأمريكي الفرد، رغم خضوعه للعمليات القمعية التدجينية التي تقوم بها الإعلانات التي تهاجم أولاده ومنزله ليل نهار ولعمليات غسيل المخ التي يقوم بها الإعلام الأمريكي بطريقة مصقولة ذكية لا يعرف التاريخ لها مثيلاً، احتفظ بقدر من الإنسانية والتركيب يجعله مختلفاً عن إنسان الحلم الأمريكي والإعلانات المتكررة والأكاذيب السياسية اليومية.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:49 AM
وهذا التناقض يوجد أحياناً داخل الأنساق الفلسفية نفسها. والإنسان الفرد ـ كما أسلفنا ـ أكثر تركيباً من الأنساق ومن النماذج التي يؤمن بها ويروج لها. ولهذا السبب، فكثيراً ما يفزع مفكر ما من وحشية نموذجه فيضيف من الأقـوال ما يخفف من حدتها ويسـتعيد بعـض التركيبية ويضفي عليه غلالة إنسانية لا تغير عادةً من البنية الوحشية للنسق. والفكر الرومانسي، على سبيل المثال، كان محاولة لتهذيب النموذج العلماني الآلي (الميت) لإدخال بعض العناصر العضوية (الحية) التي تستعيد للإنسان استقلاليته عن الطبيعة. ومع هذا، سقط الفكر الرومانسي العضوي في الواحدية المادية. ولكل هذا، نجد أن النماذج الفلسفية لا تُفصح عن نفسها بشكل خالص أو متبلور في الواقع الاجتماعي والتاريخي الإنساني، وتظل هناك مسافة تفصل النموذج (المجرد) عن الواقع (المركب).

وهذا لا يعني أن نقرر أن النماذج (لهذا السبب) لا فائدة تُرجى منها. فهي أدوات تحليلية مفيدة طالما أدركنا بُعدها الاجتهادي، وأنها أداة تفسيرية ليس إلا، وليس لها وجود مادي موضوعي، أي إذا نحن لم نشيئها ولم نتصور أن النموذج هو الواقع. فنحن لو رفضنا النموذج كأداة تحليلية، نكون بذلك قد رفضنا محاولة الوصول إلى قدر معقول من المعرفة عن الحقيقة الكلية وسقطنا في التشظي وفي التعامل مع الجزئيات المنفصلة عن الكليات وتصوَّرنا أننا نفهمها، مع أن كل ما يحدث هو أننا نقوم بعملية وصف يُقال لها «موضوعية»، وهي في واقع الأمر عملية تسجيل عشوائية ليس لها عقل أو حتى قَدَم.