المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 [46] 47 48 49 50 51 52 53 54

ساجدة لله
2010-10-23, 06:58 AM
3 ـ على المستوى الاقتصادي:

أ) تواجه الولايات المتحدة (قائدة العالم الغربي) مشاكل المديونية وعجز الميزان التجاري. فالدين الأمريكي يزيد على 3 تريليون دولار، وانخفضت حصة الناتج القومي الإجمالي الأمريكي من الناتج العالمي إلى الثلث. ويتنبأ بعض الاقتصاديين بأن الولايات المتحدة، التي أضعفها عقدان من الركود، ستصبح بحلول عام 2000 ثالث قوة اقتصادية بعد أوربا واليابان اللتين سوف تتفوقان على أمريكا من حيث الناتج القومي الإجمالي وحجم الاستثمارات في الخارج وحجم الصادرات.

ب) حدث هذا في وقت بدأت تظهر فيه مراكز اقتصادية غير غربية تطور نفسها خارج شبكة الهيمنة الغربية مثل اليابان والصين وماليزيا وغيرها.

جـ) لاحظ الغرب أن كثيراً من دول العالم الثالث أصبحت واعية بمصالحها الاقتصادية وبآليات السوق المحلية وكيفية السيطرة عليها وبآليات إدارة الحكومة والاستثمار في الداخل والخارج، وأصبح لدى كثير من حكومات العالم الثالث خبرات محلية ومستوردة تجعل عملية النهب الاستعماري القديمة (التي بدأت باستبدال المرايات بالأراضي) صعبة بل مستحيلة.

د) أدَّى تطور الاقتصاد الغربي وتمدد السوق الغربية إلى ظهور ما يشبه الاقتصاد الدولي (وهو اقتصاد غربي ساحته كل الدول) وظهرت الشركات عابرة القارات التي تحمل رأس المال الغربي في كل مكان وأي مكان، بحيث يتبعها أعداد هائلة من الموظفين والمستفيدين، وهي تحمل معها أنماط الاستهلاك الغربية والسوق باعتبارها كياناً آلياً يتطلب تنميط الآخر.

هـ) لاحظ الإنسان الغربي أن ثمة قضايا جديدة لا يمكن مواجهتها إلا في إطار عالمي، وهو ما يتطلب التعامل مع حكومات العالم الثالث. فثمن التقدم لم يعد مجرد تلويث نهر أو إصابة مجموعة من الناس بداء الكبد (مثلاً)، حيث بدأنا نسـمع الآن عن ظواهـر ذات طـابع كوني مثل ثقوب الأوزون وسخونة الغلاف الجوي. وفي عصر الإمبريالية الغربية، كان الإنسان الغربي يُصدِّر للشرق فواتير التقدم وينساها، أما الآن فإن ثقوب الأوزون لا تعرف الفرق بين الشرق والغرب وتذكره بالدمار الذي يحيط بالجنس البشري.

و)_ وإذا أخذنا انتشار المخدرات باعتباره إحدى النتائج السلبية للتقدم، فإن هذا يعني أنها هي الأخرى تساهم في عملية تدويل العالم. وفي القرن الماضي، كان الاستعمار الإنجليزي يدخل حرب الأفيون الأولى والثانية ليفرض على سكان الصين تناول الأفيون بقوة السلاح ويحقق الربح لنفسه. ومع هذا، كان المجتمع الإنجليزي يستمر في الحفاظ على أخلاقياته الفكتورية المحافظة. وحتى في الستينيات، كانت الشرطة الأمريكية لا تمانع كثيراً في وجود المخدرات في حي هارلم الأسود في نيويورك، وكان هذا يُعَد شكلاً من أشكال الضبط الاجتماعي. أما الآن، فإن كارتل إسكوبار في كولومبيا، وكذلك المثلث الذهبي، تمتد أياديهم لتصل إلى أولاد الطبقة المتوسطة البيضاء في نيويورك ولندن وضواحيهما! والمخدرات التي تزرع في منطقة الإشعاع النووي في تشرنوبيل (ولذا فهي تنمو بسرعة سرطانية) تجد طريقها إلى كل أرجاء المعمورة!

ساجدة لله
2010-10-23, 06:58 AM
إن ما حدث ليس اختفاء العالم ذي القطبين والتلاقي الأيديولوجي بين القوى العظمى المتصارعة (روسيا ـ اليابان ـ العالم الغربي) وإنما هو أيضاً تراجع المركزية الغربية وظهور مراكز عديدة تتفاوت قوةً وضعفاً وإدراك الغرب لذلك، وإدراكه أيضاً لمواطن الضعف في القوى المقاومة له. كل هذا أدَّى إلى أن يتبنَّى الغرب إستراتيجية جديدة: الاستعمار العالمي الجديد الذي يلجأ للإغواء بدلاً من القمع. فالآلية الأساسية للقسر، أي سحق إرادة الشعوب، أصبحت مكلفة للغاية إن لم تكن مستحيلة تماماً.

وآليات الإغواء عديدة من بينها إيهام الآخر، أي أعضاء النخب المحلية الحاكمة التي تم تغريبها، بأنه شريك مع الاستعمار الغربي في عمليات الاستثمار، بل شريك (صغير) في عمليات نهب الشعوب ويستفيد منها. ويواكب هذا عملية إفساد ورشوة لأعضاء هذه النخب. بل إن الشعب نفسه يتم إغواؤه إما عن طريق وسائل الإعلام "العالمية" وبيع أحلام الاستهلاك الوردية الفردوسية، أو عن طريق النخب المحلية. وتُصعَّد في الوقت نفسه عمليات فتح الحدود وتفكيك الدولة القومية (باعتبارها إطاراً لتجميع القوى الشعبية المختلفة ضد الإمبريالية أو ضد الهيمنة الغربية) وذلك عن طريق المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية وإثارة الأقليات وإثارة مشاكل الحدود... إلخ، وتفكيك الأسرة باعتبارها الملجأ الأساسي والأخير للإنسان والحيز الذي يحقق المجتمع داخله استمرارية الهوية والمنظومة القيمية (وتتكفل جماعات التمركز حول الأنثى «فيمينزم Feminism» وجماعات الدفاع عن الإباحية باعتبارها شكلاً من أشكال "الإبداع"، بهذا الجانب من عملية التفكيك).

ساجدة لله
2010-10-23, 06:58 AM
ويذهب أحد الكُتَّاب العرب إلى تحديد ملامح العالم في إطار النظام العالمي الجديد على النحو التالي:

1 ـ سيعتمد هذا النظام في أساسه على قيام تكتلات إقليمية متنافسة ولكن غير متصارعة تحاول أن تفرض على العالم وضعاً يتفق ومصالحها.

2 ـ سيستمر التباين في مستويات الحياة بين الدول الغنية المسـيطرة من جـهة والدول الفـقيرة المستغَلة من جهة أخرى. ويلاحَظ الآن أن نحو 20% من سكان هذا العالم يسيطرون وينعمون بنحو 80% من مصادر الثروة فيه.

3 ـ النمط الاقتصادي السائد يقوم في أساسه على السوق العالمية، وهو ما يجعل تراكم الثروات منسلخاً عن العمل والإنتاج مرتبطاً بالمضاربات المالية التي تتحكم فيها الشركات الكبرى بحماية دولية.

4 ـ ستُصدِّر الصناعات الملوثة للبيئة للدول الفقيرة وتظل تحت السيطرة الغربية، مع اهتمام دول الغرب بإدارة الجانب الزراعي في بلادها.

5 ـ ستحاول أمريكا والغرب، ومن خلال المؤسسات الدولية، فرض وضع اقتصادي سياسي من خلال الهيمنة العسكرية وإنشاء الشرعية الدولية والتستر بها لغرض الهيمنة على الآخرين بالقوة وتبرير التدخل في الشئون الداخلية للأمم الأخرى.

تناولنا، حتى الآن، رؤية النظام العالمي للتاريخ وتاريخه وأسباب تحوُّله وآلياته الجديدة، وهي رؤية تضمر عدم اكتراث بالإنسان. ويمكننا الآن أن نركز على هذا الجانب، أي رؤية النظام العالمي الجديد للإنسان. فالنظام العالمي الجديد، كما أسلفنا، هو امتداد للنظام العالمي القديم، ومن ثم فهو تعبير جديد عن الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي تذهب إلى أن العالم مادة والإنسان أيضاً مادة لا يختلف عن بقية العالم، وهذه المادة مادة استعمالية بالدرجة الأولى، فالإنسان حيوان اقتصادي تماماً وما يحركه هو الدوافع الاقتصادية، وهي أيضاً المحرك الأكبر للمجتمعات البشرية. ولذا، فإن المصالح الاقتصادية (الحديثة، العلمانية الشاملة، التي لا تتجاوز عالم المادة ولا تصل أبداً إلى عالم التطلعات والأشواق والإنسان المركب التاريخي) هي المحرك الأول والأخير والمرجعية النهائية. والتحالفات السياسية في الوقت الحاضر لا تستند إلى الأيديولوجيا وإنما إلى المصالح الاقتصادية، والصراع لا يتم بشأن المبادئ وإنما يتم بشأن المصالح. وثمة تلاق بين الأمن القومي والمصلحة الاقتصادية، وبالتالي يمكن حصر الخلافات بين الدول وتحديدها والتعامل معها بشكل رشيد، فالمصالح (على عكس المبادئ) يمكن حسابها، ويمكن إخضاعها لعمليات رياضية دقيقة. ونفس الشيء يُقال عن الخلافات داخل المجتمع الواحد، فمن الممكن حسمها من خلال العملية الديموقراطية.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:58 AM
وقد كانت المنظومة القيمية الغربية تسري على كل البشر، فالجميع مادة استعمالية. ومع هذا، فإن هناك ثنائية الأنا والآخر الصلبة. وفي داخل هذه المنظومة التي تدور في إطار المرجعية الواحدية المادية، يمكن القول بأن الإنسان الغربي مادة مستعملة (بكسر الميم) أكثر منها مادة استعمالية، أما سكان آسيا وأفريقيا فهم العكس؛ مادة استعمالية أولاً وأخيراً. ولذا، عبَّرت هذه الرؤية عن نفسها في النظام الدولي القديم على هيئة خطاب عنصري يؤكد على التفاوت بين الأجناس كما يؤكد رسالة الرجل الأبيض. ولكن، نظراً للأسباب التي أدرجناها فيما سبق، بدأت منظومة التفاوت في التراجع وظهر بدلاً منها منظومة واحدية مادية سائلة تساوي بين الناس وتسوي بينهم، وأصبح كل البشر مادة متساوية (معرفياً على الأقل) وظهرت الاستهلاكية العالمية بديلاً عن الرأسمالية الرشيدة والاشتراكية العلمية.

وانطلاقاً من ثنائية الأنا والآخر العنصرية الصلبة، كان النظام الإمبريالى القديم يحاول أن يوقف عمليات التحديث فى أى مكان فى العالم حتى يصبح العالم الغربي متقدماً، منتجاً ومستهلكاً، ويصبح العالم الثالث متخلفاً بدائىاً مصدِّراً للمواد الخام والعمالة الرخيصة ومستهلكاً ضعيفاً لبعض بضائع أوربا. أما النظام الإمبريالي الجديد في عصر السيولة (في عصر الاستهلاكية العالمية)، فيرى أنه من الضروري ترشيد العالم بأسره وتحويله كله إلى حالة المصنع والسوبر ماركت، ولذا لابد أن تتقدَّم شعوب الأرض بالقدر الكافي لتصبح شبه منتجة شبه مستهلكة. فالبدوي فى صحراء نجد والهندي الأحمر فى براري أمريكا والقروي فى الصـعيد يشكِّلون عائقاً يقـف أمام النظام الإمبريالي الجـديد (الاسـتهلاكية العالمية)، فهم ليسوا فى حاجة إلى الهامبورجر أو السيارة أو الفيديو، ومن ثم لا يمكن تجويعهم أو حرمانهم أو الضغط عليهم، وبالتالي فهم يشكلون ثغرة فى نظام يشبه الآلة لا يتحمل ثغرات، ويجب أن تكون أجزاؤه جزءاً من الكل الآلي. فمثل هؤلاء الفقراء مستقلون قادرون على الحفاظ على أبنيتهم الثقافية وقيمهم المطلقة وعلى اتزانهم مع الذات ومع الطبيعة، وهذا أمر يهدد النظام العالمي. ولذا، لابد أن "يتقدم" الجميع، حتى يدخل الجميع النظام العالمي، ويتم هذا من خلال بيع الأحلام الوردية عن الرخاء الاقتصادي وتعظيم اللذة (أو الوعد باللذة) والتصعيد المستمر للرغبات الاستهلاكية والجنسية. وهو تصعيد يتم من خلال البث التليفزيوني ووسائل إعلام الداخل والخارج. ولكن يجب أن يتم التقدم، تحت مظلة البنك الدولي وصندوق النقـد، داخـل إطار النظام العالمي الجديد الذى تحكمه بنية التفاوت والمنظومة القيمية الاستهلاكية. ومن ثم يجب ألا يُسمَح بإدخال التنمية المستقلة، لأنها تحدث ثغرة فى النظام الدولي أيضاً، فقد توقف توسع الشركات متعددة الجنسيات، وقد تعوق التنمية تحت مظلة البنك الدولي. وأما التنمية فى إطار النظام العالمي الجديد، فإنها ستضمن أن تكون شعوب العالم الثالث نصف منتجة ونصف مستهلكة حتى يستمر اعتمادها المذل على الغرب. ولا شك في أن عمليات تصعيد التوقعات الاستهلاكية، وعملية التسخين (الاستهلاكية الجنسية) التي تتعرض لها شعوب العالم الثالث، ستجعل من المستحيل تحقيق أي تراكم رأسمالي وستبدد الطاقة الثورية أولاً بأول وتختفي الرغبة في السمو وفي الجهاد.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:59 AM
وقد وجدت الاستهلاكية العالمية التي ستحوِّل العالم إلى سوق كبيرة لا يسودها إلا قوانين العرض والطلب، وتعظيم المنفعة (المادية) واللذة (الحسية)، والتي ستؤدي إلى سيادة حالة المصنع في العالم بأسره، أن من صالحها أن تفتح الحدود، وأن تختفي القيم والمرجعيات تماماً حتى يفقد الجميع أى خصوصية ويصبح بالإمكان تحويلهم إلى آلة إنتاجية استهلاكية وقطع غيار فى الوقت نفسه.

في هذا الإطار تُطرَح سنغافورة باعتبارها المثل الأعلى الذي يُحتذى في السيولة والتراخي، وسنغافورة بلد معقم من التاريخ والذاكرة، فهي شـوارع أسفلتية عرضـية وأبراج أسـمنتية أفقية تشـكل مجموعة هائلة من المصانع والمتاجر والملاهي. ولنتخيل بلداً مثل مصر يحاول أن يصبح مثل سنغافورة.

وهكذا تغيَّر النظام الإمبريالي القديم، المبني على توازن القوى والرعب الذي يَصدُر عن المنظومة الداروينية، وأصبح دون مقدمات نظاماً عادلاً يدعو إلى الديموقراطية ولكنه يدعو لأشياء أخرى كذلك مثل السوق الشرق أوسطية التي تنكر تاريخ المنطقة تماماً، ويتحدث عن الشعوب العربية وعن المنطقة. كل هذا يجعلنا ندرك تماماً أن دعوة النظام العالمي الاستهلاكي الجديد للديموقراطية لا تهدف إلى تمكين الجماهير من التحكم في مصيرها، وإنما هي أداته في فتح الحدود وإضعاف الدول القومية المركزية الصغيرة حتى يتسنى له ترشيد البشر وإزالة أية عوائق إنسانية أو أخلاقية، وحتى تصبح كل الأمور متساوية ونسبية ويسود تساو معرفي كامل هو في واقع الأمر عملية تسوية، وتُمحَى كل الثنائيات، فالأجساد مادة والعقول آليات والعالم عقارات والأوطان فنادق، وأما ما ينفع الإنسان الطبيعي فهو الانخراط الرحمي (نسبة إلى الرحم) فى المنظومة الآلية بحيث يصبح الجميع سواسية مثل أسنان المشط الأمريكي البلاستيك فيتخففون من عبء الهوية والضمير والاختيارات الأخلاقية المركبة.

لكن رغم كل هذا الحديث العــذب عن الديموقراطية والمسـاواة والسيولة يكتسب الغرب صلابة خاصة من ثقته من أنه الممثل الحقيقي لحالة الطبيعـة، وأن طريقـه (الغربي ـ الحديث ـ العلماني ـ الطبيعي/المادي) هو الطريق الصحيح، بل الوحيد، أي أنه بعد أن يؤكد غياب المرجعيات بشكل علني ويقوم بتسييل العالم، يتحرك في إطار مرجعيته الخفية الصلبة التي تمنحه مركزية في العالم. ولذا، فهو يقوم بفتح حدود الآخرين وتدعيم حدوده هو ويقوم بفك مدافع الآخرين (كما فعل مع محمد علي) وينصب مدافعه هو، فالمدفع هو مركز العالم الذي لا مركز له، هو الصلابة في عالم السيولة، وهو الركيزة في عالم لا ركائز له؛ مدفع يحمله إنسان أوربا الطبيعي والاقتصادي (المادي)، إنسان هوبز وداروين ونيتشه. هو مدفع ضخم صلب لا ريب فيه، ولكنه مع هذا يظل مختبئاً وراء آليات الإغواء وخطاب السيولة والنسبية والتعددية.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:59 AM
الترانسفير: رؤية معرفية
«ترانسفير transfer» كلمة إنجليزية تعني حرفياً «النقل»، وتُستخدَم عادةً للإشارة إلى طرد عنصر سكاني من محل إقامته وإعادة توطينه في مكان آخر. وهي تُستخدَم في الخطاب السياسي العربي للإشارة إلى محاولة الصهاينة طرد العرب ونَقْلهم (ترانسفير) من فلسطين، إلى أي مكان خارجها، ونقل (ترانسفير) اليهود إليها. ولكننا نذهـب إلى أن الترانسـفير يُعبِّر عن شـيء جوهري وبنيوي في الحضارة الغربية الحديثة يتجاوز المستوى السياسي. إنها حضارة يهيمن عليها النموذج العلماني الشامل تدور في إطار المرجعية المادية (وإنكار التجاوز ونزع القداسة) ولذا، فإن ملامح هذه الحضارة كافة تتبدَّى في مفهوم الترانسفير، سواء من ناحية الرؤية أو من ناحية الممارسة. فهذه الحضارة ترى العالم مادة استعمالية لا قداسة لها يمكن تحريكها وتوظيفها، وذلك لعدم وجود قيمة مطلقة لأي شيء، فالطبيعة قد وُجدت ليهزمها الإنسان ويسخرها، والإنسان نفسه لابد أن يخضع للمرجعية المادية، ولذا فهو الآخر كيان مادي حركي لا يختلف عن الكيانات الأخرى، ويمكن نقله وتوظيفه وهزيمته وتسخيره باعتباره مادة استعمالية نافعة. ولذا، فإن الترانسفير نفسه ليس مجرد فعل سياسي أو رغبة أيديولوجية وإنما هو مؤشر على نموذج حركي مادي يصيب الإنسان في الصميم ويعيد تعريفه تعريفاً يودي به تماماً. ويمكن أن نعيد النظر في تاريخ الحضارة الغربية الحديثة باعتبارها حضارة الترانسفير. أي أننا، هنا، سنقوم بعملية تفكيك وتركيب لكثير من ظواهر هذه الحضارة، ومن خلال هذه العملية نوضح إجابة النموذج العلماني على الأسئلة الكلية ونُوضِّح المرجعية النهائية المادية لهذه الحضارة:

1 ـ بدأت هذه الحضارة بترانسفير أوَّلي هو حركة الاكتشافات حيث انتقل الإنسان الغربي من عالم العصور الوسطى في الغرب إلى أماكن أخرى في العالم، وفي هذا علمنة كاملة للمكان والحيز حيث يصبح المكان مجرد حيِّز يُستخدَم ويُوظَّف. كما واكب هذا ما نسميه بالثورة التجريدية، وهي ثورة جعلت الإنسان قادراً على التعامل مع الأشياء من منظور مجرد عام حيث يهتم الإنسان بالقيمة التبادلية للأشياء لا بالقيمة المُتعيِّنة لها. ومن أهم مظاهر الثورة التجريدية ظهور قطع الغيار التي يتحتم أن تكون متشابهة تماماً وقياسية حتى يمكن إحلال (ترانسفير) قطعة غيار محل الجزء التالف في أي زمان ومكان. ولعل من المهم أن نشير إلى أن حركة الاكتشافات (الترانسفير من مكان إلى آخر)، والثورة التجريدية (الترانسفير من الخاص إلى العام)، وقطع الغيار (الترانسفير من قطعة إلى أخرى)، كلها مرتبطة بشكل أو آخر بالتطور العسكري لأوربا. فقطع الغيار، على سبيل المثال، تم تطويرها في أتون الحرب حيث كان من الضروري أن يقوم الجندي بتغيير التالف من بندقيته بسرعة حتى يمكنه استئناف القتال.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:59 AM
2 ـ بعد هذا الترانسفير الوجداني أو الفكري أو الإبستمولوجي (المعرفي) الأوَّلي، بدأت عملية الترانسفير الحقيقية. وقد تبدت عقلية الترانسفير في الحل الإمبريالي لمشاكل أوربا، أي تصدير هذه المشاكل من أوربا إلى الشرق ومن بينها المشاكل الاجتماعية. وكانت أولى هذه العمليات هي نقل الساخطين سياسياً ودينياً (البيوريتان) إلى أمريكا، والمجرمين والفاشلين في تحقيق الحراك الاجتماعي في أوطانهم إلى أمريكا وأستراليا. وتبعتها عمليات ترانسفير أخرى:

ـ نَقْل سكان أفريقيا إلى الأمريكتين لتحويلهم إلى مادة استعمالية رخيصة.

ـ نَقْل الهنود الحمر من مواطن سكناهم إلى مواقع أخرى أو إلى العالم الآخر (وعمليتا النَقْل مرتبطتان تماماً، إذ كان نَقْلهم إلى العالم الآخر يتم أحياناً عن طريق نَقْلهم من موقع إلى آخر).

ـ نَقْل جيوش أوربا إلى كل أنحاء العالم، وذلك للهيمنة عليها وتحويلها إلى مادة بشرية وطبيعية تُوظَّف لصالح الغرب.

ـ نَقْل الفائض البشري من أوربا إلى جيوب استيطانية غربية في كل أنحاء العالم، لتكون ركائز للجيوش الغربية والحضارة الغربية (فيما يُعَد أكبر حركة هجرة في التاريخ).

ـ نَقْل كثير من أعضاء الأقليات إلى بلاد أخرى (الصينيين إلى ماليزيا ـ الهنود إلى عدة أماكن ـ اليهود إلى الأرجنتين) كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني، إذ أن هذه الأقليات تشكل جيوباً استيطانية داخل البلاد التي تستقر فيها.

ـ نَقْل كثير من العناصر المقاتلة من آسيا وأفريقيا وتحويلهم إلى جنود مرتزقة في الجيوش الغربية الاستعمارية، مثل الهنود (وخصوصاً السيخ) في الجيوش البريطانية. وفي الحرب العالمية الأولى، تم تهجير 132 ألفاً من مختلف أقطار المغرب لسد الفراغ الناجم عن تجنيد الفرنسيين، بالإضافة إلى تجنيد بعضهم مباشرةً للقتال (وهذه هي أول "هجرة" لسكان المغرب العربي، وقد استمرت بعد ذلك تلقائياً).

ـ في هذا الإطار المعرفي الترانسفيري، تمت عملية الاستيطان الصهيونية التي هي في جوهرها تصدير لإحدى مشاكل أوربا الاجتماعية (المسألة اليهودية) إلى الشرق، فيهود أوربا هم مجرد مادة (فائض بشري لا نفع له داخل أوربا يمكن توظيفه في خدمتها في فلسطين)، والعرب أيضاً مادة (كتلة بشرية تقف ضد هذه المصالح الغربية)، وفلسطين كذلك مادة فهي ليست وطناً وإنما هي جزء لا يتجزأ من الطبيعة/ المادة يُطلَق عليه كلمة «الأرض». فتم نقل العرب من فلسطين ونقل اليهود إليها، وتمت إعادة صياغة كل شيء بما يتلاءم مع مصالح الإنسان الغربي.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:59 AM
3 ـ تَبدَّت عقلية الترانسفير في تصدير المشاكل الاقتصادية لأوربا، فكان يتم تصدير البضائع الفائضة والبضائع الكاسدة والبضائع الرديئة (مثلما تم تصدير المجرمين واليهود والساقطين سياسياً) إلى الشرق. وقد استمر النمط، فأخذ أشكالاً مختلفة لعل أهمها في الوقت الحاضر الشركات المتعددة الجنسيات التي تُشيِّد الصناعات التي تُسبِّب نسبة عالية من التلوث في العالم الثالث. كما أن الغرب يقوم بدفن العوادم الصناعية الملوثة في العالم الثالث (أي أنه يقوم بعملية ترانسفير لها).

4 ـ من الأشكال المهمة للترانسفير ما تم في عصر الإصلاح الديني وهو ترانسفير معرفي/لغوي، إذ قام المصلحون الدينيون البروتستانت بنقل المفاهيم الدينية من المستوى المجازي الذي يفترض وجود مسافة أو ثغرة بين الدال والمدلول (فالدال كلمة محددة، أما المدلول فإنه يضم المعلوم والمجهول، والمحدود واللامحدود، والمقدَّس والمدنَّس) إلى المستوى الحرفي المادي. ومن ثم تحوَّلت " صهيون " إلى رقعة جغرافية اسمها فلسطين، وتحول التطلع الديني لها (حب صهيون) إلى حركة نحو استيطانها، وتحولت " أورشليم " السماوية (مدينة الإله) إلى القدس الأرضية (عاصمة فلسطين) التي يجب الاستيلاء عليها. وهذا الترانسفير اللفظي هو المقدمة للترانسفير الفعلي (الحركة الصهيونية ـ الأصولية البروتستانتية المتطرفة).


5 ـ تَبلور الترانسفير، كنمط إدراكي، مع هيمنة عقيدة التقدم على الإنسان الغربي. فالتقدم هو حركة دائمة، انتقال من مكان إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، وأصبح الهدف من الحياة هو التقدم/الترانسفير الدائم. ويُلاحَظ أن لفظ التقدم هو دال بلا مدلول تقريباً، إذ إن الإنسان الغربي لم يُعرِّف على وجه الدقة الهدف النهائي من التقدم وكل ما هناك أهداف مرحلية لا متناهية. وعلى هذا، فإن الترانسفير، مثل التقدم، كلمة تشير إلى حركة بلا مضمون.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:59 AM
6 ـ يُلاحَظ أن فكرة الترانسفير قد تَجذَّرت تماماً في الوجدان الغربي الحديث بحيث لا يستطيع الإنسان الغربي رؤية الطبيعة البشرية نفسها إلا في إطار الترانسفير. ولعل قمة العقلية الترانسفيرية تظهر في تعريف البروفسور ماكس لرنر (وآخرين) للإنسان الحديث بأنه إنسان قادر على تغيير منظومته القيمية بعد إشعار قصير، أي أن الإنسان كائن حركي يمكنه أن ينجز الترانسفير من منظومة قيمية إلى أخرى بسرعة، ولا يمارس أي ولاء عميق لأي شيء، ولا يشعر بأي ألم أو وخز ضمير إن غيَّر ولاءاته وهويته وشخصيته وأهواءه (ومن المعروف أن المغنية مادونا، قمة ما بعد الحداثة، تقوم بتغيير شخصيتها مرة كل ثلاث سنوات). وفي هذه الموسوعة، نعرِّف التحديث بأنه رفض كل العلاقات الكونية والثابتة (مثل علاقات القرابة) والقضاء عليها، ورفض المطلقات والثوابت كافة، وإخضاع كل العلاقات للتفاوض وكل القيم للتداول (الترانسفير)، الأمر الذي يحقق للإنسـان الحديث حركية عالية وكفـاءة منقطعة النظير في أداء أية مهمة توكل إليه.

7 ـ بل يمكن القول بأن الترانسفير قد انتقل كذلك إلى المنظومة المعرفية فيما يُسمَّى «النسبية المعرفية»، حيث يرفض الإنسان أي يقين معرفي ويرضى بالجزئيات، فينقل إيمانه من حقيقة إلى أخرى. وهنا، فإن ما يشكل المعرفة بالنسبة له ليس الحقيقة الكلية وإنما حقائق جزئية متغيرة متلاحقة.

8 ـ ويُعبِّر الترانسـفير عن نفسه في المنظومة الجمالية، إذ تظهر أزياء كل سنة بحيث لا تكون لها علاقة بأزيـاء الماضي، ولذا فإن الإنسان يتعيَّن علىه تغيير ملابسه باستمرار، وتظهر كل أسبوع أغنية جديدة يسمعها الإنسان الغربي (والآن الشرقي) ثم ينساها. ويظهر موديل سيارة جديدة كل عام، فيغير الإنسان (في المجتمعات التي يُقال لها متقدمة) سيارته مرة كل ثلاثة أعوام. ولعل انتشار الجراحات التجميلية هو تعبير عن نفس الظاهرة، حيث يُغيِّر الإنسان وجهه ويختار وجهاً جديداً (يُعرَض له أحياناً مسبقاً على شاشة الكمبيوتر) ويقوم بتعديله مع أحد الخبراء ثم يتم تنفيذه. ويمكن رؤية قطاع كامل من الطب (عدسات لاصقة ملونة ـ نهود صناعية... إلخ) كتعبير عن الظـاهرة نفسـها. والإيمان الأعمى بالتجريب في الفن هو أيضاً نوع من أنواع الترانسفير، حيث لا يقنع الفنان بشكل فني واحد مستقر وإنما يجب أن يبحث عن شكل جديد.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:59 AM
9 ـ أصبح الشكل الحضاري الأساسي هو الترانسفير، فحضارة الفوارغ والنفايات (بالإنجليزية: ديسبوسابل disposable) والتآكل المُخطَط (بالإنجليزية: بلاند أوبسولسنس planned obsolescence) هي في جوهرها حضارة ترانسفير. يشرب الإنسان زجاجة عصير أو مياه غازية ويلقي الزجاجة الفارغة، ويأكل الساندويتش ويلقي بكمية هائلة من الأوراق التي تغلفه. ويشتري سيارة لتصبح بالية بعد سنتين أو ثلاث فيضطر لشراء سيارة جديدة، وهو يفعل ذلك حتى تزداد حركيته وتزداد مقدرته على الانتقال (الترانسفير) من مكان إلى آخر بكفاءة بالغة. وهي أيضاً حضارة التغليف (بالإنجليزية: باكيجنج packaging)، حضارة الظـاهر اللامـع دون باطن، ولكنه ظـاهر لامـع يتم تلميعه بدرجات مختلفـة.

10ـ انتقل الترانسفير إلى رؤية الذات، فالإنسان الغربي داخل إطار المرجعية المادية قادر على رؤية ذاته باعتبارها مادة استعمالية لا قداسة لها يمكن توظيفها دون أي احتجاج من جانبه. فهو، مثلاً، يشتري المنزل (الذي يشكل نقطة الثبات في حياة كثير من البشر والمأوى الدائم لهم) ويراه استثماراً، وقد أصبح المنزل هو أهم استثمار بالنسبة للأمريكيين، والاستثمار الوحيد لغالبيتهم. وبدلاً من أن يعيش في منزله ويستقر فيه ويعيد صياغته بشكل يتفق مع احتياجاته وهويته فإنه يبيعه ليحقق ربحاً بعد فترة وجيزة (في الولايات المتحدة مثلاً يغير كل مواطن منزله مرة كل خمسة أعوام). لهذا السبب أصبح معمار المنازل محايداً (أربعة جدران محايدة وسقف أكثر حياداً)، وفقد أية خصوصية، وذلك حتى يمكن لصاحبه أن يتركه وينتقل منه (ترانسفير) ويبيعه لشخص آخر بسهولة ويسر ويحقق ربحاً عالياً (أليست هذه هي حضارة الفوارغ؟).

11 ـ ولا يعود تغيير المنزل إلى الرؤية الاستثمارية وحسب بل إلى أن الكثيرين يغيرون محل عملهم حتى يحققوا ما يطمحون إليه من حراك اجتماعي. وتُعَد الحركة الدائمة أحد مظاهر التحديث، ولعل الحركة اليومية للملايين من مكان إلى مكان، وحركة ملايين السياح من بلد لآخر، تعبير آخر عن هذا. وفي أحيان كثيرة، يكون مجرد المل والرغبة في التغيير هو مصدر الأوتو ترانسفير أو الترانسفير الذاتي. ويمكن القول بأن السائح شخصية علمانية نماذجية، فهو إنسان حركي لا يؤمن بالثوابت أو المطلقات، يجمع في شخصيته ثنائية الإنسان الاقتصادي (الذي يراكم المال) والإنسان الجسماني (الذي يندفع لإنفاقه بشراهة). وهو حينما ينتقل إلى بلد (ترانسفير)، فإن كل همه هو الاستهلاك وتحقيق المتعة لنفسه (اللذة) دون أية اعتبارات إنسانية. أما المجتمع الذي يستقبله، فلا ينظر إليه إلا باعتباره مصدر مال (المنفعة)، أي أنه ينزع القداسة عن المجتمع المضيف ويقوم المجتمع المضيف بنزع القداسة عنه.

12 ـ يُطبَّق الترانسفير على الذات حينما يتحرك المسنون في المجتمعات الغربية في إطار المرجعية المادية ويقبلون أن يُنقَلوا إلى بيوت المسنين، أو إلى مدن تشكل جيتوات خاصة بهم، حين يبلغون السن القانونية ويستنفدون عمرهم الإنتاجي الافتراضي، يمكثون فيها حتى تحين ساعتهم. وهم يفعلون ذلك عن طيب خاطر ويسعون إليه ويسعدون به مادامت المنازل التي سيُودَعون فيها مكيفة الهواء وتحتوي على وسائل الراحة المادية كافة.