المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 [19] 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54

ساجدة لله
2010-10-23, 06:02 AM
5 ـ لا شك في أن إيقاع الحياة الحديثة ذاته الآخذ في التسارع لا يسمح بأي تأمل أو تفكُّر، ولذا فمن الأفضل للإنسان أن يدور في إطار الصيغ اللفظية الجاهزة (الكلشيهات) والصور النمطية.

والأسباب السابقة تجعل البشر وبخاصة في العـصر الحديث، يميلون إلى تبنِّي النماذج الإدراكية والتحليليـة الاختزالية. غير أن هناك عناصر تكمُن في واقع أعضاء الجماعات اليهودية ساعدت على انتشار النماذج الإدراكية الاختزالية التبسيطية بين دارسي الظواهر اليهودية.
1 ـ لعل من أهم هذه الأسباب أن ظاهرة الجماعات اليهودية ظاهرة شديدة التركيب وعدم التجانس. فهم ينتمون لعدة مجتمعات في مراحل تاريخية مختلفة وغالبيتهم تعيش في الوقت الحاضر في الولايات المتحدة. ولكن هناك كتلة بشرية يهودية في الشرق الأوسط تدَّعي أنها أقامت دولة يهودية. وهم يوجدون في كل الطبقات القائمة، فمنهم كبار الرأسماليين في الولايات المتحدة ومنهم الحرفيون البدائيون في إثيوبيـا. لكن العقل البشري (ربما تأثُّراً بالرؤية التوراتية والإنجيلية لليهود) نظر إليهم باعتبارهم شعباً واحداً (مقدَّساً أو شاهداً أو شهيداً أو مختاراً أو وضيعاً أو منبوذاً) ثم هيمنت مقولة وحدة اليهود هذه وتم رصد أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم ظاهرة واحدة ينتظمها إطار واحد، وتمت عملية التراكم المعرفي في هذا الإطار الذي يفترض وجود مثل هذه الوحدة الوهمية. وقد استنام معظم الباحثين لهذه الأطروحة السهلة، ولم يَعُد أحد يختبرها مع أنها قابلة للاختبار بالعودة إلى الواقع المتنوع الثري وغير المتجانس للجماعات اليهودية في التاريخ. ولو فعلنا ذلك لاكتشفنا أن اليهود ليسوا يهوداً والسلام، بل هم جماعات يهودية لا ينتظمها تاريخ يهودي واحد وإنما تواريخ إنسانية متعددة، ولاكتشفنا أيضاً أن عناصر عدم التجانس بين هذه الجماعات أكثر أهمية من الناحية التفسيرية من العناصر المشتركة بينها، وأن الجماعات اليهودية «جماعات» أكثر أهمية من كونها «يهودية». ولكن التوصل إلى هذا المستوى من التعميم يتطلب جهداً بحثياً وإبداعياً شاقاً، عادةً ما يستغرق وقتاً طويلاً، إذ يجب أن يقوم الباحث بمقارنة يهود الصين مثلاً بيهود إثيوبيا بيهود الولايات المتحدة ويهود العالم الإسلامي، في الماضي والحاضر، وعلى المستويات الدينية والأخلاقية والاجتماعية والفكرية والسكانية... إلخ، وذلك حتى يكون بوسعه أن يحدِّد العناصر المشتركة بينهم، والثوابت والمتغيرات، وعلاقة الواحد بالآخر، وهكذا.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:02 AM
2 ـ يمكن القول بأن الشعائر اليهودية المركبة التي لا يستطيع الكثيرون من غير اليهود فهمها تُعَدُّ من أهم العناصر التي ساهمت في إشاعة النماذج الاختزالية في دراسة الظواهر اليهودية. فحينما لا يفهم الإنسان شيئاً فإنه كثيراً ما يلجأ إلى تفسيرات اختزالية (تآمرية أو صهيونية) تريحه من عناء التفكير.

3 ـ ساهمت النزعة الانعزالية في الدين اليهودي، والتصورات الدينية اليهودية الخاصة بالشعب المختار والمركزية الكونية والتاريخية التي يضفيها اليهود على أنفسهم في تعميق شكوك غير اليهود فيهم. ومع هذا، يجب التنبه إلى أن ثمة نزعة توحيدية قوية في العقيدة اليهودية رغم هيمنة النزعة الحلولية الواحدية (ابتداءً من القرن السادس عشر على وجه الخصوص).

4 ـ يُلاحَظ أن اليهود يلعبون دوراً مركزياً في الدراما التاريخية المسيحية (نزول المسيح ـ صلبه على يد اليهود ـ هداية اليهود تمهيداً للعصر المشيحاني... إلخ). وقد ارتبطت فكرة الخروج في الوجدان الغربي باليهود، فهم دائماً في حالة خروج (ودخول) من فلسطين (أرض كنعان) إلى مصر، ثم من مصر إلي فلسطين، ثم من فلسطين إلى بابل، ومن بابل إلى فلسطين، ومن فلسطين إلى أرض الشتات، وهكذا. وساهم كل هذا في تحويل اليهود إلى مقولة غير زمانية وفي اختزالهم إلى بُعد واحد.

ومع أن اليهود لم يلعبوا دوراً متميِّزاً مماثلاً في الإسلام، فقد كانوا أهل كتاب وذوته، إلا أنه من خلال تفسير حرفي يطابق بشكل هندسي بين ما جاء في القرآن ووقائع التاريخ المتناثرة، تم الربط بين ما جاء في القرآن والسنة عن اليهود وبين يهود العالم في العصر الحديث. ومن ثم، تَحوَّل اليهود إلى مقولة ثابتة غير زمانية، وتم اختزالهم مرة أخرى إلى بُعـد واحد رغم المفاهيم الإسلامية الحاكمة الخاصة بالفطرة والتدافع وقبول الآخر.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:02 AM
5 ـ مما لا شك فيه أن وجود اليهود داخل عديد من المجتمعات الغربية، كجماعات وظيفية متفرقة تنتظمها شبكة من العلاقات التجارية الوثيقة، والتي تَحقَّق من خلالها قدر كبير من النجاح التجاري والمالي، عمَّق الرؤية الاختزالية التآمرية في النظر لليهود. وقد بلغت هذه الشبكة قمة تماسُكها وقوتها في القرن السابع عشر حين كانت تصل بين يهود الأرندا في شرق أوربا (في بولندا وأوكرانيا)، ويهود البلاط في وسطها وغربها، ويهود السفارد في البحر الأبيض والدولة العثمانية وشبه جزيرة أيبريا والعالم الجديد. وخلق هذا الوجود إحساساً عميقاً لدى كثير من الدارسين بأن ثمة تنسيقاً تآمرياً بين اليهود في كل أنحاء العالم (وقد انحلت هذه الشبكة تماماً بقيام النظام المصرفي الحديث وظهور الدول القومية العلمانية الحديثة).

6 ـ أدَّى تعثُّر التحديث في الإمبراطورية الروسية في أواخر القرن التاسع عشر وتَزايُد عدد اليهود نتيجة انفجار سكاني صغير (ولمُركَّب آخر من الأسباب) إلى خلق مشكلة عدم تأقلُم لدى الكثيرين من أعضاء الجماعات اليهودية إزاء النظام الاقتصادي الجديد، الأمر الذي اضطر أعداداً كبيرة منهم للهجرة، وقد وُصف هذا بأنه دليل على رغبة اليهود الأزلية في الخروج من أوطانهم ودليل على تطلُّعهم الدائم لصهيون.

7 ـ ومع ضعف المجتمعات الغربية وبنائها القيمي، بسبب انتشار قيم النفعية واللذة، ومع تَركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في كثير من الحركات الفوضوية وفي قطاع اللذة (الكباريهات ـ السينما ـ السياحة)، تَعمَّق الإحساس بأن ثمة مؤامرة يهودية لا تهدف إلى السيطرة على العالم وحسب، بل تهدف أيضاً إلى إفساده (مع العلم بأن الجماعات اليهودية في أوربا كانت من أكثر القطاعات البشرية محافظة من الناحيتين الأخلاقية والسياسية حتى منتصف القرن التاسع عشر، ولم تكن ظاهرة الأطفال غير الشرعيين معروفة بينهم).

ساجدة لله
2010-10-23, 06:02 AM
وطريقة صياغة النموذج الاختزالي لا تختلف عن طريقة صياغة أية نماذج تحليلية أخرى، فهي عملية تفكيك وتركيب:

1 ـ يحدِّد صاحب النموذج الاختزالي الواحدي (الروحي أو المادي) أطروحته الأولية (الفرض العلمي)، وهي عادةً أطروحة بالغة البساطة، وفائقة العمومية بسبب استبعادها لتركيبية الواقع وتركيبية الفاعل الإنساني (اليهود إن هم إلا عناصر بورجوازية ـ اليهود إن هم إلا شياطين... إلخ).

2 ـ تُمنَح الأطروحة البسيطة مركزية تفسيرية.

3 ـ تتم مراكمة المعلومات في ضوء هذه الأطروحة البسيطة، ومهما بلغت سذاجة وبساطة الأطروحات والفروض الأولية، فهناك دائماً في الواقع بعض المعطيات والحقائق التي يمكنها أن تضفي قدراً من المصداقية على هذه الأطروحات والافتراضات، وهي عادةً حقائق صلبة وصادقة تماماً من الناحية الإخبارية المباشرة، أي أنها موجودة بالفعل في الواقع.

4 ـ ولكن ما يحدث لهذه الحقائق الصلبة هو ما يلي:

أ ) تُنزَع الوقائع والتفاصيل من سياقها التاريخي والإنساني، بحيث تصبح لا تاريخ لها ولا أصول اجتماعية ولا أبعاد إنسانية.

ب) تُعزَل الوقائع والتفاصيل عن كل أو معظم الحقائق الأخرى، وعن أية نماذج أو أنماط تاريخية أو اجتماعية أو إنسانية أخرى، أي أن المنظور المقارن يُسقَط تماماً.

جـ) بعد إتمام هاتين العمليتين يمكن فرض أي اتجاه على هذه الحقائق فتتحوَّل إلى مؤشر إمبريقي دقيق ودليل مادي قاطع على صدق الأطروحة أو الفرضية الأولية، فهناك عدد لا بأس به من البورجوازيين من أعضاء الجماعات اليهودية، ولا شك في أن هناك من اليهود من يسلك سلوكاً شيطانياً (شأنهم في هذا شأن بعض البشر).

ساجدة لله
2010-10-23, 06:03 AM
وبعد أن تتم صياغة النموذج البسيط وتوثيقه، لابد أن يتسم من يتلقَّى "الأطروحة الموثقة" بمقدرة فائقة على تَقبُّل الحقائق المادية الصلبة دون مساءلة وعلى استبعاد الفاعل الإنساني، فهو مُتلقٍّ موضوعي محايد، إن رأى أرقاماً آمن بها على التو، وإن سمع عن واقعة حدثت فعلاً عليه أن يصدقها بكل ما أوتي من عنف وموضوعية دون تفكيك أو تركيب، ودون استدعاء حقائق وأنماط أخرى، ودون إدراك السياق الاجتماعي والتاريخي الإنساني للتفاصيل والوقائع التي تُعرَض عليه، ودون تساؤل عن مدى أهميتها ومركزيتها.

وتتسم النماذج الاختزالية، روحية كانت أم مادية، بالواحدية، وتُعبِّر هذه الواحدية عن نفسها إما في مستوى متدن جداً من الخصوصية في حالة النماذج الروحية أو مستوى عال جداً من التعميم في حالة النماذج المادية (كما يمكن أن يتأرجح النموذج الاختزالي بشدة بين المستويين)، فالنماذج الاختزالية التآمرية ترى اليهود ظاهرة واحدة متماسكة (شعب واحد ـ طبقة واحدة ـ تشكيل حضاري واحد)، وهو شكل من أشكال التعميم المفرط. وتبدأ هذه الدراسات في الحديث عن تاريخ واحد مع أن مثل هذا التاريخ غير موجود. والأبحاث التي تقبل مثل هذه المقولات تجد نفسها تدور داخل حدود ضيقة متحيزة تؤكد بعض العناصر الهامشية وتهمِّش (أو تُسقط تماماً) بعض العناصر الأساسية، ثم يجد الباحث نفسه يراكم الحقائق داخل هذه الحدود ويبحث عن أنماط مستمرة حيث لا أنماط ولا استمرار، فتفرض عليه المقدمات المتحيزة الكامنة نتائج مضلِّلة. ثم يجد نفسه في نهاية المطاف يكتشف خصوصية يهودية تعزل الظواهر اليهودية عن الظواهر الإنسانية الأخرى، أي أن النموذج الاختزالي التآمري انتقل من التعميم المفرط إلى التخصيص المفرط.
وقد يكون من المفيد أن نضرب بعض الأمثلة على ذلك: حين يفترض الباحث ذو النزعة الاختزالية (التآمرية) أن اليهود (وليس، على سبيل المثال، أعضاء الجماعات اليهودية في القرن التاسع عشر في روسيا) يتحركون داخل التاريخ اليهودي (وليس داخل التاريخ الروسي بشكل مُحدَّد)، فإنه يبحث عن أسباب ظهور الصهيونية داخل هذا النطاق اليهودي الضيق، وذلك بدلاً من أن ينظر إلى الديناميات الحضارية والإنسانية الأشمل والأكثر فعالية مثل تَعثُّر التحديث في روسيا القيصرية وظهور التشكيل الاستعماري الغربي وتآكُل المنظومات الأخلاقية للمجتمع القيصري ككل. بدلاً من ذلك يشير صاحب النزعة التآمرية إلى إحدى خصائص اليهود الفريدة: اتجاههم نحو التعالي على غير اليهود، الأمر الذي يستفز الشعوب التي يعيش اليهود بين ظهرانيها.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:03 AM
وحينما تُكتَشف عصابة مخدرات ودعارة في كاليفورنيا يديرها مهاجرون سوفييت أو يُعلَن عن وجود مافيا من اليهود السوفييت والإسرائيليين، فإن هذه الواقعة تتحوَّل في ذهن التآمريين من أعداء اليهود إلى مؤشر على انحلال الشخصية اليهودية. وفي الوقت نفسه وافق بعض الصهاينة على هذا ولكنهم يحوِّلون هذا الانحلال إلى مؤشر صلب وأكيد يدل على أن اليهود إن عاشوا خارج أرض الميعاد فإنهم يصابون بالانحلال الخلقي والتفسخ الاجتماعي بسبب اغترابهم ولا صلاح لهم إلا بالعودة لوطنهم القومي. ولا يرد في سياق هذا التحليل أي شيء عن معدلات الجريمة في كاليفورنيا، ولا نسبة اشتراك الجماعات المهاجرة الأخرى فيها، ولا نسبة اشتراك المهاجرين السوفييت، ولا نسبة اشتراك اليهود الأمريكيين (الذين استقروا في الولايات المتحدة منذ أمد طويل).

وحينما يظهر مجرم يهودي، فهذا تعبير عن الإجرام المتأصل في الطبيعة اليهودية (بالنسبة للمعادين لليهودية) ولا تتم الإشارة إلى عتاة المجرمين الآخرين من غير اليهود. وإن حصل يهودي على جائزة نوبل، فإن الصهاينة يشيرون إلى أن اليهود عباقرة بطبيعتهم، وإلى أن اليهود يشكلون 3% من الشعب الأمريكي بينما بلغ عدد اليهود من الحاصلين على جائزة نوبل 30% (مثلاً) وذلك دون الإشارة إلى أن العلماء اليهود الذين يكسبون جائزة نوبل يُوجَدون دائماً داخل التشكيل الحضاري الغربي ولم يظهر عباقرة بين يهود الهند أو إثيوبيا (وهو ما يدل على أن العنصر الثابت ليس يهودية العبقري وإنما وجوده في الحضارة الغربية بما تتيحه من إمكانيات وإعلام). وما يحدث هنا أن نقطة البدء هي حقيقة صلبة جزئية يتم تعميمها على اليهود ككل (وهذا هو جوهر التفكير العنصري).

ساجدة لله
2010-10-23, 06:03 AM
أما النموذج الاختزالي العلمي فاختزاليته تتضح عادةً في رفضه أية خصوصية. فاليهود ظاهرة عامة ليس لها ما يُميِّزها. والصهيونية إن هي إلا نتاج تفاعل عوامل اقتصادية سياسية (عادةً واضحة ومحددة) داخل المجتمعات الأوربية في نهاية القرن التاسع عشر. وهي لا علاقة لها بالدين اليهودي أو ميراث الجماعات اليهودية أو بوضعها المتميِّز داخل الحضارة الغربية. ومن ثم فإن الأشكال الحضارية المختلفة هي عبارة عن قشور (بناء فوقي)، والدين إن هو إلا الأفيون يستخدمه المستغلون لخداع الجماهير. ويتم إسقاط عشرات العناصر التاريخية والإنسانية والسقوط في التعميمات الكاسحة المخلة مثل القول بأن "الصهيونية هي جزء عضوي لا يتجزأ من الإمبريالية الغربية" أو أن "الصهيونية تعبير عن مصالح البورجوازية اليهودية". ومن هنا طُرح في وقت من الأوقات شعار "وحدة الطبقة العاملة العربية واليهودية ضد البورجوازيات العربية واليهودية والاستعمار العالمي المتحالف مع الصهيونية"... إلخ، وهي شعارات وأقوال تنم عن عدم إدراك أصحابها لخصوصية العمال من أعضاء الجماعات اليهودية وخصوصية وضع هذه الجماعات في الحضارة الغربية وخصوصية الحضارة العربية. وتتضح هذه السذاجة الاختزالية حينما انطلق أحد كبار علماء السياسة العرب من إيمانه بأن النظام السياسي الإسرائيلي يشبه أي نظـام "ديموقراطي آخر" ولـذا قرَّر أن هـذا النظام ينتمي إلى نظام الحزبين على النمط البريطاني، وفي ذهنه بالطبع حزبا العمال والمحافظين مقابل المعراخ والليكود. والمقارنة صادقة تماماً لكنها سطحية جداً، فالحزب داخل النظام الاستيطاني الصهيوني يضطلع بوظائف تختلف تماماً عن وظائف الحزب في النظام الرأسمالي الديموقراطي الغربي، كما أن بنية الحزب وطريقة تمويله في إنجلترا مختلفتان عن مثيلتيهما في إسرائيل إذ لا يُوجَد نظير للمنظمة الصهيونية العالمية في النظام السياسي البريطاني. وعلى هذا النحو، يتم تناول النظام السياسي أو البنية الاقتصادية أو البناء الطبقي في إسرائيل وكأنها لا تختلف عن نظائرها في المجتمعات الأخرى. وهذا بطبيعة الحال مناف تماماً للواقع، فالظواهر الصهيونية الإسرائيلية لها أبعادها الخاصة وقوانين حركتها المتميِّزة. ومما يجدر ذكره في هذا المضمار أن بعض الصهاينة يحاولون قدر استطاعتهم أن يطرحوا تصوُّراً للصهيونية باعتبارها تشكيلاً قومياً مثل أي تشكيل قومي آخر وتصوُّراً لإسرائيل باعتبارها دولة صغيرة مثل أية دولة صغيرة.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:03 AM
وما يحدث هنا أن نقطة الانطلاق هي قانون عام أو بدهية واضحة يتقبلها الباحث باعتبارها مسلَّمة لا تخضع للبحث ويظل الباحث حبيساً فيها ثم يُعمم منها على الواقع، متجاهلاً كل السمات الخاصة التي قد تُشكِّل جوهر الظاهرة.
ومن الممكن أن يلتقي النموذجان الاختزاليان، التآمري والعلمي. فإذا كان الباحث التآمري الاختزالي يتخذ اضطهاد اليهود دليلاً على شيطانيتهم المتأصلة، فبإمكان أصحاب النموذج الاختزالي العلمي أن يأخذوا الظاهرة نفسها باعتبارها تعبيراً عن بؤس اليهود وضرورة تعويضهم عما لحق بهم من أضرار وأذى، وما لا يدركه الفريقان أنهما لم يتحركا خارج حدود الظاهرة اليهودية ليدرساها في إطارها الإنساني الأوسع.

وأطروحة اللوبي الصهيوني القوي، التي تُدرَس بعلمية وموضوعية شديدتين، هي نتاج هذه العقلية الاختزالية التي تبدأ من أطروحة بدهية: الولايات المتحدة دولة ذات مصالح ـ من بين هذه المصالح البترول والنفوذ في الشـرق الأوسـط ـ يمكن أن تخدم الولايات المتحدة مصالحها عن طريق التعاون مع العرب، ولكنها مع هذا تعاديهم. وهنا، فإن العقلية الاختزالية تركن إلى تفسير مثل هذا السلوك اللا عقلاني من قبَل دولة يُفترض فيها أنها عقلانية بالعودة لعنصر خارجي هو اللوبي الصهيوني الذي يحرِّك كل شيء، وتصبح هذه المقولة المنطقية الإطار الذي تُراكَم داخله المعلومات ولا يختبرها أحد. ولا يسأل أحد: هل يوجد لوبي شيلي قوي في الولايات المتحدة يجعلها تطيح بالرئيس ألليندي وتؤيد حكم بينوشيه العسكري؟ هل يوجد لوبي صربي قوي يضغط على الولايات المتحدة (وهيئة الأمم) بحيث يَضطرهم لتَرْك الصرب يذبحون البوسنيين ويكتفي العالم الحر بإصدار البيانات الصارمة؟ أليس من المحتمل أن تكون الولايات المتحدة قد حدَّدت "صالحها" بطريقة تختلف عن تصوُّرنا العقلاني، وأنها ترى الأمور بطريقة مختلفة ومع هذا تتصوَّر أنها طريقة عقلانية تماماً؟

ساجدة لله
2010-10-23, 06:03 AM
ومن أطرف الأمثلة على سذاجة النموذج الاختزالي (التآمري والعلمي) وبساطته وطريقة عمله ما ورد في إحدى الدراسات التي قام كاتبها بحشد عدد هائل من الحقائق الصلبة المتناثرة. كان بين هذه الحقائق الصلبة: وجود صديقة يهودية لليدي بيرد (زوجة الرئيس الأمريكي جونسون) في البيت الأبيض أثناء حرب 1967 وقد قُدِّمت هذه الحقيقة الصلبة باعتبارها دليلاً مادياً علمياً وقاطعاً على قوة النفوذ الصهيوني واليهودي وكيف يحرك اليهود الولايات المتحدة، وكيف يضغطون عليها حتى تسمح لقاعدتها العسكرية في الشرق الأوسط بالهجوم على مصر عام1967 (لضرب القومية #########، وكأن مثل هذه الأمور الإستراتيجية الكبرى لم يتم إقرارها إلا لوجود الصديقة اليهودية داخل البيت الأبيض.

ولعل ما حدث أثناء هجرة اليهود السوفييت وذلك الحديث الهستيري عن "جريمة العصر" يبيِّن مدى قصور وكسل وسطحية النموذج الاختزالي العلمي الموضوعي والتآمري، فما حدث هو أن بعض المحللين السياسيين ا لاختزاليين الواحديين (من الموضوعيين الماديين والروحيين التآمريين) قرأوا في جريدة "عالمية" (أي غربية) أن هناك ملايين اليهود السوفييت سيهاجرون إلى إسرائيل فصَدَّق الجميع الخبر على الفور استناداً إلى فرضيات وأطروحات عامة بسيطة، استقرت في العقول تماماً إلى أن أصبحت "بدهيات" أو قوانين علمية عامة. ومن المعروف بشكل عام لدى الموضوعيين الماديين والتآمريين الذين يتقبلون الفرضيات البدهية السائدة ما يلي:

1 ـ إن فُتحت أبواب الهجرة ليهود الاتحاد السوفيتي، فإنهم سيهاجرون إلى إسرائيل لأن اليهود (كما هو معروف) لا يرتبطون بأوطانهم أو أماكن إقامتهم فهم مرتبطون بأرض الميعاد يتوجهون إليها حينما تسنح لهم الفرصة.

2 ـ من المعروف كذلك أن إسرائيل دولة استيطانية تحتاج للمستوطنين.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:03 AM
3 ـ هؤلاء المهاجرون (باعتبارهم جزءاً عضوياً من هذه الكتلة اليهودية الواحدية) سيتحولون إلى رواد صهاينة يحملون السيف بيد والبندقية بالأخرى فور وصولهم إلى فلسطين المحتلة.

إن أضفنا الأطروحـة البدهـية الأولى للفـرضية البدهية الثانية والثالثة فإننا سنصل إلى النتيجة الواضحة الحتمية، وهي أن هجرة الملايين من اليهود السوفييت وشيكة، وأن كارثة العصر على وشك الوقوع. ثم تَسابَق المحللون الاختزاليون إلى اقتباس الإحصاءات الموضوعية الصلبة (وهي في واقع الأمر تصريحات كبار المسئولين في الاتحاد السوفيتي أو في إسرائيل) التي تؤكد أن ملايين اليهود سيهاجرون من الاتحاد السوفيتي إلى فلسطين. وظهرت جريدة عربية كبرى تحمل عنواناً رئيساً في صفحتها الأولى تؤكد هذا المعنى استناداً إلى تصريح وكيل وزارة الخارجية في الاتحاد السوفيتي. وبدأت عملية التوثيق الاختزالية الهستيرية. فتم عزل حقيقة هجرة اليهود السوفييت عن الحقائق والظواهر الأخرى وتم البحث الدائب عن شواهد مادية لتوثيقها دون كد أو عناء ودون بحث عن أنماط عامة متكررة.

ووسط هذا الصخب شبه المعرفي لم يُكلِّف أحد نفسه مشقة النظر في أبعاد الواقع الأخرى المُركَّبة التي تتجاوز الاستنتاجات العقلية والمنطقية النظرية أو عناء التساؤل بشأن الأطروحات والفرضيات التي استندوا إليها. ولم يُشر أحد إلى أن يهود الاتحاد السوفيتي تعرضوا للدعاية الإلحادية لمدة سبعين عاماً وفقدوا علاقتهم بأية عقيدة أو مُثُل، فهم لا يحنون إلى أي أرض إلا أرض السمن والعسل، تلك التي تحقِّق لهم دخلاً عالياً يفوق ما يحققونه في أماكن إقامتهم (إذ يَصعُب أن نطلق عليها أوطانهم). ولم يُبيِّن أحد أن هؤلاء المهاجرين السوفييت هم في واقع الأمر مرتزقة يأكلون الأخضر واليابس ولا علاقة لهم بأية مثاليات صهيونية أو غير صهيونية ولذا تُقدِّم لهم الدولة الصهيونية الرشاوى السخية، وهم قد يضطرون إلى الذهاب إلى إسرائيل (بسبب إغلاق أبواب الولايات المتحدة) فيصبحون عنصر تدمير فيها، وربما لا يجد كثير من المؤهلين منهم عملاً مناسباً وهو ما قد يضطرهم إلى العمل في السوق السوداء والحرَف الطفيلية. وحينما يحمل هؤلاء المرتزقة السلاح فإنهم لن يحملوه إلا بأجر، وهم سيجلسون على حقائبهم حتى تتاح لهم فرصة الهروب إلى أرض الميعاد الأمريكية. ولم يُكلِّف أحد نفسه عناء النظر في استجابة العناصر الدينية والشرقية لدى هؤلاء المهاجرين اللادينيين الأوربيين. بل لم يُكلِّف أحد نفسه مشقة النظر في آخر إحصاءات يهود الاتحاد السوفيتي التي تقول إن عددهم قبل ازدياد عمليات الهجرة لا يمكن أن يزيد على مليون وربع (أي أن الموضوعية الاختزالية المتلقية في هذه الحالة أسقطت أبسط قواعد الموضوعية، فقد بلغت بها مقدرتها على التلقي أن تُصدِّق كل ما يُقال لها دون اختبار!). ولم يثر أحد قضية أن الهدف من التصريحات الصهيونية المليونية وهذا التضخيم للأعداد الوافدة يخدم مصالح معينة، وهو تعبير عن الرغبة في زيادة حجم الدعم الأمريكي وتدفُّق الأموال اليهودية. كما أن من المحتمل أن هذه التصريحات مجرد تعبير عن أمنيات وأحلام أصحابها. وقد أثبتت الأحداث أن عدد المهاجرين لم يقترب من نصف مليون، وأن نسبة النزوح بينهم كانت عالية، وأنهم أدّوا إلى تصدعات داخل النظام السياسي الإسرائيلي أو على الأقل لم يُدخلوا العافية عليه كما كان مُتوقَّعاً. ولم يستوطن هؤلاء المستوطنون في الضفة الغربية، فقد آثروا المدن القريبة من الساحل، حيث تتوافر لهم أسباب الراحة واللذة.

لم يجتهد أحد وتقبَّل الاختزاليون العلميون والتآمريون البدهيات وسقطوا صرعى لها، وقاموا بالتوثيق العلمي الذي لم يُعمِّق الرؤية وإنما حجبها تماماً.