المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 [13] 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54

ساجدة لله
2010-10-23, 05:50 AM
4 ـ محدودية النموذج وتحيزه:

النموذج بنية تصورية عقلية مجردة، ولذا فهو لا يمكن أن يغطي كل أجزاء الواقع مهما بلغت شموليته. وإنْ تطابق النموذج مع الواقع، أصبح هو نفسه واقعاً وفقد نماذجيته ونمطيته، وهذا يعني حتمية المسافة أو وجود مسافة بين الدال والمدلول، والسبب والنتيجة، والمدرك والمدرَك، والذات والموضوع، والفكرة والمادة. هذه المسافة تعني حتمية محدودية النموذج وقصوره، أي أنه سيظل أقل ثراءً وتركيباً من الواقع ولكنه سيظل أيضاً أكثر تركيزاً وبلورة منه. وهذا يعني أن التعامل مع الواقع من خلال نماذج يعني حتمية الانتقاء والاختيار، والإبقاء والإبعاد، أي حتمية تَحيُّز صاحب النموذج أو من يستخدمه. ولذا، فإن الموضوعية المطلقة (الخالية من أي تحيزات أو كليات أو مطلقات) أمر مستحيل من الناحية المعرفية.

ولكن تَحيُّز النموذج لا يعني العبثية والعدمية والذاتية، فالنموذج التفسيري الذي يعلن عن نفسه صراحةً يحمي المتلقي من وهم الموضوعية المطلقة إذ أن المتلقي سيدرك أن النموذج ليس هو الواقع المادي، وأن عقلاً إنسانياً قام بصياغته وبالتالي فهو يحوي حتماً عنصراً ذاتياً، وأن ثمة مسافة تفصل بين النموذج والواقع، ولذا سيأخذ المتلقي حذره وسيعرف أن ما يتلقاه ليس علماً محايداً وإنما هو علم يحمل تحيزات صاحبه، فهو نتاج رؤية بشر.

ولكن، رغم تحيزات النموذج، فإن هذا لا ينفي أن المتلقي قد يتلقى قدراً من العلم ومن المعرفة والخبرة يؤهله للتعامل مع الواقع وفهمه وتفسيره والتنبؤ به دون أن يتحكم فيه بالضرورة. وحتى إن تَحكَّم في بعض جوانبه، فإن هذا لا يعني بالضرورة السيطرة الإمبريالية الكاملة عليه، أي أن المتلقي سيُحقق قدراً من الحرية ولكنه سيقبل أيضاً بقدر من الضرورة. كما أن بوسع المتلقي أن يختبر المقدرة التفسيرية للنموذج ضمن عملية تتم خارج ذاتية صاحب النموذج.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:50 AM
5 ـ حتمية استخدام النماذج:

الإدراك ـ كما أسلفنا ـ ليس مجرد عملية تسجيل لكل المعطيات الحسية التي ترد للعقل ومراكمة لها، والعقل نفسه ليـس أداة كفئاً لتحقيق ذلك، لأنه أداة محدودة مبدعة فعالة ولأن الواقع مركب فإن عملية الإدراك تصبح عملية انتقاء وصياغة، وهو ما يعني استحالة الوصول إلى المعرفة الموضوعية المطلقة أو معرفة الأسباب في علاقتها بالنتائج بشكل صارم. وهذا يعني، في واقع الأمر، حتمية استخدام النماذج إن أراد الإنسان تجاوز الرصد التوثيقي المباشر الأبله المستحيل، وإن أراد تجاوز وجوده المادي المباشر حيث يتماس الجهاز العصبي بالواقع المادي بشكل مباشر (وكأن كل المعرفة هـي مثل معـرفة الطفـل الذي لا يُدرك النار إلا باحتراق أصابعـه، وكأننا كلنا مثل كـلب بافلوف الشـهير).

ونحن نذهب إلى أننا لا نستطيع كتابة أي شيء (إلا قائمة المشتريات من البقال) بدون نموذج. فنحن لا يمكننا إدراك الواقع الخـام مبـاشرةً إذ لابد أن نتعامل معه من خلال خريطة إدراكية تُبقي وتَستبعد. فالنموذج، بهذا المعنى، مرتبط تمام الارتباط بأبسـط العمليـات الإدراكية بل بالحالة الإنسـانية نفسها وبطبيعة الإنسان؛ لا ككائن مادي طبيعي، شيء بين الأشياء، وإنما ككائن بشري أو رباني لا يخضع لمنطق الذرات والأرقام. إنه مرتبط بخروج الإنسان من حالة الطبيعة البسيطة الجنينية (حيث لا تُوجَد مسافة بين المدرك والمدرَك وبين المثير والاستجابة) إلى حالة الحضارة المركبة. إن استخدام النماذج أمر حتمي للإدراك الإنساني ولإجراء أي بحث. فلو جابه الإنسان الواقع، ولو جابه الباحث موضوع بحثه بصفحة عقله المادية البيضاء، لأصابه الشلل، ولوجد نفسه مذعناً إما لنماذج الآخرين دون وعي، أو لبعض جوانب الظاهرة موضوع الإدراك والبحث، بحيث يرصدها بشكل ذري مفتت غير متماسك. وإذا كان الأمر كذلك فمن المستحسن أن ننطلق من إدراك هذه الحتمية وأن نواجه الواقع بتساؤلاتنا وإشكالياتنا ونماذجنا التحليلية، مدركين ذلك تمام الإدراك، الأمر الذي سيُحسِّن أداءنا النظري والتطبيقي.

وهذه الموسوعة هي بمعنى من المعاني دراسة لحالة معيَّنة (اليهود واليهودية والصهيونية) من خلال استخدام مجموعة من النماذج المستقلة المتشابكة.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:50 AM
المنحنى الخاص للظاهرة
تتأرجح كثير من المناهج بين الموضوعية والذاتية، أي افتراض موضوع خالص يوجد بذاته في العالم الخارجي يمكن إدراكه بطريقة فوتوغرافية دون تشويه، أو افتراض ذات خالصة تقف مستقلة تماماً عن الموضوع، تشوه كل ما يصلها من معطيات مادية لأنها تسقط نفسها عليه.

ونحن نطرح فكرة المنحنى الخاص للظاهرة كمحاولة لتجاوز هذه الثنائية الصلبة. وتفترض هذه الفكرة وجود موضوع، ولكنه له جوانب عدة منسقة بشكل معين تمنحه تفرُّد وتجعله مستقلاً عن الكل (مستقلاً وليس منفصلاً تماماً). والعقل البشري لا يمكنه رصد الموضوع بشكل كامل فوتوغرافي، لا بسبب محدوديته وحسب وإنما بسبب مقدرته التوليدية وبسبب تركيبية الظاهرة نفسها، وأخيراً بسبب وجود كل من الظاهرة والعقل البشري داخل الزمان والمكان.

ولكن العقل البشري مع هذا قادر على إدراك الظواهر والتوصل إلى قدر معقول من المعرفة بالواقع يمكِّنه من التعامل معه، وإن كان لا يكفي للهيمنة عليه. فالعقل البشري مسلحاً بحواسه وعواطفه وذكرياته ينظر للظاهرة فيدرك بعض جوانبها بطريقة تتفق مع طريقة الآخرين في بعض جوانبها وتختلف عنهم في بعض الجوانب الأخرى. فكأن المنحنى الخاص للظاهرة ليس أمراً موضوعياً كامناً في الظاهرة تماماً ولا هو نتيجة إبداع الذات المدركة أو قصورها، وإنما هو نتيجة تفاعل بين الذات المحدودة المبدعة والموضوع المركب.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:50 AM
ضبط المستوى التحليلى للنموذج حسب نوعية الظاهرة موضع الدراسة
يمكن دراسة أية ظاهرة من منظـور تَفرُّدها الكامل أو من منظور عموميتها وخصائصها المشتركة مع ظواهر مماثلة. ولهذا، فإن بعض المدارس الفكرية يذهب إلى أن كل ظاهرة إنسانية ظاهرة فريدة تتحدى التصنيف والتعميم بحيث تقف الظاهرة كياناً عضوياً فريداً يشبه الأيقونة المكتفية بذاتها والتي لا تشير إلى شيء خارجها. ومن ثم، فإن فهم هذه الظاهرة أمر مستحيل إلا لمن يلتحمون بها عضوياً. ولكن حتى هؤلاء، نظراً لالتحامهم بها، هم أيضاً غير قادرين على الإفصاح عنها. ولذا فإن المعرفة في هذه الحالة لا تكون إلا معرفة إشراقية من خلال الحدس والإلهام والتخيل وحسب. كما يرى هؤلاء أن الواقع الذي يعيش فيه الإنسان واقع مستمر مترابط يشبه ألوان الطيف المتداخلة. ولذا، فإن كل ما يمكن أن يفعله الإنسان أمام هذا التكامل العضوي هو أن يتقبله كما هو دون تفسير أو تجزئة.

ولكن هناك من يذهب إلى عكس ذلك فيرى الواقع من خلال مجموعة من القوانين العلمية العامة التي ترى أن الجوانب الفريدة في ظاهرة ما (ما نسميه المنحنى الخاص للظاهرة) أمر لا يستحق التسجيل أو الرصد، وإن سُجِّلت فهي لا تُعدِّل القـانون العلمي الأسـاسي القـادر على تفسير كل الظواهر عن طريق رد الأجزاء إلى الكل، والخاص إلى العام، ورد كل شيء إلى عنصر واحد أو بُعد واحد أو سبب واحد، فيصبح الواقع كله كماً واحداً لا قسمات له ولا ملامح، ولا يتسم بأي تَعيُّن أو تركيب أو خصوصية، فهو يشبه الصور النيجاتيف التي تنتجها أشعة إكس والتي لا تتسم بالجمال أو القبح، وهي صور "صادقة" و"حقيقية" ولكنها تثير الفزع.

والنموذج، كأداة تحليلية، يتسم بمقدرته على ربط الخاص بالعام، والجزء بالكل، والنتيجة بالسبب، والذات بالموضوع، دون أن يفقد أي عنصر منها شخصيته وهويته واستقلاليته، وذلك على عكس الاتجاه نحو التأيقن الذي يُسقط العام والكل، وعلى عكس فكرة القانون العام التي لا تتعامل إلا مع العام والكل، فكلاهما يُسقط المسافة الموجودة بين الكل والجزء والعام والخاص.

يحاول النموذج حل المشكلة بافتراض وجود مسافة تفصل الكل عن الأجزاء (والسبب عن النتيجة والذات عن الموضوع) بحـيث لا يمكن رد الكل إلى الجزء (فـهو كيان مجرد متجـاوز للأجزاء) ولا يمكن ردُّ الجزءفي كليته إلى الكل، إذ أن لكل ظاهرة منحناها الخاص الذي يعطيها هويتها الخاصة. فرغم أنها جزء من كل، إلا أنها ليست جزءاً عضوياً لا يتجزأ، وإنما هي جزء يتجزأ. ولذا، يحاول النموذج أن يرى ظاهرة ما في علاقتها بالظواهر الأخرى (وهذا ما يكسبها دلالتها العامة) دون إهمال استقلالها النسبي وشخصيتها المستقلة (المنحنى الخاص)، ولذا فهي لا تفقد تَعيُّنها وخصوصيتها. وينجح النموذج في إنجاز هذا عن طريق ما نسميه «تعدُّد المستويات»، وعن طريق ضبط المستوى التحليلي من ناحية التعميم (التجريد) والتخصيص (التعيُّن) بحيث يتناسـب المسـتوى التحليلي مع الظاهرة موضع الدراسة

ساجدة لله
2010-10-23, 05:50 AM
والنموذج حينما يتعامل مع الظواهر الإنسانية يشبه كلاًّ من الاسكتش المجرد العام والصورة الزيتية وحينما يتعامل مع الظواهر الطبيعية فهو يشبه كلاًّ من الصورة الفوتوغرافية وأشعة إكس، فالنماذج ليست جميعها على نفس مستوى التعميم أو القدرة على التفسير، فنموذج "الحضارة الغربية الحديثة" على سبيل المثال (مقابل الحضارة الغربية التقليدية أو الحضارة اليابانية الحديثة) يتمتع بمستوى عال من التعميم والتجريد فهو يغطي رقعة كبيرة من الأزمنة والأمكنة. لكن هذه الرقعة تتقلص حينما نتعامل مع نموذج "الحضارة الإنجليزية الحديثة" وتزداد تقلصاً حينما نتحدث عن "الحضارة الإنجليزية في القرن التاسع عشر" إلى أن نصل إلى "حضارة أو ثقافة سكان مدينة مانشستر في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر" وحينما نتحدث عن نموذج حياة النحل فنحن نسقط الزمان والمكان بشكل شبه كامل تقريباً. وزيادة الرقعة الزمانية أو المكانية لا يُنقص المقدرة التفسيرية للنموذج ولا يزيدها وإنما يُغيِّر مجاله وحسب. وكلما ازدادت درجة عمومية النموذج والمستوى الحضاري ازدادت مقدرته التفسيرية في المجالات الحضارية التي لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتفاصيل التجريبية أو بحقبة زمانية محدَّدة (مثل مفهوم الشكل عند الإنسان الغربي). ولكن هذه المقدرة نفسها تتناقص في الوقت نفسه في مجال التفاصيل التجريبية المرتبطة بمكان محدَّد وحقبة زمنية محدَّدة (زيادة معدلات الجريمة في مانشستر في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر) إلى أن تنعدم تقريباً حينما نأتي للظواهر الطبيعية. والعكس صحيح أيضاً، فكلما ازدادت درجة خصوصية النموذج يضيق نطاقه، وتزداد مقدرته التفسيرية في مجال التفاصيل التجريبية وتَضعُف في مجال الظواهر الحضارية. فمستوى التعميم والتخصيص لنموذج ما يحدِّدان نوعية التفاصيل أو الظواهر التي يمكن التعامل معها من خـلاله. ولا يمـكن مثلاً تفسـير تزايد الجـريمة في مانشستر بالحــديث عن أزمة الحضارة الغربية، كما لا يمكن استخدام تزايد الجريمة في مانشستر (وهو دليل واحد فحسب) برهاناً على أزمة الحضارة الغربية الحديثة!

ساجدة لله
2010-10-23, 05:51 AM
ويمكن أن يتحرك النموذج في إطار السببية الصلبة التي تسود عالم الأشياء وفي إطار السببية الفضفاضة الاحتمالية التي تقبل بوجود مسافة بين السبب والنتيجة بسبب وجود عناصر كثيرة لا يمكن إدخالها شبكة السببية. ولهذا السبب فإن السببية الفضفاضة (التي لا يمكن دراسة ظاهرة الإنسان بدونها) تخلق حيزاً للحركة وللفعل الذي يُلغي الحتمية ويجعل التنبؤ العلمي الصارم أمراً مستحيلاً وتوقعاً طفولياً. فعالم الإنسانيات الذي يستخدم النماذج مثله مثل عالم الطبيعة الذي يجري تجارب على الضوء ولكنه لا يعرف ماهية هذا الضوء: هل هي موجـات أم ذرات؟ وإذا كان الضـوء (وهو في نهاية الأمر ظـاهرة طبيعية) بهذا التركيب وبهـذه الدرجـة من المراوغة، فما بالك بالإنسان، ذلك المجهول الذي يحمل داخله أحلاماً وذكريات وحضارة وتاريخاً وخيراً وشـراً لا يعلم كنهها إلا الله!

ومفهوم السببية مرتبط تمام الارتباط بدرجة اليقين التي يحاول الباحث أن يصل إليها، فإن كان الباحث يتعامل مع حقائق رياضية فهو سيصوغ نماذج رياضية (تستبعد الفاعل الإنساني تماماً وتلغي الحيز الإنساني) لتتعامل مع الكم وحسب ولذا يمكن الوصول إلى درجات عالية من اليقين، والشيء نفسه ينطبق على الحقائق الطبيعية/المادية. ولكن حين يتعامل الباحث مع حقائق إنسانية فهو سيصوغ نماذج مركبة ولذا فالنتائج التي سيتوصل إليها لن تتمتع بقدر عال من اليقينية وستكون أكثر احتمالية وتقريبية.

ويمكن أن يتجاوز النموذج الزمان ولكن يمكنه أيضاً أن يُقدِّم تصوراً للزمان لا باعتباره أحداثاً متتالية متراصة صلبة، وإنما باعتباره أحداثاً واقعة وإمكانات كامنة، وباعتبارها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً تفصلها ثغرات وانقطاعات تشكل مجال الحرية الإنسانية. ولذا، يسمح النموذج لمن يستخدمه برصد الماضي والحاضر والمستقبل ما هو ظاهر وما هو باطن وما هو قائم وما هو ممكن.

ويمكن القول بأن النماذج التفسيرية يمكن أن تكون قانوناً عاماً أو نظرية كلية صارمة تُفسِّر الظواهر الطبيعية، ولكن بوسعها أن تبتعد عن فكرة القانون العام أو النظرية الكلية التي تحاول أن تشرح كل شيء، ومن ثم تصبح أقرب إلى الفرض العلمي، ولكنه فرض لن تتم البرهنة عليه أو تفنيده، بل هو فرض دائم ـ إن صح التعبير ـ يُستخدَم لدراسة بعض جوانب الواقع والأنماط المتكررة فيه. والنماذج التفسيرية التي تُستخدَم لتفسير ظاهر الإنسان تُشبه الصور المجازية من بعض الوجوه في وظيفتها الإدراكية والتفسيرية. فالصورة المجازية، مثل النموذج التفسيري، جزء من العملية الإدراكية ومن نسيج لغة البشر (وليست مجرد زخرفة تضاف هنا وهناك). ويلجأ الإنسان للتعبير المجازي ليكتشف علاقة غامضة مركبة في الواقع أو عناصر لا محدودة لا يمكنه الإمساك بها، ومع هذا فهو يشعر بوجودها من خلال تجلياتها المادية المُتقطِّعة التي لا تتبع نمطاً واضحاً (علاقات: الجزء الملموس بالكل المُتصوَّر ـ الإنسان بالإله ـ المعلوم بالمجهول ـ المحدود بغير المحدود ـ النسبي بالمطلق ـ الماضي بالمستقبل)، أو يلجأ للتعبير عن أحاسيس عميقة يشعر المرء أن اللغة النثرية المعتادة لا تكفي للإفصاح عنها (تماماً مثل الرصد المتلقي المباشر في حالة الظواهر المركبة) فيصوغ صـورة مجــازية هي في جوهـرها ربط للمعـروف بغير المعروف واكتشاف للعناصر الرئيسية في الواقع وإبرازها، وهذه هي أيضاً طريقة النموذج في الرصد والتفسير.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:51 AM
وباختصار شـديد، يمكن أن نقـول إن النموذج أداة تفسيرية تَصلُح لتفسير كل من الظواهر الطبيعية والإنسانية، تَصدُر عن تَفهُّم لمحدودية الإدراك البشري في رصد الواقع الطبيعي والإنساني. ولكن النموذج مع هذا لا يسقط في العبثية أو العدمية بسبب هذه المحدودية فهو أداة تستند إلى الإيمان بالمقدرة الإبداعية للعقل البشري على صياغة نماذج مركبة فضفاضة يمكنها تفسير الواقع المركب الحركي خارج إطار الحتميات المطلقة والسـببيات الصـلبة والمطلقة والوحدة الصـارمة. وغنيٌّ عن القـول أن فكر ما بعد الحـداثة يرفض فكـرة النماذج تماماً.

ويجب الانتباه إلى أن النموذج، كأداة تحليلية، لا يؤدي حتماً إلى الإدراك المركب وتشغيل الخيال، فهناك دائماً من يصوغ نماذج تحليلية بسيطة واختزالية. وهناك كذلك خطورة تشيؤ النموذج. فبعض الباحثين قد يغفل عن حقيقة أن النموذج أداة إدراكية، تماماً مثل الصور المجازية، ويتصور أن النموذج هو الواقع فينقض على الواقع مسلحاً بنموذجه ويقوم بجمع المعطيات المادية التي تؤيد رؤيته المسبقة. كل ما نؤكده هنا هو أن النموذج يخلق تربة خصبة (ارتباطاً اختيارياً) لمن يريد تجاوز الواحدية السببية والاختزالية، ولمن يريد أن يرصد الظواهر الإنسانية دون اختزال الحيز الإنساني أو الحيز الطبيعي. (وهو ما نحاول إنجازه في هذه الموسوعة).

ساجدة لله
2010-10-23, 05:51 AM
وظيفة النموذج
من أهم وظائف النموذج وظيفته الإدراكية الإنسانية الفطرية، فهو يحتوي على رؤية الإنسان للكون (مسلماته الكلية) التي يرتب الحقائق وينظم المعلومات على أساسها، وذلك أثناء أبسط عمليات الإدراك. فكأن وظيفة النموذج هنا وظيفة فطرية، ومن ثم يمكن تسمية النموذج من حيث هو أمر فطري «النموذج الإدراكي». فنحن حين نقول إن فلاناً «دمنهوري» أو «بريطاني» فنحن في واقع الأمر نستدعي صورة ذهنية تؤكد بعض الصفات وتستبعد صفات أخرى. ويمكن القول بأن كل المناهج البحثية تستخدم فكرة النموذج بشكل شبه واع أو غير واعٍ، فكل نص إنساني، مهما بلغت سطحيته أو عمقه، يحتوي على نموذج ما (بمعنى رؤية للكون). فدراسة ماركس للمجتمع الغربي تدور حول نموذج «الرأسمالية الرشيدة» (رغم أنه لم يستخدم المصطلح)، وأي كتاب تاريخ يستخدم نماذج تحليلية مثل «الثورة الصناعية» أو «عصر النهضة»، فهذه ليست وقائـع إمبريقية، وإنما هي مفهـوم أو صورة مجازية تضم ما يتصوره الباحثون السـمات العامة لهذه الثورة أو ذلك العصر.

ولكننا نضع مقابل هذا النموذج الإدراكي (غير الواعي أو شبه الواعي) ما نسميه «النموذج التفسيري التحليلي» وهو النموذج الذي يصوغه باحث ما بشكل واع ليقوم من خلاله بتحليل الظواهر، أي أنه يحوِّل النشاط غير الواعي إلى عملية واعية بذاتها وبالإجراءات اللازم اتباعها. وبهذا المعنى تكون الدراسة من خلال النموذج (أداة) لا تُشكِّل قطيعة معرفية مع المناهج القائمة بقدر ما تُشكِّل محاولة للتنبيه على أهمية شيء قائم بالفعل، ربما على مستوى الكمون (أو شبكة العلاقات التي تشكل ماهية الشيء)، ثم نضع مقابل كل هذا البنية، وهي النموذج كما يتبدَّى في نص أو ظاهرة ما، خارج عملية الإدراك.

إن النماذج (كأداة واعية) تندرج في إطار ما يُسمَّى «المنهج العلمي»، أي النسق المفاهيمي والنظري الذي يُنظم الحقائق والظواهر المتناثرة، ويربط بعضها ببعض. وثمة إجماع على أن العلم عملية فكرية لا تتوقف عند وصف الظواهر، وإنما تحاول أن تصل إلى النمط الكامن وراءها لتكشف العلاقات الضرورية القائمة بين الظواهر وبين الأحداث التي تلازمها أو تسبقها. وبعد عملية الكشف يقوم الباحث بصياغة تعميمات قابلة للتحقيق ترتبط بمجموعة أخرى من التعميمات التي تمت مراكمتها من قبل. هذه التعميمات تساعدنا على التنبؤ بالطريقة التي ستعمل بها الظاهرة في المستقبل، ويُقال أيضاً إن الهدف النهائي من العلم هو التحكم. ومسلمات العلم ثلاث: الحتمية (أن هناك نظاماً معيَّناً في الكون)، والاطَّراد (أن نظام الكون مطَّرد)، والوصفية أو الحسية في المعرفة (أن معرفتنا لهذا النظام لا تتأتى عن طريق آخر غير الملاحظة والخبرة الحسية). والدراسة من خلال النماذج تدور في هذا الإطار وتقبل بهذه الأهداف والمسلمات، ولكنها تتيح فرصة توسيع نطاق الأهداف وتفسير المسلمات بطريقة تسمح بأن نفرِّق بين النماذج التي تُستخدَم لدراسة الظواهر الإنسانية، وتلك التي تُستخدَم لدراسة الظواهر الطبيعية. فنحن نؤمن بوحدة العلوم (لا بواحديتها) بمعنى أن ثمة إجراءات عامة تُستخدَم في عملية تحصيل المعرفة، ولكن ثمة اختلافات جوهرية بين معرفتنا بسلوك النحل والبقر ومعرفتنا بسلوك البشر. ومن ثم رغم الوحدة العامة المبدئية، ثمة فروق منهجية أساسية. ولكننا سنؤكد الاختلافات ونتعامل معها بالتفصيل على حساب الوحدة، لأن العلوم الإنسانية تعيش في ظلال النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية، ومن ثم يسيطر عليها الواحدية. وكل هذا هو جزء من دفاعنا عن الإنسان.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:51 AM
النســـق
كلمة «نسق» مصطلح يكاد يكون مرادفاً لكلمة «نموذج» وإن كانت الكلمة الأخيرة تحمل قدراً أعلى من الوعي والتركيب والانفصال عن الذات.

المنظومــة
كلمة «منظومة» تكاد تكون مترادفة مع كلمة «نسق».

الإشكاليــة
«إشكالية» ترجمة لكلمة «بروبليماتيك problematic» الإنجليزية. وهي من «شَكَل الأمر شكولاً» بمعنى «التبس». و«المشكلة» أو «المُشكل» هي «الأمر الصعب الملتبس». وفي علم الاجتماع «المشكلة» هي "ظاهرة تتكون من عدة أحداث أو وقائع متشابكة وممتزجة بعضها بالبعض لفترة من الوقت ويكتنفها الغموض واللبس، تواجه الفرد أو الجماعة ويصعب حلها قبل معرفة أسبابها والظروف المحيطة بها وتحليلها للوصول إلى اتخاذ قرار بشأنها". و«الإشكال»، في قانون المرافعات، هو «الأمر الذي يوجب التباساً في الفهم». ويبدو أنه تم اختيار كلمة «إشكالية»، مؤنث «إشكال»، قياساً على كلمتي «مشكلة» و«مُشكل».

ومجموعة الكلمات هذه تؤكد عنصري الالتباس والتشابك بين العناصر، أي أنها تؤكد تركيبية الظواهر وتشابك عناصرها. وهي علاوة على هذا تؤكد ذاتية الإدراك، فالالتباس شيء يحدث للإنسان المدرك وليس للشيء المدرَك. كل هذا يبتعد بهذه الكلمات عن عملية الرصد الموضوعي ويقترب بها من عمليات الرصد من خلال نماذج حيث لا يوجد انفصال بين الذات والموضوع.

وكلمة «إشكالية» (بروبليماتيك) كلمة ثرية تعني «سمة حكم أو قضية قد تكون صحيحة لكن الذي يتحدث لا يؤكدها صراحةً» ويضرب مثلٌ على ذلك موقف العقل من القضايا الأولية التي تشكل قضية شرطية أو قطعية: "إما أن يكون العالم نتاج مصادفة، وإما أن يكون نتاج ضرورة داخلية". كما أن كلمة «إشكالية» تؤكد العنصر الذاتي، فإذا كانت المشكلة موجودة في الواقع، فالإشكالية يصوغها عقل الإنسان. وأخيراً تؤكد كلمة «إشكالية» أن القضية موضع الدراسة ذات طابع فكري وأن حلها ليس سهلاً ولا يمكن أن يكون نهائياً أو قاطعاً.

ويمكن القول بأنه حينما يواجه المرء ظاهرة أو موضوع ما يتسم بقدر من التركيب فإنه يجد نفسه مضطراً لصياغة الإشكالية ومجموعة الأسئلة التي يتصور أنه سيمكنه عن طريقها تفكيك الظاهرة وإعادة تركيبها حسب نموذجه التصنيفي والتفسيري. وهو إن لم يضع الإشكاليات ولم يطرح الأسئلة فإنه إما أن يبتلعه الموضوع تماماً أو يظل قابعاً داخل ذاتيته لا يبرحها.

وهذه الموسوعة هي دراسة لظاهرة اليهود واليهودية والصهيونية من خلال نماذج، ولذا تبدأ بصياغة الإشكاليات ثم تأتي بالنماذج التفسيرية الملائمة، وهذا تعبير عن محاولة الفكاك من أسر كل من الواحدية الذاتية والواحدية الموضوعية المادية وصولاً إلى مستوى تحليلي قد يكون أقل يقينية ولكنه يطمح أن يكون أكثر تفسيرية. والمجلد الأول (الإطار النظري) يطرح إشكالية الطبيعي والإنساني، والموضوعي والذاتي، والكلي والجزئي ثم يقدم فكرة النموذج حلاً لها. والمجلد الثاني يتعامل مع الإشكاليات الأساسية الخاصة بالجماعات اليهودية. ولا يختلف الأمر كثيراً بخصوص المجلدات الخاصة باليهودية والصهيونية وإسرائيل، إذ يبدأ كل مجلد بمجموعة من الأبواب تطرح فيها الإشكاليات الأساسية التي تدور حول موضوع المجلد ثم يرد في بقية الأبواب النماذج التفسيرية الملائمة التي نتصور أنها ذات مقدرة تفسيرة عالية.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:51 AM
فـكر وأفكــار
نميز في هذه الموسوعة بين «الفكر» و«الأفكار»، فكلمة «فكر» ـ في تصوُّرنا ـ تشير إلى منظومة من الأفكار مترابطة من خلال نموذج معرفي كامن فيها، أما «الأفكار» فهي مجموعة من الأفكار لا يربطها سوى رباط سطحي براني.

وحينما يتعامل الإنسان مع الأفكار (وليس مع الفكر) يهمل النموذج المعرفي الكامن وراء الأفكار فيقوم بنقلها أو تناولها دون إدراك لأبعادها المعرفية (الكلية والنهائية)، ومن ثم يختفي المنظور النقدي وتتعايش الأفكار المتناقضة جنباً إلى جنب بسهولة ويسر ولا يمكن التمييز بين الجوهري منها والهامشي.

النماذجـــى
«النماذجي» كلمة تم توليدها من كلمة «نموذج». والنماذجي هو ما يُعبِّر عن جوهر النموذج ومنطقه الأساسي ويتحقق فيه النموذج. وقد فضلنا استخدام كلمة «نماذجي» بالنسب إلى صيغة الجمع على استخدام كلمة «نموذجي» بالنسب إلى الصيغة المفردة للكلمة، وذلك لأننا حينما نقول «اللحظة النموذجية» قد نتوهم أن كلمة «نموذجية» تعني «مثالية» (كما في قولنا «المدرسة النموذجية»). وتأكيداً على هذا البُعد التحليلي لمفهوم النموذج، فإننا نُفضِّل في سياقنا استخدام كلمة «نماذجية» على كلمة «نموذجية» الأكثر شيوعاً واستقراراً.