المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 [47] 48 49 50 51 52 53 54

ساجدة لله
2010-10-23, 07:00 AM
13 ـ وبحسب رأينا، فإن الترانسفير الذي يُطبَّق على العجائز في الغرب يَصدُر تقريباً عن المقولات الترانسفيرية نفسها التي تَصدُر عنها الإبادة النازية لليهود والعجزة والغجر والسلاف وغيرهم. فالنازية كانت تنظر للبشر في إطار المرجعية المادية وفي ضوء مدى «نفعهم» فمن كان نافعاً منتجاً أصبح من حقه البقاء وغير قابل للترحيل، أما غير النافعين فهؤلاء «أفواه تستهلك ولا تنتج» ومن ثم فلا فائدة ترجى من إطعامها (بالإنجليزية: يوسليس إيترز useless eaters)، وكان يتم تدريب بعضهم ليصبح نافعاً مُنتجاً. أما هؤلاء الذين لا أمل في تحويلهم لمنتجين، فكانوا يُصنَّفون باعتبارهم يهوداً قابلين للترحيل (بالإنجليزية: ترانفسيرابل tranferable) ويمكن التخلص منهم (بالإنجليزية: ديسبوزابل disposable). وقد سُوِّيت حالة هؤلاء عن طريق الترحيل إلى معسكرات السخرة والإبادة (حيث يتم القضاء عليهم عن طريق العمل المُجهد المتواصل أو عن طريق التسخين السريع في أفران الغاز) وهذا لا يختلف كثيراً عن ترحيل العجائز إلى بيوت المسنين عند انتهاء عمرهم الافتراضي الإنتاجي، حيث يُترَكون في أمان ليموتوا عن طريق التبريد البطيء المريح.


14 ـ ويمكن اعتبار الجنس العَرَضي (أي أن يعاشر الذكر الأنثى دون وجود علاقة عاطفية تتسم بقدر من الثبات بينهما) شكلاً من أشكال التنقل (الترانسفير) من أنثى إلى أخرى، وذلك لأن الأنثى مادة استعمالية لا قداسة لها تُوظَّف لتحقيق اللذة. ولكن يجب أن نسارع ونقول (حتى لا نُتَهم بالتقليل من شأن المرأة) أن الذكر الذي يدخل في مثل هذه العلاقة هو الآخر مادة استعمالية تُوظِّفها الأنثى لتحقيق اللذة لنفسها، فثمة مساواة كاملة تؤدي إلى التسوية الكاملة وإلى سيادة المرجعية المادية الصارمة على الجميع.

ساجدة لله
2010-10-23, 07:00 AM
15 ـ يتحدثون في الغرب الآن عن «التفضيل أو الميل الجنسي» (بالإنجليزية: سكشوال بريفيرنس sexual preference) بدلاً من الطبيعة الجنسـية الثابتة للإنسـان، بمعنى أن الإنسـان يختار الممارسـات أو الهوية الجنسية التي يميل لها. فإذا كان المرء ذكراً، فيمكنه أن يمارس الجنس مع ذكر مثله، فهو جنسمثلي أو شاذ جنسياً (بالإنجليزية: هوموسكشوال homosexual) مثل فوكوه الفيلسوف الفرنسي. وإذا كان المرء أنثى، فهي تمارسه مع أنثى مثلها، فهي مساحقة (بالإنجليزية: لزبيان lesbian) مثل كثير من زعيمات حركة التمركز حول الأنثى. وهناك من يفضل الآن ممارسة الجنس مع الحيوانات (بالإنجليزية: زوفيليا zoophilia)، ويُقال إن فيلسوف النفعية جريمي بنتام كان يحب ملاعبة القرود بطريقة جنسية، كما أن هناك من يفضل ممارسة الجنس مع الأطفال (بالإنجليزية: بيدوفيليا pedophilia) كما يُقال عن مايكل جاكسون. ويمكن إضافة أذواق غير معروفة في البلاد المتخلفة، مثل «ترانسفستايت transvestite» وهو الميال إلى ارتداء أزياء الجنس الآخر والتشبه بسلوكه، و«أندروجيناس androgynous» وهو الخنثى الذي لا يمكن تصنيفه ذكراً أو أنثى (ويؤكد مايكل جاكسون هذا المظهر في هويته). وهناك «ترانس سكشوال transsexual» وهو شكل طريف جداً بدأ يظهر مؤخراً في الغرب، فهو مثلاً رجل يصر على أن يكون امرأة، بل يحاول أن تُجرَى له عملية جراحية ليصبح من الجنس الآخر (والعكس بالعكس). وكل من شاهد فيلم "صمت الحملان" رأى عيِّنة من ذلك، فالمجرم الذي اختطف الفتاة يحاول أن يخيط لنفسه بدلة من جلدها (وجلد غيرها من الإناث) حتى يصبح له ثديان مثل الإناث تماماً (ويُلاحَظ ظهور السابقة «ترانس» في بعض الكلمات). ونضيف إلى هذه القائمة الترانسفيرية «أسكشوال asexual» وهو المحايد جنسياً تماماً. وهناك أخيراً (حتى لا ننسى الأصل) «هيتروسكشوال heterosexuel» وهم البشر التقليديون العاديون الذين يختارون أن يشتهوا أعضاء من الجنس الآخر (وإذا أردنا أن نتوخى الدقة تماماً ، فإن علينا أن نُسقط كلمة «الأصل» لأن المساواة تحت رايات ما بعد الحداثة تصل إلى درجة إنكار الأصل والمركز تماماً).

ساجدة لله
2010-10-23, 07:00 AM
16 - وإذا كان الترانسفير قد انطبق على أمور لا يزال بعضنا يظنها جوهرية وطبيعية وفطرية مثل الجنس، فإنه ينطـبق من باب أولى على التنظـيم الاجـتماعي. ويُلاحَظ أن الأسـرة قد اختلفت أشكالها (تماماً مثل الميول الجنسية)، ففي الماضي كان هناك الأسرة الممتدة التي تضم ثلاثة أجيال ثم انكمشت إلى الأسرة النووية التي تضم رجلاً وزوجته وطفليهما (ويستحسن أن يكون الطفلان ذكراً وأنثى حتى يتمكن المجتمع من إعادة إنتاج نفسه). أما الآن، فقد أصبحوا (في الولايات المتحدة) يسمون الأسرة النووية «الأسرة الأساسية» (بالإنجليزية: كور فاميليcore family ) ويشيرون إلى أنماط أخرى من الأسر. ويُلاحَظ أن هذه الأسرة الأساسية أصبحت أقلية إذ توجد أنواع أخرى، مثل: أب مع أطفاله ـ أم بمفردها مع أطفالها ـ أب وعشيقته مع أطفاله/أو أطفالها أو أطفالهما ـ أم وعشيقها مع أطفالها/أو أطفاله أو أطفالهما ـ أم وصديقتها مع أطفالها أو أطفالهما ـ أب وصديقه مع أطفاله أو أطفالهما. وقد قرأنا منذ عدة شهور عن أسرة من نوع الكور فاميلي الثابت الراسخ، إلا أن تعديلاً طفيفاً دخل عليه إذ انضم للأسرة عشيق الأب ووافقت الأم على ذلك (فمن الواضح أنها تتمتع بعقلية ترانسفيرية منفتحة) وأصبح تركيب الأسرة على النحو التالي: أم وأب وصديقه وأطفالهم (أي سقط المثنى وسقطت الثنائية والمركزية والمرجعية).

17 ـ ويصل الترانسفير إلى قمته ويتم تكريسه تماماً عندما يختفي مفهوم الطبيعة البشرية في العلوم الإنسانية الغربية (كيف يمكن أن يقوم مثل هذا المفهوم في مثل هذا المجتمع؟) ويصبح من الرجعية بمكان الاهتمام بأية مطلقات أو ثوابت إنسانية أو مرجعية. فالإنسان هو مجموعة من العلاقات المادية المتغيرة التي يمكن تعريفها إجرائياً وحسب.

ساجدة لله
2010-10-23, 07:00 AM
18 ـ كما يصل الترانسفير إلى قمته، على مستوى الممارسة، فيما يُسمَّى بتنميط المجتمع (بالإنجليزية: ستاندردايزيشن standardization)، وهو أن يتم تنميط السلع في المجتمع وإخضاعها للنموذج الميكانيكي. وبعد أن يتم تنميط الحياة المادية (البرانية)، يبدأ تنميط الحياة النفسية (الجوانية). ويظهر هذا فيما نسميه «صناعة اللذة» التي تقوم بتنميط أحلام الإنسان ورغباته وتطلعاته وشهواته من خلال الأفلام والإعلانات والمجلات الإباحية وغير الإباحية. وعملية التنميط تعبير منطقي عن عمليات الترشيد في إطار المرجعية المادية. ومع تنميط حياة الإنسان البرانية والجوانية، نكون قد وصلنا إلى الترانسفير الكامل للإنسان، ليصبح كزجاجة الكوكاكولا أو قطعة الغيار، فيمكن نقله من مكان إلى آخر، ويمكن التخلص منه دون أي إحساس بالمأساة أو الملهاة، وهذه هي اليوتوبيا التكنولوجية الكاملة أو الفردوس الأرضي أو نهاية التاريخ.

19 ـ والنظام العالمي الجديد هو تعبير عن تَصوُّر العالم الغربي أن إبستمولوجيا الترانسفير والمرجعية المادية قد هيمنت تماماً على العالم بأسره، وأنها قد غزت البلاد والشعوب والعقول كافة (أو على الأقل عقول النخب الحاكمة) وأن الجميع على استعداد لأن يغير قيمه بعد إشعار قصير، وعلى استعداد لاستبعاد القيم الأخلاقية مثل الكرامة والتمسك بأرض الأجداد والدفاع عن المطلقات. فمثل هذه القيم تجعل نقل الأنماط الاستهلاكية، وانتقال رأس المال (في شكل الشركات متعددة الجنسيات)، وتنفيذ توصيات البنك الدولي، أمراً صعباً. ويتوهم الغرب أننا قد وصلنا لهذه المرحلة التي تُستبعد فيها القيم الثابتة بسهولة ليتبنى المرء أية قيم أخرى. وقد جاء شمعون بيريس، حينما كان يشغل منصب وزير خارجية إسرائيل، إلى القاهرة وجلس مع بعض المثقفين المصريين وأخبرهم بأن المسألة كلها تجارة في تجارة، فالجميع يدورفي إطار المرجعية المادية. فالديموقراطية تجارة، والأوطان بوتيكات وفنادق، والإنسان وحدة اقتصادية يمكن نقلها (ترانسفير). وكما قال أحد المثقفين المصريين "كل الدول تود أن تكون سنغافورة"، وهي بلد لا تشتهر بهويتها أو قيمها أو إسهاماتها الحضارية، وإنما بالسوبرماركتات والمقدرة المذهلة على البيع والشراء، أي أنه بلد يدور تماماً في إطار المرجعية المادية.

ساجدة لله
2010-10-23, 07:00 AM
20 ـ يمكن أن نتوجه لقضية علاقة الدال بالمدلول لندرك مدى تغلغل مفهوم الترانسفير في أكثر الأشياء ثباتاً، أي اللغة الإنسانية. فمنذ عصر النهضة في الغرب، كان ثمة إيمان عميق بأن كل شيء خاضع للتغير، ولا يوجد ثابت سوى قانون الحركة. ولابد من الإيمان المطلق والثابت بضرورة التغيير (فهذه هي حضارة التقدم). ويُعبِّر هذا عن نفسه في فلسفة مثل الداروينية والنيتشوية حيث يصبح العالم كياناً متطوراً متغيراً ولا يوجد فيه ثبات إلا للقوة، فمن خلال القوة يستطيع الإنسان أن يفرض المعنى الذي يريده. وقد بيَّن هوبز أن الدولة هي المعرِّف الأكبر (بالإنجليزية: جريت ديفاينر great definer)، فمن خلال سـطوتها يمكنها أن تمنـح الدلالة للكلمات، فكأن الدال لا عـلاقة له بالمدلول إلا من خـلال القوة. وهناك الجـانب الآخر من نفس القضـية وهو البرجـماتية (نيتشوية الضعفاء)، وهي فلسفة تدعو للتكيف الدائم مع الأمر الواقع. كما أن هذه المرونة الترانسفيرية تعني تَقبُّل تعريف الأقوياء للكلمات، بل إعادة تسميتها حتى تكتسب شرعية جديدة، ومن ثم تصبح «فلسطين» «إسرائيل» وتصبح «الضفة الغربية» «يهودا والسامرة». وينطبق نفس الشيء على كثير من الظواهر التي يتكيف معها المهزومون ممن لا حول لهم ولاقوة. فالأطفال غير الشرعيين كانوا يُسمَون بهذا الاسـم. ولكنهم، من خلال التكيف، أصبحوا يـسمون «أطفال أم غير متزوجة» (بالإنجليزية: أنويد مذر unwed mother)، ثم أصبح يُطلَق عليهـم «أبناء أسـرة ربها إما أب أو أم» (بالإنجليزية: سنجل بيرنت فاميلي single parent family)، ثم اكتسبوا أخيراً اسماً حتمياً لطيفا هو «أطفال طبيعيون» (بالإنجليزية: ناتشورال بيبيز natural babies)، وهو أمر يعني أن الحادث تم قيده ضد مجهول أو أنه ثمرة الطبيعة/المادة. وأخيراً أصبحوا يسمون «لاف بيبيز love babies» وهي عبارة إنجليزية مبهمة. فكلمة «love» الإنجليزية تعني «حب» كما تعني «جنس» (كما في عبارة «تو ميك لاف to make love» الإنجليزية، والتي يترجمها بعض البلهاء بعبارة «يتعاطى الحب» مع أنها تعني في واقع الأمر أموراً لا علاقة لها بالحب أو الكره)، ومن ثم فهم «أبناء الحب/الجنس». ومهما كان المعنى المقصود، فإن العبارة الجديدة تُخفي الأصول وتجعل ظاهرة الأطفال غير الشرعيين ظاهرة طبيعية تماماً، أي أن الانتقال (الترانسفير) تم من الحرام والحلال إلى الحياد، تماماً مثلما أصبحت البغيّ «عاملة جنس» (بالإنجليزية: سكس وركر sex worker). وأثناء هذه العملية، تنحل علاقة الدال بالمدلول تماماً.

ساجدة لله
2010-10-23, 07:00 AM
21 ـ ومادمنا نتحدث عن الترانسفير المعرفي الإبستمولوجي، فيمكن أن نُعرِّف الترانسفير بأنه أولاً هيمنة المرجعية المادية (في عصر الثنائية الصلبة) ثم اختفاء المرجعية والمركز، أية مرجعية وأي مركز، بحيث لا يكون هناك هامش أو مركز، ولا قمة ولا قاع، ولا داخل ولا خارج، ولا فارق بين إنسان وحيوان، ولا علاقة ضرورية بين دال ومدلول (يتحدث أنصار ما بعد الحداثة عن رقص الدوال). وهذا وصف دقيق لعالم ما بعد الحداثة حيث لا يمكن لكائن أن يشغل مكاناً متميِّزاً، وحيث كل الأمور متساوية وكل الظواهر نسبية، وحيث الأصل والصورة هما شيء واحد، وحيث يمكن أن يحل شيء محل شيء آخر وتحل كلمة محل كلمة أخرى. وبهذا المعنى، يمكن القول بأن ما بعد الحداثة هي أيديولوجيا النظام العالمي الجديد حيث ينزلق الجميع من السوق إلى المصنع، ومن المصنع إلى السوق، تماماً كما بشَّر بذلك وزير خارجية إسرائيل.

ساجدة لله
2010-10-23, 07:00 AM
نهاية التاريخ
«نهاية التاريخ» (بالإنجليزية: إند أوف هستوري end of history) عبارة تعـني أن التاريخ، بكل ما يحويه من تركـيب وبسـاطة، وصيرورة وثبـات، وشوق وإحباط، ونبل خساسة، سيصل إلى نهايته في لحظة ما، فيصبح سكونياً تماماً، خالياً من التدافع والصراعات والثنائيات والخصوصيات، إذ إن كل شيء سيُردُّ إلى مبدأ عام واحد يُفسِّر كل شيء (لا فرق في هذا بين الطبيعي والإنساني). وسيُسيطر الإنسان سيطرة كاملة على بيئته وعلى نفسه، وسيجد حلولاً نهائية حاسمة لكل مشاكله وآلامه.

ونحن نرى أن هذا المصطلح ينتمي إلى عائلة كاملة من المصطلحات الأخرى التي تصف بعض جوانب منظـومة الحداثة الغـربية والتي تعني انتهاء شيء ما والقضاء عليه، وهذا الشيء في غالب الأمر هو الجوهر الإنساني، كما نعرفـه، وكما ظهر مُتعيِّناً في التـاريخ. وقد أشـرنا لبعضـها في المداخل السابقة، ولكن أهمها هو مصطلح «دي كونستراكت deconstruct» بمعنى «يفكك» أو «يقوِّض». كما يمكن أن نضع مصطلح «نهاية التاريخ» مع المصطلحات التي تبدأ بالكاسحة «post» والتي تعني حرفياً «بعد» ولكنها تعني في واقع الأمر «نهاية أو تَحوُّل جوهري كامل» مثل: «بوست مودرن post-modern» بمعنى «ما بعد الحداثة»، و«بوست إندستريال post-industrial» بمعنى «ما بعد الصناعي»، و«بوست كابيتاليست post-capitalist» بمعنى «ما بعد الرأسمالي» وأخيراً «بوست هيستوريكال post-historical» بمعنى «ما بعد التاريخ» التي تعني في واقع الأمر «نهاية التاريخ».

ويُلاحَظ ـ ابتداءً ـ أن ثمة اختلافاً عميقاً بين مفهوم نهاية التاريخ (الحلولي الدنيوي) ومفهوم يوم القيامة (التوحيدي). فيوم القيامة نقطة تقع خارج الزمان، في الآخرة، يتجه نحوها الزمان ويتم فيها الحساب. وهو ما يعني أن الزمان التاريخي لن يصبح في يوم من الأيام خالياً من الصراع والتدافع، أي أن ثمة ثنائية لا تُمحى ولا تُردُّ إلى غيرها وأن التاريخ رغم فوضاه له هدف وغاية. أما نهاية التاريخ، فتتحقَّق داخل الزمان الإنساني وعلى الأرض، حين يؤسِّس الإنسان الفردوس (صهيون ـ مملكة المسـيح ـ المهـدي المنتظر ـ اليوتوبيا التكنولوجية) داخل الزمان، فهو فردوس مادي أرضي. ولذا يمكن القول بأن نهاية التاريخ تعني في واقع الأمر نهاية التاريخ الإنساني المركب، بكل ما فيه من تعاريف وتدافع، كي يبدأ تاريخ بسيط أحادي يتسم بالانتظام الشديد (تشبه بنيته بنية التاريخ الطبيعي).

والنظم الحلولية (الروحية والمادية) نظم مغلقة، تُفضي إلى نهاية التاريخ، ففي وحدة الوجود الروحية يحل الإله في الطبيعة وفي الإنسان فيستوعبهما في ذاته ويصبح كل شيء تعبيراً عن الإله وتجسيداً له (ولا موجود إلا هو)، فينتهي التاريخ ويُلغى الزمان ويتحول إلى دورات متـكررة؛ بداياته تشـبه نهاياته، وتشبه كل دورة كونية الدورات الأخرى (فهو عود أبدي رتيب). أما في إطار وحدة الوجود المادية، فإن الإله يحل في الإنسان والطبيعة ويُستوعَب فيهما، ويصبح لا وجود له إلا من خلالهما. ثم تُعاد تسميته ليصبح «قانون الحركة» أو «قانون الضرورة» أو «قوانين الطبيعة/المادة»، التي يُردُّ لها كل شيء، ومن ذلك الظواهر الإنسانية، (ولا موجود إلا هي). ومن يعرف هذه القوانين يصل إلى المعرفة التي تمكِّنه من التحكم في العالم وفي إنهاء التاريخ الإنساني والزمان وفي بدء التاريخ الطبيعي وتأسيس الفردوس الأرضي. فكأن وحدة الوجود الروحية تتحول، من خلال إعادة التسمية، إلى وحدة وجود مادية، معادية للإنسان ولاستقلاله عن عالم الطبيعة/المادة من حوله، ومعادية للتاريخ، مجال حرية الإنسان وساحة نجاحه وفشله.

ساجدة لله
2010-10-23, 07:01 AM
وتتضـح وحدة الوجود الروحية في العقائـد المشـيحانية (المهدوية) الدينية، فالعقيدة المشيحانية ـ على سبيل المثال ـ تضع اليهود في مركز التاريخ، ويدور التاريخ البشـري بأسره (تاريخ اليهود وتاريخ الأغيار) حولهم. ويتركز الغرض الإلهي في اليهود (شعب الله المختار) الذين سيُعانون كل الآلام إلى أن يأتي الماشيَّح ويقضي على أعدائهم ويضع حداً لآلامهم فيجمعهم من شتات الأرض ويعود بهم إلى صهيون ليؤسس مملكته هناك حيث يتحقق السلام الكامل والفردوس الأرضي. إلا أن التاريخ، كما يقول المفكر الصهيوني موسى هس، سيصبح مثل الطبيعة في العصر المشيحاني (سبت التاريخ أو نهايته)، ويصبح الإنساني والتاريخي في بساطة الطبيعي. وبالفعل لن يشهد العصر المشيحاني الألفي إصلاح المجتمع الإنساني وحسب وإنما سيشهد أيضاً تَحوُّل قوانين الطبيعة ليتم التوافق الكامل بين الطبيعة والإنسان.

وتضع النظم التي تدور حول وحدة الوجود المادية، هي الأخرى، نهاية للتاريخ، فمن البداية يُفسَّر التاريخي والاجتماعي والإنساني في إطار الطبيعي/المادي ويُردُّ كل شيء إلى الطبيعة/المادة. وإذا كان هناك مشيحانية (مهدوية) تدور في إطار وحدة الوجود الروحية فهناك أيضاً مشيحانية دنيوية، علمية أو علموية، تدور في إطار وحدة الوجود المادية. فهناك من يرى أن المعرفة العلمية هي المعرفة التي ستمكِّننا من السيطرة على قانون الضرورة وتأسيس صهيون العلمية، أي اليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية. ويَصدُر هؤلاء من رؤية علمية (أو علموية) ضيقة تدور في إطار السببية الصلبة، ويتصورون أن العلم سيؤدي إلى معرفة يقينية شاملة كاملة. (ومن المفارقات أن كل هذه التصورات فقدت مصداقيتها في الأوساط العلمية التي أصبحت تدرك لاتَحدُّد العلوم الطبيعية واحتماليتها. ومع هذا، لا تزال مثل هذه التصورات سائدة في بعض الأوساط بين دارسي العلوم الإنسانية التي لا تزال تتبنَّى منظوراً علمياً سببياً صلباً عفى عليه الزمان)

إن إشكالية نهاية التاريخ إشكالية كامنة في الفكر الديني والفلسفي الغربي، ولكنها تحولت إلى موضوع أساسي في الحضارة الغربية منذ عصر النهضة. واتضحت بشكل متبلور مع ظهور فكرة اليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية، التي تنسلخ عن التاريخ الإنساني لأنها تُدار وفق العقل الذي يُدرك القانون أو العلم الطبيعي الذي لا علاقة له بالقوانين الاجتماعية والتاريخية والإنسانية (لأن قوانين العقل تماثل قوانين الطبيعة)، فاليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية، من ثم، تعبير عن رغبة حقيقية وصادقة في وضع الحلول النهائية لكل المشاكل وتأسيس الفردوس الأرضي وإنهاء التاريخ.

ساجدة لله
2010-10-23, 07:01 AM
ويوتوبيا عصر النهضة في الغرب هي إرهاصات لهذا الفكر التكنوقراطي الحديث والرغبة في التحكم الكامل النابعة من الرؤية الواحدية المادية. ومن أهم هذه اليوتوبيات يوتوبيا سير توماس مور (1478 ـ 1535) الذي وصف نظاماً تسوده الملكية العامة وعلاقات المساواة والتسوية وتُلغَى فيه مؤسسة الأسرة. ومن اليوتوبيات الأخرى، يوتوبيا توما كمبانيلا (1568 ـ 1639) الذي صوَّر مجتمعاً طوباوياً اشتراكياً في كتابيه دولة المسيح ومدينة الشمس تسقط فيه الملكية الخاصة وتنتهي الأسرة وتقوم الحياة الجماعية وتنتهي الفردية تماماً، إذ يتم تخطيط كل شيء ومراقبة كل الأفراد والوفاء بحاجاتهم المادية والروحية، وهو ما يريح الإنسان من عبء المسـئولية والاختيار ويحل المشكلات والتناقضـات الاجتماعية والتاريخـية كافة. ومدينة الشـمس انعكاس لعالم الطبيعة، التي لا يحكمها سوى القوانين الطبيعية، وأعظم الرجال هو من يفهم هذه القوانين ويوظفها. ويحكم كل هذا الساحر/الكاهن (العالم والتكنوقراط) الذي يوجِّه حياة المدينة لتكون على وفاق تام مع الكون والطبيعة. ولذا، كان من الهموم الأساسية للمدينة تحديد اللحظة المناسبة (من الناحية الفلكية) التي يعاشر فيها الذكر الأنثى حتى تضمن أن يولد طفل صحيح (من الناحية البدنية) متوازن (من الناحية النفسية)، أي أن مدينة الشمس يوتوبيا علمية كاملة، رحم اجتماعي جمعي، يتم فيه التحكم في ظاهر الإنسان وباطنه (ومن المثير أن كامبانيلا كان يؤمن بمقدراته المشيحانية، فكان يعتقد أن النتوءات السبعة على وجهه تمثل السماوات السبع، أي أن له علاقة بالقوى الكونية. كل هذا يجعله رائداً للشخصيات الكاريزمية النيتشوية الحديثة مثل روبسبيير وهتلر وستالين المرتبطين باليوتوبيا التكنولوجية والتكنوقراطية). أما يوتوبيا سير فرانسيس بيكون (1561 ـ 1626) أطلانطيس الجديدة ، فهي يوتوبيا علمية نماذجية إذ يحكمها العلماء وأصحاب الخبرة (من بيت سليمان) حيث توجه الدولة كل شيء ولا يوجد مجال للتناقضات والاختلافات.

ورغم أن كل هذه اليوتوبيات متفائلة فإنها وثيقة الصلة بكتاب هوبز التنين ، حيث قـدَّم هو الآخـر رؤية للـدولة التي يمكنها أن تتحكم في كل شيء، وتُوجِّه كل شيء، وتضع حلولاً نهائية لسائر المشاكل، ولذا فهي تحل محل الضمير الشخصي. والفارق أن هوبز كان يرى أن إمكانية الإنسان للشر ضخمة، أما اليوتوبيون فلم تكن عندهم نظرية في الشر. وتتبدَّى الرغبة نفسها في إنهاء التاريخ في الفكر المادي الرياضي الآلي الذي يرفض تنوُّع التاريخ وجدليته ويُحل محله عالماً بسيطاً آلياً يتحرك كالآلة أو الساعة الدقيقة (صورة نيوتون المجازية)، وتتحرك فيه الأجسام الإنسانية كالأحجار المندفعة (صورة إسبينوزا المجازية)، ويصبح عقل الإنسان صفحة مادية بيضاء (صورة لوك المجازية)، ويصبح الإنسان في نسق الآلة وبساطتها (صورة جوليان دي لامتري المجازية)

ساجدة لله
2010-10-23, 07:01 AM
ويظهر رفض التاريخ الإنساني بطريقة أكثر صقلاً في فكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من تأكيد أن التاريخ نشاط إنساني، فهو ثمرة جهد عقل الإنسان ومستودع حكمته. ولذا فهناك نزعة في فكر الاستنارة لتمجيد التاريخ وتقديسه. ولكن العكس صحيح أيضاً فقوانين العقل هي نفسها قوانين الطبيعة والمادة والحركة، والعقل المستنير لا يستمد معياريته من التاريخ أو الحضارة أو المجتمع وإنما من خلال الدراسة العلمية الصارمة لقوانين الطبيعة والمادة والحركة. ولذا بدلاً من الغائية التقليدية التي ترى أن التاريخ يسير بتوجيه إلهي، طُرحت فكرة جديدة تماماً على الفكر البشري وهي أن التاريخ يتحرك إما دون غائية، فهو حركة دون هدف (تماماً مثل الطبيعة/المادة)، أو أن غائيته مثل معياريته مستمدة من الطبيعة/المادة. وغني عن القول أن الرؤية الأولى تنسف فكرة التاريخ تماماً. أما الرؤية الثانية فقد ترجمت نفسها إلى رؤية للتاريخ باعتباره عملية تَقدُّم دائمة، ولكنه تَقدُّم مرجعيته النهائية الطبيعة/المادة، وهدفه النهائي تَحقُّق قوانينها في التاريخ، ومن ثم يصبح التقدم تزايد تطبيق القوانين الطبيعية إلى أن تسود هـذه القـوانين تماماً (ويصبح المجتمع الإنساني في بساطة عالم الطبيعة ويحل التاريخ الطبيعي محل التاريخ الإنساني).

وقد عبَّرت هذه الرؤية الاستنارية عن نفسها في كل من الهيجلية والفلسفات التي ثارت على الهيجلية. ولنبدأ بالفلسفات المعادية للهيجلية فرفضها للتاريخ أمر واضح، فهي فلسفات تنكر فكرة الجوهر والكل والمركز والسببية وأي شكل من أشكال اليقينية أو الثبات، بل تنكر الغائية نفسها، فيصبح العالم في حالة حركة دائمة خالية من المعنى والهدف والغاية، ومن ثم لا يمكن أن تقوم للتاريخ قائمة.

وإذا كان عداء الفلسفات المعادية للهيجلية للتاريخ أمراً واضحاً، فالأمر مختلف بعض الشيء بالنسبة للهيجلية التي تتحدث كثيراً عن التاريخ وحتمياته وقوانينه ومراحله وأنماطه. ولكنها مع هذا، في تصوُّرنا، لا تقل في عدائها للتاريخ عن المدارس المعادية للهيجلية.