المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 [26] 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54

ساجدة لله
2010-10-23, 06:19 AM
وفي المجتمعات التقليدية، ظهرت أحاسيس الخوف من التاجر والمرابي لهذا السبب، فهما يحركان البضائع ورأس المال فيحدث التحول (الربح الوافر) دون إضافة أي شيء. ومن ثم، ارتبطت هذه المهن بالقداسة (بالمعنى الحلولي الواحدي) ثم بالسحر (ومن هنا إحساس أعضاء الجماعة الوظيفية بقداستهم وبمقدراتهم السحرية وبأهميتهم في المجتمعات التي وُظِّفوا فيها). والبغاء المقدَّس في المجتمعات الوثنية البدائية مثل جيد على القداسة الحلولية المادية. فالبغي المقدَّسة، من خلال ممارسة الجنس مع العابدين، كانت توصِّلهم للآلهة، ويصبح مهبل البغي المكان الذي يلتقي فيه المقدَّس بالمدنَّس فيكتسب الإنسان القداسة.

ويختلف نطاق الحلول والكمون ومن ثم نطاق القداسة، فيمكن أن يزداد تركز القداسة بتزايد درجة الحلول وكمون المركز. وقد تتركز القداسة في أحد عناصر الكمون دون غيره وتظهر الثنائية الصلبة. ويمكن أن يتركز المركز في الإنسان وهذا بدوره يأخذ شكلين: حلول في فرد، وحلول في جماعة. وفي حالة الحلولية الفردية، فإن الولي أو الزعيم يصبح هو وحده موضع القداسة أو الوسيط الأوحد بين مصدر القداسة في الكون والعالم المادي، وهو صاحب العرفان (والغنوص)، كلامه من كلام الإله، وسلوكه إلهي، فهو تجسُّد كامل للإله في الأرض. وفي نطاق وحدة الوجود الروحية، نجد أن الماشيَّح هو موضع الحلول، أما في نطاق وحدة الوجود المادية فهو الزعيم المُلهم

صاحب العرفان، كلامه من كلام الإله وسلوكه إلهي، فهو تجسُّد للإله في الأرض. ويتسع نطاق الحلول، ويتركز الحلول الإلهي في شعب فيصبح هو المركز وموضع القداسة، فهو الأنا المقدَّسة (الإمبريالية التي تحُوسل بقية البشر والطبيعة) ويصبح هذا الشعب تجسُّد الإله في الأرض، ولذا فهو شعب مقدَّس وأرضه مقدَّسة وتاريخه مقدَّس (أما بقية العالم فتنسحب منه القداسة تماماً). وفي إطار وحدة الوجود الروحية، تأخذ الحلوليات الوثنية هذا الشكل، واليهودية قبل عصر الأنبياء تتبع نفس النمط. أما في إطار وحدة الوجود المادية، فالقوميات العلمانية (التي تقدس الشعب) هي تعبير عن هذا النمط . ويمكن أن تتركز القداسة في الطبيعة/المادة فتصبح هي المركز المقدَّس الذي على الإنسان أن يذعن له ويظهر هذا في وحدة الوجود الروحية على هيئة العبادة الحلولية للطبيعة وتأليهها وتقديس الأرض، ولا يختلف الأمر كثيراً في وحدة الوجود المادية فالقوميات العلمانية التي تقدس الأرض وحدود الدولة والدولة نفسها هي تعبير عن هذا الشكل من أشكال الحلول. كما أن الحركات البيئية الجديدة التي تقدس "أمنا الطبيعة" هي تعبير عن نفس النمط.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:19 AM
ثم يتسع نطاق القداسة ليشمل الكون بأسره فيحل الإله في الكون (الطبيعة، الإنسان) ويكمن فيه، أي في كل الظواهر الطبيعية والإنسانية وبنفس الدرجة، أي أن كل المخلوقات (الإنسانية والطبيعية) تصبح ممتلئة بالقداسة وبنفس الدرجة ويتجسد المركز من خلالها وبنفس الدرجة. ولذا، يصبح كل شيء مقدَّساً ويتساوى في الدرجة مع الأشياء الأخرى (بمعنى التسوية لا المساواة). وبذا، تصبح كل الأمور متساوية أفقية لا تراتب فيها ولا هرمية، يتساوى المطلق والنسبي، والمقدَّس والمدنَّس، والروحي والمادي، والمركزي والهامشي، والإنساني والطبيعي، أي أن كل الأمور تصبح نسبية مباحة لا قداسة لها، وهذه هي حالة السيولة الشاملة وحالة ما بعد الحداثة والحلولية بدون إله.

ونحن نرى أن البحث عن المقدَّس شيء أساسي بالنسبة للإنسان، إذ يبدو أن الإنسان لا يمكنه أن يواجه عالماً من الصيرورة الكاملة، والحياد الكامل، لا مركز له ولا معنى ولا أسرار فيه، ولذا فهو دائم البحث عن مركز ومعنى، يحاول دائماً أن يستعيد القداسة لعالمه. وهذا يعود إلى أن الإنسان ليس مجرد إنسان طبيعي، مجموعة من العناصر البيولوجية، وإنما يوجد داخله ما يميِّزه عن الطبيعة/المادة. والعلمانية في تصوُّرنا هي محاولة نزع القداسة عن العالم. وما بعد الحداثة تحاول أن تلغي كل الثنائيات ومنها ثنائية المقدَّس والمدنَّس، حتى يصبح العالم عالماً من الصيرورة الكاملة لا هو مقدَّس ولا مدنَّس، ولا هو ثابت ولا متغير، ولا هو أزلي ولا زمني.

يتبع مع
الباب الثانى: الحلولية الكمونية الواحـدية والعلمانية الشاملة

ساجدة لله
2010-10-23, 06:21 AM
الباب الثانى: الحلولية الكمونية الواحـدية والعلمانية الشاملة

الحلولية الكمونية: تعريف
تدور معظم رؤى العالم حول ثلاثة عناصر هي في الواقع عنصران اثنان: الإله من جهة والإنسان والطبيعة (أي العالم) من جهة أخرى. ومذهب الحلول أو الكمون (أو الحلولية الكمونية الواحدية أو وحدة الوجود) هو المذهب القائل بأن الإله والعالم (الإنسان والطبيعة) مُكوَّن من جوهر واحد، ومن ثم فهو عالم متماسك بشكل عضوي مصمت لا تتخلله أية ثغرات ولا يعرف الانقطاع ويتسم بالواحدية الصارمة، ويمكن رد كل الظواهر فيه، مهما بلغ تَنوُّعها وانعدام تجانسها، إلى مبدأ واحد كامن في العالم هو مصدر وحدة الكون وتماسكه ومصدر حياته وحيويته وهو القوة الدافعة له الكامنة فيه، ويمكن تفسير كل شيء من خلاله.

ووحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية قد يختلفان في بعض الأوجه الفرعية إلا أنهما يتفقان في الأساسيات والبنية. فكلاهما يرى أن العالم يتكون من جوهر واحد.

1 ـ وهذا الجوهر الواحد أو المبدأ الواحد يُسمَّى «الإله» أو «الجوهر الإلهي» في منظومات وحدة الوجود الروحية (الحلولية الكمونية الروحية)، ويجري التعبير عن هذا بالقول: "حل الإله في العالم، أي في الطبيعة والإنسان". ويمكن تسمية الجوهر الواحد تسميات شبه روحية شبه مادية، كأن يُقال إن المبدأ الواحد هو «روح الشعب» أو «روح التاريخ» أو «العقل المطلق» وما شابه ذلك من مصطلحات هيجلية روحية اسماً مادية فعلاً. وتذهب وحدة الوجود الروحية إلى أن الإله هو الأصل،والعالم إن هو إلا وهم. وإن كان ثمة عالم فهو جزء من الإله وليس له وجود مستقل (إنكار الكونية).

2 ـ أما في منظومات وحدة الوجود المادية (الحلولية الكمونية المادية)، فهذا المبدأ (أو الجوهر) الواحد يُسمَّى «قانون الحركة» أو «قوانين الطبيعة» أو «الطبيعة/المادة» أو «قوانين الأشياء» أو «القانون الطبيعي» أو «قوانين الضرورة الطبيعية» أو «القوانين العلمية». هذا القانون قانون شامل يمكن تفسير كل الظواهر، ومن بينها الظاهرة الإنسانية، من خلاله. وفي هذه الحالة، يجري التعبير عن وحدة الوجود بالقول "تسري قوانين الحركة المادية على كل الأشياء في الكون"، ويُقال: "استناداً إلى القوانين العلمية، نحن نذهب إلى كذا وكذا". وإذا كان ثمة إله فليس له جوهر مستقل وإنما هو كامن في العالم؛ باطن فيه، محايث له، وليس له وجود مستقل عنه، ولذا فإن العالم مكتف بذاته، يحوي داخله ما يكفي لتفسيره ولا وجود للإله خارجه (تأليه الكون).

ولا تصل المنظومة الحلولية الكمونية الواحدية دائماً إلى مرحلة وحدة الوجود دفعة واحدة، فثمة درجات من تَركُز الحلول والكمون في الكون. ويمكن أن تحدث درجة من الحلول أو الكمون لا تؤدي بالضرورة إلى وحدة الوجود، كما يمكن أن يتم الحلول (أو الكمون) جزئياً في الإنسان لا في الطبيعة، ولكن النموذج الحلولي يصل إلى تحقُّقه الكامل ولحظته النماذجية بالتجسد الكامل للإله في العالم وكمونه فيه، وفقدان الإله تجاوزه وتنزُّهه في مرحلة وحدة الوجود الروحية، ثم بفقدانه اسمه في مرحلة وحدة الوجود المادية، حيث يصبح الإله والعالم (الإنسان والطبيعة) شيئاً واحداً،ويصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ من العالم، ليست له إرادة مستقلة أو وعي مستقل، غير قادر على تجاوز محيطه.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:21 AM
لا يوجد، إذن، أي فارق بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية إلا في التسمية. وكما يقول نوفاليس ليس هناك فرق بين أن تقول "أنا جزء لا يتجزأ من العالم" وأن تقول "العالم جزء لا يتجزأ مني"، ونفس القول ينطبق على وحدة الوجود، فلا يوجد فرق بين أن تقول "إن العالم إن هو إلا جزء لا يتجزأ من الإله" وأن تقول "إن الإله إن هو إلا جزء لا يتجزأ من العالم"، ولا فرق بين أن يقول المرء "لا موجود إلا هو" (أي الإله، بالمعنى الحرفي) أو "لا موجود إلا هي" (أي الطبيعة/المادة).

أشرنا إلى أن ثمة تَماثُلاً بل تَرادُفاً بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية، ولذا فإن أية منظومة حلولية كمونية يمكن أن تصبح روحية ثم مادية في فترتين متتاليتين، أو تصبح روحية اسماً مادية فعلاً في الوقت نفسه، كما هو الحال في المنظومة الهيجيلية حيث يتم التعبير عن الظواهر الروحية بمصطلحات مادية ويتم التعبير عن الظواهر المادية بمصطلحات روحية، أي أنها واحدية روحية/مادية أو مثالية/مادية في آن واحد. وهذا هو المعنى الحقيقي لاتحاد المقدَّس والزمني وعبارات هيجل الأخرى. وعلى المستوى التاريخي يُلاحَظ أن عمليات العلمنة عادةً ما تسبقها مرحلة يسود فيها الفكر الحلولي الكموني الروحي، ثم يصبح فكراً حلولياً كمونياً مادياً، أي علمانياً، في نهاية الأمر.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:21 AM
ولعل أهم أشكال الحلولية الواحدية هي الغنوصية التي نذهب إلى أنها خطاب فلسفي (معرفي أخلاقي) واحدي كموني استمر عبر مئات السنين وتَبدَّى من خلال عدة فلسفات وأنساق معرفية ودينية من أهمها: القبَّالاة اللوريانية، وأفكار غلاة المتصوفة والباطنية، وفلسفة إسبينوزا وهيجل ونيتشه، وأخيراً العلمانية الشاملة المادية الحديثة التي هي فلسفة غنوصية وشكل من أشكال الحلول. وهكذا، فإن الغنوصية كانت وحدة وجود (واحدية) روحية وأصبحت عبر مسار التاريخ وحدة وجود واحدية مادية، إلى أن انتهى بها الأمر إلى السيطرة على العالم بأسره بعد تدويل المنظومة العلمانية من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي. ويمكن القول بأن وحدة الوجود الروحية كانت الشكل الأكثر شيوعاً حتى القرن الثامن عشر، وأن الشكل الآخر (وحدة الوجود المادية، أي العلمانية الشاملة) هو الشكل الغالب الآن.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:22 AM
الحلولية الكمونية بين الثنائية الصلبة والسيولة الشاملة
توجد أشكال مختلفة من الحلولية الكمونية حسب مدى اتساع نطاقها وكيفية تسميتها للمبدأ الواحد ونقطة الحلول والكمون وتأرجُحها بين إنكار الكون وتأليهه ونوعية الاستجابة لوحدة الوجود. ومع هذا يمكن الحديث عن شكلين أساسيين هما: الحلولية الكمونية الصلبة والحلولية الكمونية السائلة الشاملة. وفي إطار الحلولية الكمونية الثنائية الصلبة، يمكن أن يتركز الحلول أو الكمون في الإنسان (الواحدية الذاتية ـ تأليه الإنسان وإنكار الطبيعة)، فيمكن أن يكون فرد بعينه (البطل الذي لا يُقهَر) الذي يصبح بذلك مركز الكـون. ويمكن أن يكون الجنس البشري بأسره (الواحدية الإنسانية). ويمكن أن يتركز الحلول أو الكمـون في جماعة بعينها (الشـعب المقدَّس المختار) تصبح مركز الكون، فتتم التفرقة وبشكل حاد بين من يقع داخل دائرة القداسة وموضع الحلول والكمون ومن يقع خارجها (الواحدية الإمبريالية والعرْقية). ويمكن أن يتركز الحلول والكمون في الطبيعة فيمكن أن يكون موضع الحلول الأرض المقدَّسة أو جبلاً بعينه أو شجرة أو الطبيعة بأسرها (الواحدية الموضوعية المادية ـ تأليه الطبيعة وإنكار الإنسان). وهناك بطبيعة الحال تناقض عميق بين تأليه الإنسان وتأليه الطبيعة، ففي الحالة الأولى يشغل الإنسان مركز الكون أما في الحالة الثانية فهو كائن ليست له أية أهمية خاصة. فالحلولية الكمونية بهذا المعنى تؤدي إلى تأرجح حاد بين إنسانية متطرفة تنكر الكون وطبيعية متطرفة معادية للإنسان وتنكر وجوده. وهذه هي مرحلة الثنائية الصلبة التي تتسم بالهرمية الصارمة.

ولكن الثنائية الصلبة عادةً ما تُمحى لصالح الموضوع والكون فيهيمن الموضوع وتظهر الواحدية الموضوعية المادية التي تنكر الثنائية والتجاوز. ثم يتسع نطاق دائرة الحلول والكمون ليشمل الكون بأسره وتصبح كل الأشياء موضع الحلول ومن ثم تتعدد المراكز ويصبح العالم لا مركز له. وهذه هي الحلولية الكمونية الشاملة السائلة، إذ يتجلَّى المركز من خلال كل الكائنات فيذوب فيها ويختفي وتفقد كل الكائنات حدودها وحيزها، إذ تختفي المساحات بينها ومن ثم هويتها وتَعيُّنها وقيمتها وتذوب في القوة الواحدة التي تسري في الكون وتتخلل ثناياه (القوة الدافعة للمادة، الكامنة فيها) وتعود الأشياء إلى حالة جنينية رحميّة محيطية (تشبه الفطيرة) تُسقط أية ثنائية أو تعددية ولا تعرف تمييزاً بين ما هو أعلى (في قمة الهرم) وما هو أدنى (في قاعدته)، وما هو هامشي وما هو مركزي، وما هو خير وما هو شر؛ نظام دائري مصمت لا تتخلله ثغرات أو مسافات، تشبه نهايته بدايته، وتشبه قمته قاعدته، وتشبه أسبابه نتائجه، وتشبه هوامشه مركزه، ومن ثم تنشأ إشكاليات في النظام المعرفي والأخلاقي، إذ تفقد الأشياء حدودها وهويتها ويَصعُب التمييز بينهما، كما تَصعُب التفرقة بين الخير والشر، وتختفي الإرادة والمقدرة على التجاوز وتسود الواحدية والحتمية.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:22 AM
التوحيد والحلولية الكمونية الواحدية
نرى أن ثمة تضـاداً بين التوحيد والحلولية الكمونية، فالتوحيد هو الإيمان بإله واحد، قادر فاعل عادل، قائم بذاته، واجب الوجود، مُنزَّه عن الطبيعة والتاريخ والإنسان، بائن عن خلقه، مغاير للحوادث، فهو مركز الكون المفارق له الذي يمنحه التماسك. وهو لأنه مفارق للكون يخلق حيزاً إنسانياً وحيزاً طبيعياً الأمر الذي يمنح الإنسـان الاسـتقلال عن سـائر الموجـودات والمقـدرة على الاختيار وعلى تجاوز عالمه المادي وذاته الطبيعية المادية. أما الحلولية الكمونية، كما أسلفنا، فهي الإيمان بإله حال كامن في الطبيعة والإنسان والتاريخ، أي أن مركز الكون كامن فيه، وهو بحلوله هذا يلغي أي حيز، إنسانياً كان أم طبيعياً، ومن ثم فإن التوحيد هو عكس الحلولية الكمونية. كما أن تصاعد معدلات الحلولية الكمونية يعني تزايد محاولة تفسير الكون في إطار القوانين الكامنة فيه دون الإهابة بأية قوانين خارجة عنه متجاوزة له، ويُحسَم الصراع لصالح التمركز حول الموضوع وتأليه الكون.

مفردات الحلولية الكمونية الواحدية
تحل المنظومة الحلولية الكمونية مشكلة التواصل بين الخالق والمخلوق (وعلاقة الكل بالجزء) عن طريق التجسد والكمون، إذ أن الإله (حسب هذه المنظومة) كي يتواصل مع المخلوق، يفقد تجاوزه ويتجسد ويكمن (ويحل) في أحد مخلوقاته أو في بعضها أو فيها كلها، فيتحد بالكون، وبذا يستطيع الإنسان إدراكه بشكل مباشر، إما من خلال حواسه الخمس أو من خلال عملية عرفان إشراقية تتم من خلال الصلة المباشرة بين الإنسان ومصدر العرفان، ولذا فإن الكل يصبح هو الجزء ويصبح الجزء هو الكل ويصبح مركز الكون كامناً فيه. ويقف هذا على طرف النقيض من المنظومة التوحيدية حيث يتواصل الخالق مع المخلوق من خلال العقل والوحي، ويظل مركز الكون هو الإله العلي المتجاوز للكـون. ومن هـنا، يمكن القول بأن المنظومة الحلولية الكمونية منظومة مغلقة دائرية، ملتفة حول نفسها، نصفها بأنها منظومة عضوية. ودائرية المنظومة الحلولية الكمونية وانغلاقها والتفافها حول نفسها تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان، أي رغبته في الانسحاب من عالم الهوية والخصوصية والتركيب والحدود والإرادة الحرة إلى الكل الكوني الطبيعي المادي والذوبان فيه باعتباره القوة الدافعة للمادة، الكامنة فيها، والذي يقضي على كل الثنائيات بحيث يتوحد الخالق والمخلوق وتلتصق الذات بالموضوع والإنسان بالطبيعة، وبحيث يُختزَل كل شيء إلى مستوى بسيط أملس، أي أن الإنسان يعود إلى الرحم الدافئ الرخو (حالة كمونية محيطية سائلة) حيث لا حدود ولا وعي ولا هوية ولا اختيارات، أو يعود إلى اللحظات الأولى بعد الولادة، حين كان الطفل الإنساني يظن أنه جزء من أمه لا ينفصل عنها، وحين كان يمسك بثديها ويظن أنه قد تواصل مع العالم بأسره وتَحكَّم فيه!

والنزعة الكمونية الجنينية تعبِّر عن نفسها من خلال مفردات الحلولية الكمونية الواحدية الإدراكية الأساسية وأهمها الجسد (وبخاصة الجنس والرحم وثدي الأم والأرض). فالجسد أكثر الأشياء مباشرةً لدى الإنسان؛ إدراكه عملية سهلة لا تتطلب إعمال الفكر، والعلاقة بين أجزائه واضحة، والمسافة بين المدرك والمدرَك في حالة الجسد غير موجودة، والعلاقة بين السبب والنتيجة والدافع والمؤثر واضحة تمام الوضوح للإنسان. وعلاوة على هذا، فإن الجسد أول شيء يشعر به الإنسان، فالطفل يدرك في البداية جسده ثم جسد أمه، ويعرف تضاريس جسده ثم تضاريس جسد أمه الذي يتركز في الثدي مصدر حياته واستمراره ولذته.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:22 AM
ويبدو أن الإنسان، في بداية بزوغ وعيه، أدرك عمليات أخرى مرتبطة بجسده، رسَّخت عنده إدراك العالم من خلال الجسد المادي:

1 ـ عملية الولادة وخروج الطفل من الرحم، إذ رأى الإنسان الجسد وهو يتولد من جسد آخر، فظن أن الجسد مصدر الحياة.

2 ـ في اللحظات والأيام والشهور الأولى من حياته، يستمد الإنسان حياته من خلال التواصل الجسدي المباشر بثدي أمه ويتصور أنه جزء منها.

3 ـ في تواصله مع الآخر (الأنثى)، كان أول أشكال الاتصال (وأسهلها وأكثرها بساطة) الجماع الجنسي: دخول الذكر في فرج الأنثى، بكل ما يحمله ذلك من تواصل جسدي مباشر. كما أن الجنس كان يمنحه لحظات فردوسية يفقد فيها إحساسه بالحدود والهوية والإرادة ويمارس إحساساً بالخلود ويلتحم بالكون.

4 ـ وحينما ربط الإنسان بين العملية الجنسية والولادة (الحياة) وبين الرضاعة (استمرار الحياة)، اكتملت عنده مفردات الحلولية الكمونية الواحدية التي تؤكد الجسد باعتباره مصدراً للمعرفة والعلم والتكامل والتماسك. فالجسد هو الذي يحل محل فكرة الكل، ولذا فإن من الأفكار الأساسية في المنظومات الحلولية الكمونية فكرة تفاعل الماكروكوزم والميكروكوزم، أي تقابل العالم الكبير (الكون) بالعالم الصغير (جسد الإنسان) وتعادلهما (فالأول صورة مكبرة من الآخر). كما تؤكد مفردات الحلولية الجنس باعتباره مصدراً للحياة وطريقة للتواصل بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والقوى الكونية (مانحة الحياة). ولذا، فإنه ربط بين كل هذا وبين مفهوم الأرض، هذا الشيء الموضوعي الموجود خارجه. ولكنه، مع هذا، يحيطه من كل جانب (مثل الرحم) ويمنحه الحياة (مثل الثدي).

ساجدة لله
2010-10-23, 06:22 AM
إن كل المفردات التي أشرنا إليها كامنة في تجارب الإنسان المباشرة الأولية للإنسان. كما أن استخدام الإنسان للجسد (والجنس والرحم وثدي الأم والأرض) كصورة مجازية إدراكية (تفيد معنى محو المسافة بين الذات وما هو أكبر منها وذوبانها فيه) هو أمر متوقع، بمعنى أن الإنسان في بدايته الجنينية وفي طفولته الأولى كان جزءاً من الطبيعـة. ومن هنا، فإن جـوانبه الطبيعية/المـادية تظل معه عبر حياته مهما بلغ من ربانية وتَجاوُز. ولهذا، فإن إدراك الإنسان للعالم من خلال المقولات المادية الجسدية اللصيقة بتجاربه المادية المباشرة الأولى، دون تجريد أو تجاوز ودون اجتهاد أو إجهاد، أمر طبيعي. فمن منا لا يدرك جسده ولا يعرفه؟ ومن منا لا يعرف الجوع والعطش والفرح والحزن الجسدي؟ ومن منا لا يعرف الأرض والجنس والرحم والرضاعة واللحظات الفردوسية الأولى؟ لكن أن نستخدم المقولات الأولية في تفسير الجوانب المادية البسيطة من حياتنا الإنسانية المركبة شيء، وأن نستخدمها في تفسير كل جوانب حياتنا الإنسانية شيء آخر. والمحاولة التفسيرية الحلولية الكمونية (بمفرداتها الجنينية الجسدية) تتسم ببدائيتها وسذاجتها وبالارتباط المتطرف بين النموذج والظاهرة إذ لا تكاد توجد أية مسافة بين النموذج والظاهرة وبين السبب والنتيجة وبين الدال والمدلول. وهي محاولة تستخدم المادة البسيطة لفهم ما ليس بمادة، فكل مفردات الحلولية الكمونية هي أشياء مادية لها صفات المادة، فهي مقولات إدراكية مادية، وهي تمثل محاولة المتناهي (المادي) القفز على التناهي وصولاً إلى حالة اللامتناهي، ولكنه يصر على العثور على اللامتناهي في المحسـوس والمتنـاهي، أي أنهـا تفترض كمون مركز العالم في المادة. ومن ثم، فهي محاولة تفسيرية مستحيلة تؤدي إلى اختزال الإنسان المركب (الرباني) القادر على التجاوز الذي يعيش في الثنائيات ويحوي داخله درجة من التركيب لا يمكن ردها إلى النظام الطبيعي (أي القبس الإلهي) بحيث يصير إنساناً طبيعياً مادياً ذا بُعد واحد لا يمكنه تجاوز ذاته أو تجاوز الطبيعة أو المرجعية الكمونية فيسقط في حمأة المادة ويعود إلى السيولة الرحمية والطبيعة/المادة.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:23 AM
وقد عبَّرت الحلولية الكمونية عن نفسها بشكل مباشر وواضح في الرؤى الوثنية للكون وقصة الخلق، فهذه الرؤى عادةً ما تستبعد فكرة خلق العالم من عدم (والتي تفترض وجود مسافة بين الخالق والمخلوق)، كما تستبعد فكرة الخلق المحدد في زمان ومكان بمشيئة إلهية ولغرض إلهي، وتستبدل بها نظريات تذهب إلى أن العالم نتيجة التقاء جنسي بين الآلهة (التي تمثل عناصر الطبيعة المادية) فتتزوج آلهة الأرض من آلهة السماء أو آلهة الشمـس من عنصـر في الأرض، أي أن الخـلق ليـس نتيجـة عملية تتم خارج المادة والطبيعة أو لغرض إلهي أخلاقي. وتكتسب الآلهة خصائص البشر (إذ لا توجد مسافة بينها وبينهم) فتحابي شعبها وتغار عليه، وقد تدخل معه علاقة جنسية أو شبه جنسية أو علاقة حب جنسي يعقبها زواج مقدَّس، أو تقيم علاقة تعاقدية خاصة جداً تُميِّز هذا الشعب عن بقية الشعوب وتمنحه مركزية في الكون (بل يُلاحَظ أن عبادة القضيب أو الرحم أو إلهة الخصب التي ترمز للرحم تنتشر في الحلوليات الكمونية الأكثر بدائية، فالقضيب يصبح هنا الدال والمدلول وأيقونة الحلولية الكبرى. كما أن الاحتفالات والشعائر الدينية الحلولية تأخذ عادةً طابعاً جنسياً، وفي عبادات المايا كان الطقس الأساسي هو أن يقوم الملك باستقطار بعض نقط الدم من قضيبه، وأثناء هذه العملية كان يرى الآلهة ويعرف إرادتها). هذا على عكس العبادات التوحيدية حيث يحتل الجنس مكانته كنشاط إنساني ضمن نشاطات إنسانية أخرى، مختلطاً بها وليس منفصلاً أو مستقلاً عنها، ومن ثم يكتسب الجنس مضموناً اجتماعياً مركباً، وبالتالي فهو لا يحتل أية مركزية ولا يصبح صورة مجازية إدراكية كبرى. وإذا كانت المنظومات الحلولية الكمونية ترى أن الإنسان يحقق ذاته من خلال إلغاء حدود كل شيء، فإن كثيراً من الحركات المشيحانية والباطنية تُلغي حدود الملكية الخاصة والجنس. ومن ثم، تظهر شيوعية الأرض والنساء (الرحم الطبيعي والرحم الإنساني)، الأمر الذي يُلغي أي تمايز أو هرمية وأية هويات إنسانية محددة. أما المنظومات التوحيدية فتؤكد فكرة الحدود، ومن ثم تؤكد فكرة العدل في توزيع الملكية وإدارتها دون إلغائها، وتؤكد فكرة الزواج والأسرة كمؤسسات مبنية على الاستقرار والطمأنينة والحب